لطالما كانت البحوث عن الأطعمة الإيرانية، تدور حول علوم التغذية والنظام الغذائي، ونادراً ما تتم دراسة الأبعاد الثقافية والأنثروبولوجية والتاريخية والاجتماعية للطعام الإيراني. نحاول هنا أن ندرس أحد أقدم الأطباق الإيرانية وأكثرها أصالةً، هو "آبْكوشت" (بالفارسية: آبگوشت. آب: الماء، وكوشْت: اللحم، ما يعني: مرقة اللحم). ويأتي هذا البحث وفق التراث الشفهي والمكتوب في سياق الثقافة والتاريخ.
يُعرف هذا الطبق في المطبخ الإيراني، منذ نحو ستمئة عام، كأحد الأطباق الرئيسية في هذا البلد، لكن ما نعرفه اليوم بالآبكوشت قد لا يكون بالضبط ما تم طبخه وتناوله في العصور القديمة، لأن هذا الطعام، مع مرور الوقت، شهد تغيرات وتحولات معينةً وكثيرةً، في الشكل والمضمون.
من العوامل التي تسببت في تحول أو تطور هذا الطعام، هو دخول المنتجات الغذائية، خاصةً الخضروات غير الإيرانية مثل البطاطا والطماطم. وبالإضافة إلى ذلك، استخدام وصفات الطبخ الفرنسية التي تُرجمت إلى الفارسية، والهجرات الداخلية من القرى إلى المدن، وأمور أخرى كثيرة، حيث جعلت هذه العوامل كلُّها طبق الآبكوشت يتحول تدريجياً إلى أكلة شوارع سريعة، في حين تبقى أنواعه المتنوعة والمحلية محفوظةً في المطبخ الإيراني على شكل الطعام المنزلي المفضل لدى الناس.
الآبكوشت في الكافتيريا!
يمكن العثور على مدخل باسم "الآبكوشت"، في جميع الموسوعات المكتوبة عن المطبخ الإيراني وأطعمته، ولكنه يفضي إلى العديد من الأطعمة الأخرى، مثل "مرقة القيمه" و"مرقة القورمه" و"الكباب" وجميع أنواع "الآش" (الحساء الإيراني)، التي قد تُعدّ منافسةً للآبكوشت منذ فترة طويلة، بينما لم تكن هذه الأطباق أقل شعبيةً من الآبكوشت، وربما لها المكانة نفسها التي يتمتع بها، بل إنها أكثر شيوعاً، ولكن المثير للاهتمام هو أنه عندما يتعلق الأمر بقائمة المطاعم، فإن القصة تكون عكس ذلك تماماً، إذ لا يقدَّم الآبكوشت في معظم المطاعم في إيران.
ما نعرفه اليوم بالـ"آبْكوشت" قد لا يكون بالضبط ما تم طبخه وتناوله في العصور القديمة، لأن هذا الطعام، مع مرور الوقت، شهد تغيرات وتحولات معينةً وكثيرةً، في الشكل والمضمون
وبرغم أن هذه المسألة قد تبدو عاديةً بالنسبة للإيرانيين، إلا أنها غريبة بالنسبة للسياح الذين صادفوا اسم هذا الطبق في دليل سفرهم، ولا بد من الاعتراف بأنه ليس من السهل على الشعب الإيراني تفسير سبب ذلك، لكنهم غالباً ما يرشدون السياح إلى المقاهي أو المطاعم التقليدية لتناول هذه الأكلة، بينما تناولها في مكان يُعرّفه السياح باسم "الكافتيريا" أمر مثير للاهتمام وغريب في الوقت نفسه.
من الواضح أن ما أبقى سوق هذه الأطعمة القديمة مزدهرةً حتى اليوم، هو توافرها في هذه المقاهي البسيطة، فإذا لم يكن طبخ المرقة هذه وتقديمها شائعاً في المقاهي، كما كان شائعاً في أواخر الفترة القاجارية (1779-1925م) في إيران ومنتصف الفترة البهلوية (1925-1979)، فقد اختفت تماماً حتى اليوم. لكن في الماضي كانت هذه المقاهي بمثابة مشكلة لأصحاب المقاهي الأخرى، وكانت مقاهي طهران القديمة التي كانوا يقدّمون فيها الآبكوشت تُسمّى "مدمرات المقاهي"، لأن المقهى في معناه الصفوي والقاجاري لم يكن مجرد مكان لشرب الشاي أو القهوة، بل كان مساحةً ثقافيةً يجتمع فيها الناس للنقاش وللاستماع إلى القصص والمحاضرات الدينية.
كيفية تقديم الآبْكوشْت وأكله
كان الآبكوشت يُطهى قديماً في القِدر، لأربعة أشخاص، بحيث إذا جاء، على سبيل المثال، ثلاثة عملاء لتناول المرق، عليهم انتظار الشخص الرابع، ولا يقوم الطاهي بإحضار الوجبة حتى وصول الشخص الرابع. في وقت لاحق، ومن أجل النظافة والصحة واستحالة التوزيع العادل للطعام، حلّت الأوعية المخصصة لشخص واحد محل القدور تلك، وتطور هذا الأمر إلى درجة أن المكونات كانت تُقسم بعناية شديدة قبل الطبخ، بحيث كانت تحسب عدد حبات الفاصولياء في كل وعاء.
وحول هذا الموضوع، ذكر جعفر شهري في كتابه "طهران القديمة"، في أواخر الفترة القاجارية، عن الأكل الجماعي بالقدور في مقاهي طهران القديمة، حيث يشير إلى أن في أواخر فترة القاجار وأوائل الفترة البهلوية، ظهر تعميم الأطباق الفردية، وذلك بالتزامن مع زيادة مستوى الرفاهية العامة للمجتمع الإيراني بعد إصلاحات الأراضي وزيادة الدخل، في النصف الثاني من الحكم البهلوي، أي فترة حكم محمد رضا شاه البهلوي (1941-1979).
على أي حال، يمكن القول إن الآبكوشت هو الطعام الوحيد الذي مرّ بعملية طبيعية ليصبح من الوجبات السريعة الإيرانية في هذا البلد، على عكس جميع أنواع البرغر والسندويشات والبيتزا التي مرت بهذه العملية خارج إيران. ومع ذلك، لا يزال هناك فرق كبير بين آبكوشت المقاهي الذي يتم تقديمه في الأسواق والمقاهي نفسها، مع الآبكوشت المنزلي الذي يجب طهيه على الموقد طوال الليل حتى الصباح.
تجدر الإشارة إلى أن ما يُسمّى اليوم بالآبكوشت، والذي يُطهى في المطاعم والمقاهي التقليدية، يشمل الماء واللحم والحمص إلى جانب البطاطا والطماطم، ولكن في أجزاء أخرى كثيرة من إيران توجد أنواع أخرى من هذه المرقة، حيث يضاف إليها في كل منطقة شيء مختصّ بها، مثل: الكشك أو الفاصوليا أو الفول أو الخضروات، وأشياء مختلفة أخرى.
دخول الخضروات والفواكه الغربية إلى إيران وتأثيرها على الأكلات
البطاطا والطماطم، اللذان يُعدّان اليوم مكوّنين أساسيين لطبخ الآبكوشت في إيران، هما منتجان دخلا إيران في عهد القاجار، ولم يكونا معروفين في هذا البلد قبل ذلك. البطاطا، وهي منتج أمريكي المنشأ، تم استيرادها لأول مرة إلى إيران على يد سفير شركة الهند الشرقية البريطانية في طهران السير جون مالكوم، وذلك في عهد الملِك فتحْ علي شاه القاجاري، حيث انتشر استخدامها في جميع أنواع الأطعمة خلال فترة حكم هذا الملك. لكن لم تُهيمن البطاطا على المطبخ الإيراني حتى عصر ناصر الدين شاه القاجاري، الذي زامن فترة الحرب العالمية الثانية، إذ بسبب نقص القمح والدقيق خلال فترة الحرب، خاصةً في طهران، اضطر الناس إلى استبدال الأرز والخبز بالبطاطا.
وبحسب تقارير الكاتب والسياسي المهم في عصر ناصر الدين شاه، اعتماد السلطانة، فإن الطماطم دخلت إيران في العهد القاجاري أيضاً، لكنها لم تتمكن من اكتساب شعبية كبيرة بين الإيرانيين/ ات بسهولة، ونظراً إلى ذلك لم يكن الإيرانيون مهتمين بالطماطم واستغرق انتشارها وقتاً طويلاً. ما هو واضح هو أنه قبل وصول هذين المنتجين إلى إيران، كان الآبكوشت يتكون من الماء واللحوم والبازلاء فحسب.
كانت مقاهي طهران القديمة التي كانوا يقدّمون فيها الآبكوشت تُسمّى "مدمرات المقاهي"، لأن المقهى في معناه الصفوي والقاجاري لم يكن مجرد مكان لشرب الشاي أو القهوة، بل كان مساحةً ثقافيةً يجتمع فيها الناس
إن وضع البطاطا والطماطم بجانب المكونات الرئيسية لهذا الطبق، منذ منتصف فترة القاجار، كانت دائماً جزءاً من المرق، كما لو أن المجموعات والثقافات العرقية الإيرانية وغير الإيرانية تشابكت ودخلت في علاقات وطيدة من خلال هذا المرق، حيث يظهر من ذلك المرونة والقدرة على قبول العادات والثقافات المختلفة بين الإيرانيين/ات، كما أن إدخال البطاطا إلى هذه الوجبة، جعل هذا الطبق أكثر شهرةً لأن استخدام البطاطا يعني استخدام عدد أقل من البازلاء، وكثافةً أكثر للّحم المفروم بعد دمجه مع البطاطا، ونتيجةً لذلك أصبح الطبق أثقل وأكثر حشواً.
الآبكوشت في النصوص القديمة
ولا بد من القول إنه لم يكن هناك طعام أشهر من الآبكوشت في المطبخ الإيراني العريق، إذ إن هذا الطعام هو الوحيد الذي يظهر في النصوص القديمة المتعلقة بإيران والطبخ الإيراني، ومن أقدم هذه النصوص، التي ورد فيها اسم هذا الطبق بشكل واضح، هو عمل يرجع تاريخه إلى أوائل القرن التاسع الهجري في العصر التيموري في إيران، ويُسمّى هذا العمل بـ"ديوان الأطعمة" (بالفارسية: ديوان اطعمه)، وكتبه الشاعر الإيراني أبو إسحاق جمال الدين أحمد الشيرازي.
بعد ذلك، وفي العصر الصفوي، كتب الحاج محمد علي باورجي البغدادي، كتاب "سجلّ عن الطبخ وصناعته"، وألّف الطبّاخ الأول للشاه، عباس نور الله، كتاب "مادة الحياة، رسالة الطبخ"، وفي العهد القاجاري كتب نادر ميرزا قاجار، كتاب "الأطباق الإيرانية"، وفي العديد من الأعمال الأخرى، ذُكرت هذه الوجبة وكيفية تحضيرها.
يُعدّ تنوّع هذه الأكلة على المستويين الوطني والمحلي، ووجودها في نصوص الطبخ الإيرانية القديمة والجديدة، وشقّ طريقها إلى المقاهي، والعادات المتعلقة بتناولها، والأطباق والأدوات الخاصة لطبخها وتحضيرها، وإدخال الخضروات الغربية فيها، ومنافستها مع نظيراته الأجنبية، من الميزات التي تجعل من هذا الطبق طبقاً فريداً من نوعه في الثقافة الإيرانية، حيث أنه مرّ بالعديد من التغييرات والتطورات، التي يمكن الإشارة إليها على أنها نقاط تحول في تاريخ الطبخ الإيراني والثقافة الغذائية لإيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 10 ساعاتHi
Apple User -
منذ 10 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا