شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هل تشتمني إن أخبرتك بالحقيقة؟… لن تنتهي هذه الحرب

هل تشتمني إن أخبرتك بالحقيقة؟… لن تنتهي هذه الحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية نحن والحقيقة

الاثنين 16 سبتمبر 202411:16 ص

منذ الأيام الأولى للمذبحة وأنا أقول: لن تنتهي هذه الحرب.

ليس تشاؤماً، ولكنني أعرف الحروب جيداً. فقد عشتُ معها أياماً وأشهراً طويلة حتى ارتويت. ورأيت كيف تظلّ الدموع بعدها رطبة على الوجنتين، وكيف تجعل الطريق إلى البيت والعمل والأصدقاء والحب بعيدة جداً.

لأجل ذلك أقول لك: لا توهم نفسك، لن تنتهي هذه الحرب. فلا تأبه بأخبار المفاوضات ولا تتبع خطوات الوفود، ولا تنتظر أيّ شيء. فقط اجلس في زاوية الخيمة وابكِ كثيراً كأنّ البكاء سيعيدك إلى مساء 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لتقضي ليلة عادية جداً مع العائلة أو الأصدقاء. ثمّ تنام مطمئناً للمرة الأخيرة في حياتك، دون أن تزورك الحرب لا في أحلامك ولا في اليوم التالي.

أشياء لن تحدث مرة أخرى

الصباح الروتيني الذي تذهب فيه إلى عملك، لن يعود. والأغنية التي كانت تهرب من شباك الجار إلى أذنيك صباحاً، وتُكملها كلّ مرة بعفويةً قائلًا: "وإن تركتك بشقى"، لن تستطيع إكمالها بعد الآن.

والجارة التي لم تر وجهها طوال 10 سنوات جاورت شقتك فيها، سوف تعتاد طلبها اليومي: "ممكن تناديلي ابني محمد وإنت نازل؟" ولن تستطيع إلا أن تطأطئ رأسك موافقاً. أما صديقك الذي كنت تفتتح به صباحك يومياً في الثامنة، فلن تراه مرةً أخرى وعليك الاجتهاد منذ الآن لتجد صديقاً غيره يستلطف فكرة المشي من الشيخ رضوان إلى مفترق السامر كلّ صباح دون مللٍ، بعدما ظلّ ماشياً حتى وصل نهاية العمر.

هل ستنسى حين غادرت غزة للمرة الأخيرة، حين صارت غزّة خلفك وأضفت كلمة "شمال" إلى يمينها؟ هل تستطيع أن تنسى ما حدث يوم نزوحك الأول، يوم أصبحت مدينة غزة جزءاً من ماضيك؟

سهرتك ليلة الخميس في كافيه الباقة وصوت ضحكات الصبايا والموج، لعبة الكرة والحديث عن أحدث انتقالات اللاعبين مع زملائك في العمل، صِدق سائقي التاكسي وهم يتحدّثون عن انفراجة قريبة لا يعرف ملامحها غيرهم، عتابك الطويل لحبيبتك التي تهتم بتسريحة شعرها أكثر من وجودك، اجتهادك في القول لإثبات صحة وجهة نظرك السياسية أمام رجلٍ غريب... كلها أشياء لن تحدث مرة أخرى، عليك أن تودعها وتستعدّ لحياة مختلفة تماماً. فأنت منذ الآن غيرك وبلادك منذ الآن غير تلك البلاد.

أشياء لا يمكن تجاوزها

ترى أنني متشائم؟ تشتمني لأنني أخبرك حقيقةً صعبة؟ حسناً، دعني أقول مثلك: سوف تنتهي الحرب. ماذا سيتغير؟ هل تعتقد أنّ عدم تعرّضك للموت يعني أنك نجوت؟

لم تنجُ، ولن ينجو أحد، فقد خرّبت هذه الإبادة حياتنا للأبد. وسوف تخرج منها مصاباً ببترٍ في الذاكرة لن تُصلحه الأيام والليالي والذكريات الجديدة.

ستظلّ عالقاً في الحرب، تحت وطأة الأحزمة النارية وصوت القذائف وهي تدمّر أحلامك، بين إخوتك الذين نهش الخوف والجوع أجسادهم. ولن تتخلّص أبداً من صوت الزنانة في رأسك، حتى لو انتقلت للعيش في بلدٍ لا طائرات مُسيّرة في سمائه.

وإذا كنتُ عنيداً، ترى أنّك ستعبر كلّ ذلك، فهل ستنسى حين غادرت غزة للمرة الأخيرة، حين صارت غزّة خلفك وأضفت كلمة "شمال" إلى يمينها؟ هل تستطيع أن تنسى ما حدث يوم نزوحك الأول، يوم أصبحت مدينة غزة جزءاً من ماضيك؟

لقد مشيتَ يومها أكثر من 7 كيلومترات. ورأيت الجثث وهي ملقاة على الطرقات.

سوف تنتهي الحرب. ماذا سيتغير؟ هل تعتقد أنّ عدم تعرّضك للموت يعني أنك نجوت؟

لقد رأيت بأمّ عينيك الكلاب التي تنهش لحم إخوتك، ثمّ كان عليك أن تعبر بجانب الدبابات والجنود دون أن ترفع رأسك عن الأرض، ليس خجلًا هذه المرة كعادتك، لكنّه الخوف من الرصاص.

لقد عبرت عشرات الجثث، واضطررت أن تسمع ألم صاحبك بعدما أصابته رصاصة في قدمه، دون أن تقوى على الوقوف حتى لترى إن كانت إصابته خطيرة أم لا.

ثمّ ماذا حدث؟ وصلت إلى الجنوب، أنت الذي كنت طوال حياتك تحبّه، أصبحت أكثر شخصٍ ناقمٍ عليه. لقد قطعت طريق صلاح الدين مئات المرات في حياتك لتذهب إلى خان يونس التي تحبها، ولكنك في ذلك اليوم كنت أكثر من يكرهها.

ثمّ ماذا حدث؟ نزحت أكثر من 10 مرات، عشت مع 30 فرداً آخرين من أقربائك في بيتٍ لا يتسع لأكثر من 5 أشخاص ثمّ قضيت ليالي طوالاً في بيت رجل غريب لم تكن تعرف عنه سوى اسمه وعمله. وبعدها؟

عشتَ في مدرسة، في بيت بلا حجارة. واضطررت في ليلة ملعونة أن تنام وأهلك على الرصيف، وحتى عندما قلت إنك استقررت بعدما وجدت خيمة، قضيت أسوأ أيام حياتك فيها. هل يمكن أن تتجاوز كلّ ذلك؟ أخبرني إذن، هل ما زلت تراني متشائماً؟

أشياء تحدث للمرة الأولى

إذا كنتَ ترى أنّ الأمر ينتهي بإعلان وقف إطلاق النار، فأطمئنكَ: سيحدث ذلك، قد لا يحدث اليوم ولا غداً ولا بعد شهر ولا بعد سنة. ولكنه في النهاية سيحدث. ولكن هل تعتقد أنّ ذلك سوف يُوقف الإبادة؟ وإلا فأخبرني، من سيعد العائلة إلى الناجي الوحيد؟ وأقدام الآلاف التي دُفنت، هل ستنبت مرةً أخرى؟

هل سيتوقّف انتظار الأم لابنها الوحيد الذي خرج ليأتي بكيس طحين منذ 5 أشهر ولم يعد؟ ومن سيقنع القطّة فوق ركام المنزل المقصوف أنّ العائلة لن تعود لتأخذها؟

سوف يتوقّف القصف على الأرض بشكله النظري، لن ترى شلالاتٍ من الدماء تسيل يومياً من جديد. لكن الشلالات القديمة، التي تمتلك نبعاً لا ينضب، لن تتوقف أبداً عن ضخّ الدماء، كأنّ الجبل الذي تنبع منه لا يعرف معنى الانتهاء.

وإن خدعوك فقالوا يوماً: "وإن أعادوا لنا الأماكن، فمَن يعيد لنا الرفاق" فلا تصدّقهم، لأنّ الأماكن أصبحت مثل الأصدقاء، ذهبت بهيئتها ورائحتها وعنفوانها إلى الأبد.

لن تتخلّص أبداً من صوت الزنانة في رأسك، حتى لو انتقلت للعيش في بلدٍ لا طائرات مُسيّرة في سمائه

لذلك عشيّة وقف إطلاق النار، عندما تتمشى عائداً إلى مدينة غزة -إذا كنتَ ستعود- لن تغريكَ نسمة الهواء على شارع الرشيد، بل ستكتم أنفاسكَ رائحة الجثث المتحللة على جانبيه.

وإذا فكرت أنّ جلسة واحدة على شاطئ بحر مدينة الزهراء سوف تريحك من أحزانك بعد الآن، فأنت مخطئ، وإلا لما شتمت البحر كلّ مرة أخرجت رأسك من الخيمة فرأيته. لذلك كلّه، لا، لن تعود الأماكن، ولن يعود الرفاق بعد هذه الإبادة.

أشياء عليك تجاوزها

لأنني أعرف الحروب جيداً، جرّبتها وجرّبتني بما يكفي لأعرف ملمس الفقد فيها وصورة الحزن الأبدية التي ترسمها في القلوب، أقول منذ الأيام الأولى للمذبحة: لن تنتهي هذه الحرب، حتى وإن تمّ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فإنّ ذلك لا يعني مغادرة الحرب من باب النسيان، بل بداية حروب أخرى أكثر شراسة وعنفواناً، حروب شخصية لا توقفها المساعي الدولية ولا الشدّ والجذب في المفاوضات، وليس فيها وفود ذاهبة ووفود آتية. حروب لا دماء فيها، ولكنها ممتلئة بالدموع التي لا تجف، والحسرة التي لا تَخف. سيحاول الغزّي أن يوقفها بكلّ إرادته، لكنّه ربما لن يستطيع.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard