شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"رجالية" وترمز إلى التملق… أكلة تقليدية وساحرة يسمّيها الإيرانيون "كَلِّه باجِه"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 17 أبريل 202308:05 م

عندما كنت طفلاً، قبل نحو 40 عاماً، اعتاد والداي دعوة أصدقائهما إلى منزلنا لتناول الإفطار، وفي بعض الأحيان كان يصل عددنا إلى 20 شخصاً، وكنا نجلس حول الطاولة المستطيلة لنأكل الوجبة التي طهاها والدي بحُبّ، ونحن نتلهف إلى مذاقها اللذيذ ونكهتها التي تملأ جنبات المكان، برغم صعوبة تحضيرها ونتانة رائحتها عند الطهي. لم تكن هذه الوجبة الساحرة سوى رأس الخروف ويديه وقدميه، ويسمّيها الإيرانيون "كَلِّه باجِه" (الكوارع).


بعد بضع سنوات، ساءت صحة والدي، وتعرّض لنوبة قلبية خطرة، نوبة لم تكن بمعزل عن تبعات التناول المفرط لتلك الأكلة الدسمة التي سرعان ما منعه الطبيب عن تناولها بغية الحفاظ على صحته، وكان لا بد له من الاستغناء عنها. لكن مع ذلك، وبين الحين والآخر، وبعيداً عن عيون والدتي التي لطالما كانت تهتم بصحته، كان يذهب إلى مطاعم "الكلة باجه"، ويتناولها. هذه القصة ترتبط بالكثير من الإيرانيين من هواة تلك الأكلة الشعبية، ولا تقتصر على والدي.

ما هي "الكلة باجه"؟

هي إحدى الأكلات الشعبية التقليدية الشائعة في الشرق الأوسط وجنوب القوقاز والنرويج. أما طريقة طهيها، فهي متشابهة إلى حد ما في بلدان مختلفة، لا سيما في إيران وتركيا. وفي بعض البلدان العربية أيضاً يُطلق عليها "الباجه"، وهي مفردة ذات أصول فارسية. أما في جنوب القوقاز (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا)، فتُسمّى "خاش"، وفي النرویج تُسمّى "أسمالاهووه"، وتحظى بشعبية خاصة في ليلة عيد الميلاد، وفقاً لعادات النرويجيين وتقاليدهم، حيث من المحبّب تناول الأذنين والعينين في بادئ الأمر.

تعتبر أكلة "رجالية" بامتياز، ونادراً ما تدخل سيدة وحدها إلى مطابخ الباجة وتطلبها. وحتى المطابخ عادة ما يديرها الرجال. ولكن مع تلاشي المعتقدات التقليدية ورفاهية الطهي، أصبحت كثير من النساء اليوم مهتمات بهذا الطعام لتناولها في تلك المطابخ

واعتاد الإيرانيون على أكل حساء الباجه على شكل ثريد، مع خبز "السَنْكَك" الشعبي كفاتح للشهية، ويضاف إليهما عصير البرتقال والليمون، والمخللات مثل الثوم المخلل. وتشمل مكونات الأكلة رأس الخروف، ولحم الوجه، واللسان والعينين، والمخ، بالإضافة إلى قدميه.

يطلَق على المطاعم الخاصة بأكلة الباجه، "طباخي"، أي المطابخ، حيث تُطبخ رؤوس الأغنام وأرجلها وتُطهى بصورة بطيئة وتدريجية حتى اليوم التالي، وخلال هذا الوقت تُقلَّب تلك الأكلة باستمرار لكيلا يحترق أحد الجانبين. ووحدة عدّ أكلة الباجه في اللغة الفارسية، هي كلمة "دَست"، فمن دخل "الطباخي" مع مجموعة من رفاقه في عز الشتاء، وقال: "دست باجه"، يكون قد طلب الأكلة بحذافيرها (أي رأس الخروف ورجليه ويديه). كما تقدّم المطابخ جزءاً من الباجة على حدة أيضاً، فهناك من يطلب اللسان فقط، أو المخ، أو المعدة (الكرشة)، أو لحم الوجه أو "الكراعَين".

آداب الباجه

كانت الباجه في الماضي، إحدى أهم الأكلات التقليدية الشعبية للإيرانيين، وكانت لها طقوس وآداب خاصة لتناولها، لا تزال موجودةً إلى حد ما، ومنها أنه حين يدخل شخص إلى مطابخ الباجه، سرعان ما يأتي أحد عمال المطعم ويقود الزبون بلطف إلى طاولة الطعام، ويرحّب به ومن ثم يحضر له وعاءً من الحساء المغلي ووعاءً من دهون مخ الخروف، ثم يسأل الطباخ أو العامل الزبون عن الأجزاء التي يفضّل تناولها.

وهناك جرس فوق طاولة عليها وعاء الباجه في مدخل المطعم، يقف خلفه الطاهي، وهو عادةً رجل سمين بشاربين طويلين، عند دخول شخصية مهمة في الحي أو المدينة، يقرع الجرس ترحيباً به، ويلفت الأنظار إليه. وتُقدَّم يدا الخروف لمن هم من زبائن المحل الدائمين، وذلك لطعمهما اللذيذ، وتقدَّم الرجلان لبقية الزبائن.

لم تكن تلك الأكلة الشعبية تتعلق بفئة خاصة، فالجميع يتناولونها لكن بفوارق بسيطة، فإذا كان الزبون غنياً يطلب المخ أو اللسان أو لحم الوجه، وإذا كان فقيراً يكتفي بطلب شوربة الباجة ويستغني عن اللحوم.

كما أنها أكلة "رجالية" بامتياز، ونادراً ما تدخل سيدة وحدها إلى مطابخ الباجه وتطلبها. وحتى المطابخ يديرها الرجال فحسب. لكن مع تلاشي المعتقدات التقليدية ورفاهية الطهي، تذهب اليوم نساء كثيرات مهتمات بهذا الطعام لتناولها في تلك المطابخ.

دخلت الباجه المعلبة حديثاً إلى المتاجر الإيرانية، ويجلبها الإيرانيون معهم عند زيارة أقاربهم خارج البلاد، كما فتح الإيرانيون مطابخ الباجه في كل من لوس أنجلوس وولايات أخرى في أمريكا وأوروبا.

حكم الباجه

تُعدّ الأكلة طعاماً شهياً في الثقافة الإيرانية التقليدية بامتياز، ولديها العديد من المتلهفين إلى مذاقها، كما يمكن العثور عليها أيضاً في الأدب الإيراني والثقافة العامة الإيرانية، وعلى سبيل المثال؛ يَروُون في بعض الروايات المتعلقة بتلك الأكلة، أنه ذات يوم وُضعت مأدبة طعام من الباجه أمام أحد السلاطين، فقال: "في هذا الرأس ثمة تعليمات وحكم". ثم أخذ قطعة خبز وبدأ بأكل مخّ الخروف، ثم قال: "إذا كنت تريد حكومةً أبديةً فحاول إفراغ المجتمع من عقله".

وبعد ذلك تناول اللسان، وقال: "إذا كنت تريد أن تحكم الشعب، أسكِت المجتمع"، ثم تناول عينَي الرأس وأذنيه، وقال: "من أجل السيطرة على الشعب يجب الاستحواذ على سمعه وبصره، فلا تدعه يرى كثيراً ويسمع الكثير".

فردّ الوزير: "كلامك يا سيدي، كان حكيماً جداً ولكن نحن جياع فهل نأكل؟"، حينها قال الملك: "أنت تناول الكُراعَين، ومُرّ بالتملق كي تستمر حكومتنا".

يدلّ مصطلح "پاچه خواري"، أي أكل الأكارع، بالثقافة العامة الفارسية، على التملق، وتُعدّ إهانةً لمن يصفونه بها.

وقد عثر الوفد الأثري الإيراني الإيطالي سنة 2013، على أوانٍ فخارية فيها بقايا أكلة "الكوارع" في مقبرة أثرية تعود إلى ما بين 3700 إلى 4200 سنة خلت، في شمال البلاد. ووفقاً لرأي خبراء الآثار، فإن هذه الأواني التي وُضعت بجوار كل جثة، ضمّت أكلة الباجه، وعلى الأرجح أنها كانت أكلتهم المفضلة لذا وُضعت بجانبهم بغية تناولها في حياتهم الأخرى بحسب اعتقادهم.

الشاعر الحداثي والفطن، أحمد شاملو (1925-2000)، قال عن الباجه: "إنه عالم غریب. یباع اللسان في المطابخ أغلى من مخ الخروف؛ أجل! إنه كما في المجتمع؛ أصحاب الألسنة الناعمة (المتملقون)، هم أعلى مرتبةً من الحكماء"

كما يعتقد بعض المتديّنين الشيعة في شهر رمضان، أنهم يجب أن يتناولوا أكلة الباجه مع الكثير من الثوم والبصل في الـ27 من رمضان، حتى تفوح رائحة الثوم والبصل من أفواههم، كي يلعنوا ويسبّوا بها عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل الإمام علي بن أبي طالب، ويطلَق على ذلك "مُراد كِشون"، ويعني قتل ابن ملجم.

أما الشاعر الحداثي والفطن، أحمد شاملو (1925-2000)، فقال عن الباجه: "إنه عالم غریب. یباع اللسان في المطابخ أغلى من مخ الخروف، نعم هو كما في المجتمع، فأصحاب الألسنة الناعمة (المتملقون)، هم أعلى مرتبةً من الحكماء".

12 ألف رأس خروف يومياً

أصبحت إيران في السنوات الأخيرة، ومع مرور الوقت ودخول العصرنة، أكثر حداثةً وتطوراً من ذي قبل، لكن هذا لا يعني أن تتخلى عن وجبتها الشعبية، إذ ثمة في العاصمة طهران وحدها 600 محل لطبخ الباجه، تبيع 12 ألف رأس خروف يومياً، و48 ألف كُراع.

ومع التضخم الاقتصادي الذي تشهده البلاد، أمست تلك الأكلة محصورةً في الطبقة الوسطى من المجتمع الإيراني، إذ يعادل سعر كل وجبة منها، عشرة في المئة من راتب العامل، الأمر الذي جعل المواطن الإيراني يكتفي بالنظر إليها، وهي معروضة في المطابخ، ويُقنع نفسه بأضرارها التي تحتوي على مادة الكولسترول والدهون الزائدة، ثم يذهب لتناول وجبة صحية ورخيصة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image