ناقشت ورقة بحثية أمريكية، مستقبل الاقتصاد المصري وإمكانية حدوث تعويم جديد للجنيه في المستقبل القريب، مع تكرار الدورات الاقتصادية التي شهدتها البلاد من نقص في الدولار وتدهور قيمة الجنيه، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وإثقال كاهل المواطنين.
الدراسة التي أشار إليها الباحث علاء بيومي في حلقة على قناته على يوتيوب، حول كيف أنقذت حرب غزة الاقتصاد المصري، توضح أن الأزمة الاقتصادية الحالية ليست جديدة، بل تمتد جذورها لعقود طويلة منذ عام 1952، حين كان الجنيه المصري يساوي ثلاثة دولارات. منذ ذلك الحين، شهد الجنيه تراجعاً مستمراً حتى وصل إلى حوالي 50 جنيهاً مقابل الدولار حالياً. هذه الدورة المتكررة لتعويم الجنيه مرتبطة بعدم قيام الحكومة المصرية بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
النخب وحدها هي التي تستفيد من الوضع القائم، حيث يتمحور الاقتصاد المصري حول خدمة مصالح هذه النخب التي ترفض إجراء إصلاحات حقيقية لأنها تهدّد مصالحها. الإصلاحات المطلوبة تشمل، الشفافية، مكافحة الفساد، المنافسة النزيهة وإصلاح المؤسسات الاقتصادية. لكن تلك الإصلاحات تصطدم بمصالح النخب التي تواصل الاستفادة من الاقتصاد الموجّه لخدمتها، وتستغل "الريع الاستراتيجي" للابتزاز السياسي الدولي، مشيرة إلى أنه في حال انهيار مصر ستنهار المنطقة معها.
تُظهر الدراسة أن الدعم الخارجي الذي تتلقاه مصر، سواء من الدول الخليجية أو الولايات المتحدة، يعود تاريخه إلى السبعينيات. كلّما واجهت مصر أزمة اقتصادية، تلجأ إلى طلب مساعدات مالية، ما يقود في النهاية إلى تخفيض قيمة الجنيه وإفقار المزيد من المواطنين.
كما أن الحوافز الاستثمارية تُوزع بشكل غير متوازن وغير مستدام، وهذا يعمل على إضعاف الاقتصاد، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل مستمر، الأزمات الاقتصادية المتكرّرة تدفع المزيد من المصريين تحت خط الفقر.
وتعتبر الدراسة أن المشكلات الاقتصادية في مصر معروفة وحلولها معروفة أيضاً، ولكن تنفيذ هذه الحلول يتطلب تضحيات من النخب الاقتصادية، وهو ما لا يبدو ممكناً في ظل الوضع الراهن.
الدعم الخارجي الذي تتلقاه مصر، سواء من الدول الخليجية أو الولايات المتحدة، يعود تاريخه إلى السبعينيات. كلّما واجهت مصر أزمة اقتصادية، تلجأ إلى طلب مساعدات مالية، ما يقود في النهاية إلى تخفيض قيمة الجنيه وإفقار المزيد من المواطنين
دورات التعويم المستمرة وغياب الإصلاحات الاقتصادية
لجأت مصر إلى صندوق النقد الدولي 11 مرة خلال الخمسين عاماً الماضية، بينما أدّى تدخّل الجهات السيادية في الاقتصاد إلى نفور المستثمرين في القطاع الخاص. وللأسف، يعاني المواطنون المصريون العاديون من مزيج كارثي يشمل، التضخّم الجامح، وسياسات التقشف المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي، إضافة إلى الانقطاع المستمر للكهرباء، ما جعل مستويات المعيشة في مصر هي الأسوأ منذ عقود، رغم أن البلاد حصلت على حزمة إنقاذ بمليارات الدولارات قبل بضعة أشهر فقط.
في السنوات الأخيرة، أنفق الرئيس عبد الفتاح السيسي أيضاً مبالغ طائلة على سلسلة من المشروعات الضخمة، مثل توسعة قناة السويس في 2015، ومشروع ري كبير حول بحيرة ناصر يُدعى توشكى، وسلسلة من المدن الجديدة المنتشرة في أنحاء مصر، بما في ذلك عاصمة صيفية على الساحل الشمالي ومدينة مستدامة في دلتا النيل، وأخيراً العاصمة الإدارية الجديدة التي تقع على بُعد 45 كم شرق القاهرة، والتي تهدف لأن تكون العاصمة المستقبلية لمصر. ولكن للأسف، المرحلة الأولى من هذا المشروع وحدها كلفت أكثر من 45 مليار دولار، ما جعلها باهظة التكاليف إلى حد دفع الداعمين الرئيسيين، مثل الإمارات العربية المتحدة والصين، إلى الانسحاب من تمويله.
أدى هذا الإنفاق المزمن والمفرط إلى دخول مصر في حالة ركود. بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 80% خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وارتفعت إلى 96% اليوم. قد لا يبدو هذا الرقم مرتفعاً إذا ما قورن بالولايات المتحدة أو أوروبا، حيث تعدّ نسب الدين إلى الناتج المحلي التي تفوق 100% أمراً شائعاً، لكن بالنسبة لدولة متوسطة الدخل مثل مصر، التي يبلغ نصيب الفرد من ناتجها المحلي الإجمالي حوالي 3200 دولار أمريكي (أقل من نصف مستوى ليبيا)، فهذا يعتبر رقماً مرتفعاً جداً.
تضاعفت ديون مصر الخارجية أربع مرات لتصل إلى 164 مليار دولار، وتشكل خدمة الدين حالياً معظم النفقات السنوية للحكومة. في عام 2024 وحده، ستدفع مصر 32.8 مليار دولار من الديون الخارجية، وهو مبلغ مذهل من المال الذي يذهب هباءً.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن جزءاً متزايداً من هذا الدين مستحق لمقرضين أجانب، ويكون على شكل قروض بعملات أجنبية، ما يجعل تكلفة سداده أعلى بكثير عندما تنخفض قيمة العملة المصرية. اليوم، تخصّص مصر ما يقارب نصف ميزانيتها فقط لخدمة ديونها القديمة، وهو وضع غير مستدام؛ فإذا كنت تنفق نصف ميزانيتك على خدمة الديون فقط، دون تقليل الإنفاق أو زيادة الضرائب بشكل كبير، فستحتاج إلى الاقتراض مجدّداً، وهو ما يحدث حالياً. بمعنى آخر، السياسات المالية في مصر تعتمد منذ زمن طويل على الإنفاق بأكثر مما تستطيع تحمّله، والنتيجة هي دوامة من الديون المتراكمة.
تفاقمت هذه المشكلة أيضاً بسبب سياسة سعر الصرف التي تنتهجها الحكومة المصرية. فبدلاً من اعتماد سعر صرف عائم، تفضّل الحكومة والبنك المركزي المصري الحفاظ على سعر صرف ثابت أو مُدار، ما يستنزف احتياطيات النقد الأجنبي لمحاولة الحفاظ على استقرار قيمة الجنيه في الأسواق الدولية. هذا على عكس الدولار الأمريكي أو اليورو، اللذين يعتمدان على العرض والطلب ويتقلبان باستمرار.
قد تكون هذه السياسة مفيدة في بعض الأحيان، كما هو الحال في الصين، التي استفادت من التقليل المتعمّد لقيمة اليوان، لكن في مصر فشلت هذه الاستراتيجية، حيث يؤدي الجنيه المُبالغ في قيمته إلى زيادة الاستيراد والاستهلاك بما يتجاوز القدرة الفعلية للبلاد، ما يؤدي في النهاية إلى انهيار العملة عند نفاد الاحتياطي. وقد حدث هذا أربع مرات منذ انتشار جائحة كورونا، وأصبح الجنيه الآن يساوي ثلث قيمته السابقة في أوائل عام 2022، وحتى أقل في السوق السوداء.
أدى الإنفاق المزمن والمفرط إلى دخول مصر في حالة ركود. بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 80% خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبالنسبة لدولة متوسطة الدخل مثل مصر، فهذا يعتبر رقماً مرتفعاً جداً
الأزمات الخارجية والمساعدات الدولية: دوامة لا تنتهي
عندما تنفد أموال الدولة المصرية، تلجأ مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي. منذ عام 1971، طلبت مصر تمويلات من صندوق النقد الدولي 11 مرّة على الأقل، وكان آخرها في بداية هذا العام. يقول الصندوق دائماً نعم، لأنه ببساطة لا يستطيع السماح لمصر بالفشل؛ فمصر ليست فقط دولة كبيرة جداً من حيث عدد السكان، لكنها أيضاً دولة ذات أهمية استراتيجية كبيرة، تجعل الفشل خياراً غير مقبول.
تلعب مصر دوراً رئيسياً في شبكة الأمن الإقليمي للولايات المتحدة، وهو ما يمنحها قدرة أكبر على الحصول على شروط أفضل أو قروض أكبر من صندوق النقد الدولي مقارنة بالدول الأخرى. على سبيل المثال، في عملية الإنقاذ الأخيرة، حصلت مصر على 8 مليارات دولار، وهو مبلغ يزيد عن ضعف ما طلبته في البداية (3 مليارات دولار)، كما حصلت على دعم مالي إضافي بقيمة 40 مليار دولار من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والإمارات العربية المتحدة.
لم تحقق هذه عمليات الإنقاذ النجاح المتوقع. يعود ذلك جزئياً إلى أن مصر تدرك أن صندوق النقد الدولي لن يرفض مساعدتها إذا طلبت ذلك مجدّداً، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية في الشرق الأوسط، كما أن الإصلاحات التقشّفية التي يصر عليها صندوق النقد الدولي لم تؤتِ ثمارها حتى الآن، فالتخفيضات في دعم الوقود والرعاية الاجتماعية، إلى جانب التضخّم الناتج عن انخفاض قيمة العملة، دفعت ملايين المصريين إلى ما دون خط الفقر، كما شهد القطاع الخاص غير النفطي انكماشاً مستمرّاً تقريباً على مدى السنوات الخمس الماضية.
وقد تفاقمت الأوضاع الاقتصادية، ومن أبرز مظاهر هذا التدهور انقطاع التيار الكهربائي المتكرّر، بعد أن نفد الغاز في مصر، ما أجبر الحكومة على فرض ما يسمى " تخفيف أحمال" لتوفير الطاقة. وفي ظل هذه الأزمة، تم إلزام معظم المحال بالإغلاق بحلول الساعة 10 مساءً أو منتصف الليل، باستثناء محلات البقالة والصيدليات.
تفاقمت هذه المشكلة بسبب تراجع الإنتاج المحلي من الغاز والنفط، بالإضافة إلى النمو السكاني المتزايد وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق في الصيف، ما زاد الطلب على الطاقة. وبينما كانت مصر تسجل فائضاً في صادراتها النفطية والغازية بلغ 4.4 مليار دولار حتى سبتمبر 2022، فقد أنفقت حوالي 6.3 مليارات دولار على استيراد النفط والغاز حتى مارس 2024.
يواجه الرئيس السيسي معضلة حقيقية: إما أن يواصل تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، بما في ذلك السماح للجنيه المصري بالتعويم والمضي في تقليص الدعم، مع المخاطرة بغضب شعبي واسع؛ أو أن يُجهد الميزانية الحكومية لوقف تدهور مستويات المعيشة
رأس الحكمة والسيادة المصرية
بعد أن صبر الدائنون، وقّعت مصر صفقة مع الإمارات لتطوير شريط رئيسي من ساحلها المتوسطي المعروف باسم "رأس الحكمة". ستضخّ الإمارات 35 مليار دولار في الاستثمارات في الاقتصاد المصري المثقل بالديون خلال الشهرين المقبلين. تقنياً، مليار دولار من هذه الأموال ستكون قروضاً إماراتية ستتحول إلى منح، ما يعني أن المبلغ الفعلي للاستثمار الإماراتي يقارب 24 مليار دولار. على المدى الطويل، قد تجتذب منطقة رأس الحكمة استثمارات تصل إلى 150 مليار دولار.
يرى الكثيرون أن الإمارات تتعدّى على الأراضي المصرية هذه المرة على شبه جزيرة صغيرة على الساحل المتوسطي. في المقابل، يقول المسؤولون المصريون إنهم وُعِدوا بنسبة 35% من أرباح المشروع الإماراتي، بالإضافة إلى أن الاستثمارات الإماراتية في رأس الحكمة قد تساعد في استقرار سعر الصرف المصري، وخلق فرص عمل، وجذب العملات الأجنبية، تسوّق الحكومة الاتفاق الإماراتي على أنه شريان حياة للاقتصاد المصري، في اقتصاد معروف بصعوبة إصلاحه.
في النهاية، فإن مشاريع مثل "نيوم" السعودية، العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، ومشروع رأس الحكمة الإماراتي، كلها تنبع من فكرة واحدة: تمويل مشاريع عملاقة مبالغ في تكلفتها عبر القروض، ما يضع الحكومات في مزيد من الديون المتزايدة.
الآن، يواجه الرئيس السيسي معضلة حقيقية: إما أن يواصل تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، بما في ذلك السماح للجنيه المصري بالتعويم والمضي في تقليص الدعم، مع المخاطرة بغضب شعبي واسع؛ أو أن يُجهد الميزانية الحكومية لوقف تدهور مستويات المعيشة، مع الاعتماد على احتمال أن يقوم صندوق النقد الدولي بإنقاذ البلاد مجدداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي