شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مشهد جنائزي في قلب أم

مشهد جنائزي في قلب أم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأحد 15 سبتمبر 202410:59 ص
Read in English:

A funeral scene in a Palestinian mother's heart

الصباح ليس صباحًا. هو بقايا ليل منهك، معلق بين رماد الفجر ونيران الذاكرة. لا شمس هنا، بل ضوء شاحب يتسلل بخجل، كأنه يخشى مواجهة الحقيقة. تسير الأم بين حطام الحاضر، بين شظايا زمنٍ لم يعد يملك معنى. المشهد يتكرر، لكنه يحمل في طياته ألمًا متجددًا، ألمًا لا يتآلف معه الزمن، بل يقتات عليه.

الجنازة ليست سوى مرآة، تعكس وجه الحياة في ظل الحرب. المشيعون حولها يعرفون الحقيقة: نحن لا نودع فقط، نحن نتشبث بالبقايا. كل خطوة تخطوها الأم نحو جثمان ابنها هي خطوة نحو الفراغ، نحو الغياب الذي يتسع مع كل ذكرى، كل صورة تتراءى أمام عينيها المتعبتين.

الوداع هنا ليس كأي وداع، هو لقاء مع الذاكرة، لقاء مع الذات. هذا الجسد الممدد في الكفن الأبيض كان يومًا ممتلئًا بالحياة، بالحلم، بالأمل. كان ينبض بالإصرار على البقاء رغم كل شيء، واليوم، هو مجرد جسد، مجرد ذكرى تسكن في كفن أبيض، كفن يحاول أن يحجب الحقيقة لكن دون جدوى. 

الجنازة ليست سوى مرآة، تعكس وجه الحياة في ظل الحرب. المشيعون حولها يعرفون الحقيقة: نحن لا نودع فقط، نحن نتشبث بالبقايا. كل خطوة تخطوها الأم نحو جثمان ابنها هي خطوة نحو الفراغ، نحو الغياب الذي يتسع مع كل ذكرى، كل صورة تتراءى أمام عينيها المتعبتين

تتوقف الأم أمام الجثمان، كأنها تواجه ذاتها في مرآة الصمت. لا دموع، فالدموع قد جفت منذ زمن بعيد. لا صرخات، فالحزن قد تجاوز مرحلة الصراخ. كل ما تبقى هو صمت ثقيل، صمت يلتهم كل شيء. ترفع الغطاء عن وجهه بحركة بطيئة، كأنها تفتح بابًا نحو الماضي، نحو الذكريات التي لم تعد تملك إلا أن تعيش في عالم موازٍ.

تتذكر. ليس تذكرًا عابرًا، بل هو غوص في بحر الذاكرة. تتذكر لحظة ولادته، صرخته الأولى التي كانت إعلانًا للحياة، لتكتشف الآن أن هذه الحياة كانت مجرد لحظة عابرة في خضم الزمن. تتذكر أولى خطواته، كيف كان يتعثر ثم ينهض، كيف كان يتحدى السقوط. كيف كانت تراقبه من بعيد، تخشى عليه من العالم، لكنها الآن تعلم أن العالم كان يخشاه هو.

تتساءل الأم في صمتها: هل كان يعلم؟ هل كان يشعر بأن النهاية تقترب؟ هل كان يسمع أصوات القصف في أحلامه؟ هل كان يعرف أن هذه الحرب ستلتهم كل شيء؟ الأسئلة تتكاثر كالأشباح، تحوم حولها بلا إجابة. تعرف أن هذه الأسئلة لا تحمل في طياتها سوى المزيد من الألم، لكنها لا تستطيع أن تتوقف عن التفكير. 

تتوقف الأم أمام الجثمان، كأنها تواجه ذاتها في مرآة الصمت. لا دموع، فالدموع قد جفت منذ زمن بعيد. لا صرخات، فالحزن قد تجاوز مرحلة الصراخ. كل ما تبقى هو صمت ثقيل، صمت يلتهم كل شيء.

السماء صامتة. مثلما كانت دومًا. هي تعلم أن السماء هنا ليست إلا شاهدة، الأرض وحدها التي تحفظ السر، تحفظ الحزن، تحفظ الذاكرة. تترك الأم الجثمان يعود إلى الأرض، إلى التراب الذي منه خرج، إلى المكان الذي يعرفه جيدًا. هذه الأرض التي ابتلعت كل شيء، حتى الأمل.

الجنازة تتحرك ببطء، كأنها لا تريد أن تصل إلى النهاية. لكن النهاية هنا ليست نهاية، بل هي بداية جديدة لحياة لا تعرف إلا الحزن. الأم تعرف أن الحياة لن تعود كما كانت، تعرف أن هذا الوداع هو بداية رحلة طويلة من الصمت والتأمل. تعرف أن الحرب ستستمر، وأن الجنازات ستتكرر، لكنها تعلم أيضًا أن كل جنازة تحمل معها قصة، قصة من الصمود والمقاومة.

في النهاية، لا شيء يبقى سوى الذاكرة. ذاكرة تتشبث بكل لحظة، بكل صورة، بكل كلمة. تعرف الأم أن هذه الذاكرة هي كل ما تملكه الآن، هي سلاحها في مواجهة هذا العالم الذي أصبح غريبًا. تترك المقبرة، لكنها لا تترك ابنها، بل تأخذه معها، في قلبها، في ذاكرتها. تعرف أن الزمن لن يمحو صورته، وأنه سيظل يعيش فيها، في كل نبضة، في كل فكرة، في كل لحظة تتنفس فيها.

تعود الأم إلى ما تبقى من بيتها، إلى هذا المكان الذي كان يومًا مليئًا بالحياة. لكن الآن، كل شيء هنا يحمل طعم الفقد. تعرف أن الحياة ستستمر، لكنها ليست الحياة التي كانت تعرفها. هذه حياة جديدة، حياة مليئة بالحنين، بالصمود، بالذاكرة التي لا تموت.

الحرب تستمر. لكنها تعلم أن هذه الحرب، مهما طال أمدها، لن تستطيع أن تمحو ما تحمله في قلبها. هي الآن جزء من ذاكرة هذا المكان، جزء من هذه الأرض التي ابتلعت الكثير، لكنها تظل قادرة على الحفاظ على الذاكرة، على الحزن، على الصمود.

في النهاية، يبقى شيء واحد: الحب الذي لا يموت. حبها لابنها، لحياتها، لأرضها. هذا الحب هو ما يبقيها واقفة، ما يبقيها حية في وجه الموت. هي تعرف أن الحياة ستبقى، وأن الزمن سيستمر، لكنها تعرف أيضًا أن هذا الحب هو ما يعطيها القوة لمواجهة كل شيء.

يوسف القدرة

الخيمة، غرب مدينة خان يونس

9.2024

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image