وصلت إلى مستشفى اليرموك، وعلى بابها تقطّعت حبال زوجي الصوتية من شدة الصراخ: "أنقذوها لخاطر ربكم… الحكولها (أي أنقذوها) هي وابني راح تموت".
هذا المشهد تسبّب بأزمة نفسية لهبة عمر (33 عاماً)، من حي الجهاد في قضاء الكرخ بالعاصمة بغداد. تقول لرصيف22: "أحتاج الوقت حتّى أفقد جزءاً من ذاكرتي وأنسى هذا الموقف".
في تفاصيل هذه الحادثة، كانت هبة حاملاً في شهرها التاسع وقد فاجأها "طلق" الولادة عند منتصف الليل. كان الألم خفيفاً حين زارت المجمّع الطبي القريب من منزلها حيث أخبروها أن ولادتها سوف تتأخر لأن هذا هو طفلها الأول وهذه "انسلاخات"، أي تقلّصات ما قبل الولادة، وعليها أن تراجع المستشفى في الصباح.
لكن، بعد الساعة الثالثة فجراً، تحسّست بعض الدماء الخفيفة وهي من علامات الولادة الوشيكة، وازداد مخاض الولادة إلى أن أيقظت زوجها من غفوته ليتوجّه بها إلى والدتها القريبة منهم ويبحثون جميعاً عن مستشفى تنقذ الأم والجنين.
تضيف هبة: "انطلقت السيارة وعرجنا على عدة مستشفيات على الطريق. رفض بعضها استقبالي على الفور، وفضّل البعض الآخر - بعد الكشف عليّ ومعرفة أن هذا حملي الأول - أن ألجأ لمستشفى آخر أكثر تجهيزاً، فاتجهنا إلى مشفى اليرموك".
"في أحد الشوارع الرئيسية، كانت هناك 'طسّة' كنت أعرف مكانها جيداً ولكن لشدة ارتباكي لم أجتزها، فوجدت نفسي أصطدم بالرصيف ومن ثم انقلبت السيارة… ولدت شقيقتي ابنتها ولكن الحادث تسبّب للمولودة في ضمور في المخ"... شوارع بغداد تهدد حيوات الحوامل والأجنّة
تؤكد هبة أن وضعها المادي البائس اضطرّها إلى البحث بين المستشفيات الحكومية عن مشفى أقل ازدحاماً لأنها لم تكن تحتمل أي انتظار، لكن الطريق إلى مشفى اليرموك كان مهمة صعبة للغاية بسبب الازدحام الشديد.
تصف هبة حالتها آنذاك: "كنت مستلقيةً على الكرسي الخلفي للسيارة، أتضرّع من الألم، والتعب قد نال من عظامي. كنت أرفع رأسي لأشاهد والدتي تخرج رأسها من نافذة السيارة وهي تطلب من السائقين أن يتنحّوا جانباً ليفسحوا لنا الطريق بينما تخبرهم: 'خالة، عدنا ولادة'. وزوجي يرفع صوته ويشتم هذا وذاك. مرّة، تُسرع السيارة ومرّة تقف وتتمايل إلى اليمين واليسار تمشي قليلاً ثم نقف في ازدحام آخر. يحاول زوجي أن يغيّر اتجاهه ويدخل بين الأحياء السكنية ثم يعود إلى الشارع الرئيسي".
قبل الوصول إلى المشفى بعشر دقائق، ولدت هبة ابنها داخل السيارة. "كنت أنتظره منذ أربع سنوات"، تعقّب.
ثم تتابع "الطبيبة جاءت مسرعة تحاول إنقاذ ابني، وجاهدت أكثر من مرّة لإسعافه وفشلت محاولتها… أخبرتني أنه مات مخنوقاً لعدم وصولي إلى المستشفى في الوقت المناسب".
تصف هبة شعورها "المميت" آنذاك إذ كانت تنتظر طفلها طيلة خمس سنوات هي عمر زواجها، وتعود للحديث بعينين دامعتين: "عدت من المستشفى وأنا أنظر إلى السير المزدحم. كنت أُحدِّث الجميع بسري وأخبرهم: 'أنتم المتسبّبين بقتل ابني إذا لم تُفسِحوا في المجال لي للوصول إلى المستشفى'".
تتحدث هبة بمرارة أيضاً عن "الطسّات"، وهي المطبّات والتكسير الذي يملأ طرق بغداد. "كنت أرغب أن أضربها، مثلما كنا صغاراً نضرب الأرض إن سقطنا، انتقاماً منها، وفي هذه المرّة كنت لأنتقم لولدي الحبيب"، تقول قبل أن تختتم بأن "أكثر الأمور صعوبة أن تنتظر الأم ابنها لمدة تسع شهور وتفقده لسبب تافه… طسّة أو زحام".
وتشرح الطبيبة النسائية جوان ميرزا، لرصيف22: "على الحامل في شهرها التاسع - حين تشعر بانقباضات منتظمة مع نزول سائل مصحوب بقليل من الدم - أن تدرك أن هذه علامات ولادة وعليها التوجه إلى المستشفى بأسرع وقت"، وذلك من أجل الاطمئنان على صحة الحامل، وخاصة في حالة الحمل الأول "البكر" إذ قد تتعرّض لعدة عوامل تعرضها هي و/ أو الجنين إلى الخطر، بينها أن يكون رأس الطفل أكبر من الحوض، أو وضعية الطفل مقلوبة أي مؤخرته أقرب من عنق الرحم لا رأسه كما ينبغي.
تضيف ميرزا أن "عملية خروج الطفل من عنق الرحم للخارج قد تستغرق عشرين دقيقة ولا ينبغي أن تتأخر عن ذلك وإلا تعرّض الجنين للاختناق وخطر الوفاة ما لم يتم إنقاذه".
في الأثناء، توضح الطبيبة أن وضعية استلقاء المرأة تماماً تؤثر على الولادة بحيث يجب أن تكون ممدّدة على ظهرها وقدماها مفتوحتان وتدفع إلى الخارج بانتظام. أما وضع الجلوس في السيارة، وتأخر الحامل في عملية الولادة، فقد يؤديان إلى اختناق الطفل ووفاته، كما حدث مع هبة، بل وقد يعرّضان حياة الأم للخطر، وفق ميرزا.
"الازدحام" و"الطسّة" عائقان بطريق الحوامل
الحُفر والمطبّات التي تشوه البُنى التحتية في شوارع العاصمة بغداد، وأمانة بغداد (المسؤولة عن نظافة المدينة وجماليتها ومشاريع البُنى التحتية) لا تكترث لصيانتها، تسببت بأضرار متنوعة للمواطنين بسبب الحوادث المرورية وخصوصاً بعد حلول الظلام.
يقول محمد علي (40 عاماً) من حي السيدية في بغداد: "شقيقتي الصغرى طوال الوقت تذكّرني بإعاقة ابنتها التي تبلغ حالياً من العمر أربع سنوات".
عام 2020، تعرّض علي لحادث سيارة، في ليلة ماطرة إذ كانت والدته قد طلبت منه أن يوصلهم إلى مستشفى الراهبات في بغداد لأن شقيقته أمام ولادة مفاجئة.
يروي لرصيف22: "جلست شقيقتي في الكرسي الأمامي من السيارة، وفي عاداتنا (نحن العراقيين) أننا لا نلتزم بشروط السلامة ولا نربط حزام الأمان، وكانت والدتي تطلب مني أن أسرع خوفاً على شقيقتي التي تصرخ من الألم".
توضح الدكتورة مها الصكبان، اختصاصية الأمراض النسائية، أن "شوارع العراق بصورة عامة لا تناسب الحوامل، وقد رصدنا حالات إجهاض في الأشهر الأولى من الحمل بسبب 'المطبّات' التي تملأ الشوارع، والحركات المفاجئة التي تتعرض لها الحامل أثناء ركوبها السيارة"
يتابع علي "في أحد الشوارع الرئيسية كانت هناك 'طسة' كنت أعرف مكانها جيداً ولكن لشدة ارتباكي لم أجتزها، فوجدت نفسي أصطدم بالرصيف ومن ثم انقلبت السيارة". ولدت شقيقته ابنتها ولكن الحادث تسبّب للمولودة في ضمور في المخ على إثر تلك الحادثة، حسبما يقول.
تضررت شقيقته أيضاً، عانت لفترة من رضوض في الحوض. أما الطفلة، فلم تصرخ هذا "البكاء المعتاد فور نزول الطفل من بطن والدته". نجح الفريق الطبي في إنقاذ الطفلة والأم، ووضعت مع الخدج لأسابيع، وبعد مرور ثلاث سنوات شخّص الأطباء إصابتها بضمور في المخ (خلل في النمو)، مرجحين أن هذا ناتج عن إصابة الأم في بطنها قبل الولادة.
يختتم حديثة متحسِّراً على الفارق بين الطرق في العراق وجارتها تركيا إذ يقول: "زرتُ تركيا بسيارتي الخاصة بعد اجتيازي الحدود العراقية… تجد الشوارع التركية معبّدة والإنارة جيدة".
"الإسعاف" في طرقات بغداد
سيارة الإسعاف هي إحدى الأدوات الهامة لتخفيف خسائر الأرواح لا سيّما في حالات حوادث الطرق والولادة المستعجلة. لكن، في بغداد، يواجه المسعفون وسائقو سيارات الإسعاف عدة صعوبات لعل أخطرها الاختناقات المرورية، وعدم إفساح المجال لهم من قبل بقية السائقين.
يتحدث أبو علي، وهو سائق إسعاف لمدة 20 عاماً، لرصيف22: "ما يتعرّض له سائق الإسعاف والمسعف/ون لا يقل خطورة عن المريض/ة".
يضيف المسعف العراقي أن من أخطر المشاكل التي تواجهنا تدهور البُنى التحتية، ورداءة الطرق، وعدم إفساح المجال من قبل السائقين ونعاني بشكل دائم من سائقي التوك توك، والستوتة (دراجة نارية تسحب عربة)، والماطور (الدراجة النارية)، أو بعض السائقين يتسابقون مع سائق الإسعاف، ناهيك عن قلة سيارات الإسعاف.
لا ينكر أبو علي تعاون ضباط المرور معهم عبر إفساح الطريق لهم، ولكن دوماً ما تقف الاختناقات المرورية دون سرعة الوصول إلى المرضى والمصابين.
يتذكر أبو علي بعض إحدى الحالات التي صادفته في عمله: "استقبلت نداءً من وحدة الإسعاف للتوجّه إلى إحدى الدوائر الحكومية في إحدى الوزارات لإسعاف واحدة من الموظفات التي كانت تواجه حالة ولادة مفاجئة. توجّهت للحالة مع كادر الإسعاف وقد مررت بثلاثة اختناقات مرورية وبعد الوصول إليها وجدناها قد ولدت. واستقبلنا الجميع بكلمة 'بعد وقت'"، وهو تعبير ساخر يعكس فوات الأوان.
يشير سائق الإسعاف إلى أن حالات الولادة من الضروري أن تنقل للمشفى بالإسعاف وما يمنع ذلك عدة مشاكل منها عدم امتلاك المواطنين أرقام الإسعاف، والازدحام، فيفضل الجميع نقل مرضاهم بمركباتهم الخاصة للوصول إلى المشفى في وقت أسرع.
وفي هذا الشأن، توضح الدكتورة مها الصكبان، اختصاصية أمراض نسائية وأطفال، أن "شوارع العراق بصورة عامة لا تناسب الحوامل، وقد رصدنا حالات إجهاض في الأشهر الأولى من الحمل بسبب 'المطبّات' التي تملأ الشوارع، والحركات المفاجئة التي تتعرض لها الحامل أثناء ركوبها السيارة".
كما تلفت إلى أنه أثناء قيادة المركبات على الطرق الوعرة، تعريض جسم الحامل لاهتزازات يمكن أن يزيد خطر الولادة المبكرة.
علاوة على ذلك، فإن تأخر وصول الحامل إلى المشفى أثناء الولادة يعرّض لمخاطر كثيرة قد تهدد حياة الجنين مثل الاختناق أو انتهاء نزول السائل الأمنيوسي الذي يحفظ الجنين. كما تكون الأم في وضع صحي خطر ولا بد أن تكون تحت المراقبة لمعرفة ضغط الدم وغيره من التدابير اللازمة، بحسب الصكبان.
وتنبّه الطبيبة العراقية إلى أن الطبيبة النسائية أيضاً تواجه العراقيل نفسها التي قد تؤخر الحامل من الازدحامات ووعورة الطرق. فمثلاً، إذا تم الاتصال بها لحالة طارئة أو مستعجلة في المستشفى، فقد يصعب عليها أن تلبي النداء في الوقت المطلوب، وقد حدثت الكثير من الحوادث المرورية لطبيبات زميلاتنا في العمل سببها المطبات والازدحام.
رشا (25 عاماً)، تحكي بمرارة عن هذا اليوم المأسوي "تخيّلي أنكِ انتهيتِ للتو من تجربة الولادة الشاقة وتخرجين آملةً الوصول إلى المنزل بأسرع وقت، فتتفاجأين بزحام وطسة تفتح لك خيوط العملية؟".
"تخيّلي أنكِ انتهيتِ للتو من تجربة الولادة الشاقة، وتغادرين المشفى آملةً الوصول إلى المنزل بأسرع وقت، فيصادفك زحام وطسّة تفتح لك خيوط العملية؟"... حوامل بغداد وأجنّتهن يواجهن الموت بسبب "طسّات" وزحام شوارعها
وتضيف رشا لرصيف22: "بالطبع، لدى قدومي إلى المشفى الطريق لم يكن معبّداً ولكن من حسن الحظ كان توجهي من منزلنا في الكرادة إلى مستشفى العلوية في الكاظمية في الصباح الباكر لذا كانت حركة السير ميسورة نوعاً ما".
و"بعد الانتهاء من ولادتي الطبيعية، خرجت بتاريخ 8 تموز/ يوليو 2024، في الساعة الثانية ظهراً. كانت درجة الحرارة مرتفعة للغاية ومكيّف الهواء بالسيارة توقّف فجأة، وحركة السير كانت مغلقة بحيث تسير السيارة كل خمس دقائق خطوات قليلة، وبعد أن انفتح السير كبسة البنزين مع 'الطسة' شعرت أنني قفزت من على مقعد السيارة وبعد عودتي إلى المنزل وجدت أن الخيوط الداخلية في العضو التناسلي قد انفتحت جميعها، وكان عليّ أن أعود مرة ثانية لأخضع لعملية موضعية لإعادة الخيوط"، تختم رشا.
"معضلة عدم الوصول في الوقت المناسب"
زهراء (37 عاماً)، تقول لرصيف22: "كنت أسعى للوصول إلى المستشفى الخاص (الأهلي). كنت في بداية الشهر التاسع من الحمل، انزلقت قدمي على سلم المنزل وسقطت أرضاً. بعد الاتصال به، عاد زوجي إلى المنزل. كان الطريق مزدحماً جداً، وفي هذا الوقت بدأت أنا النزيف الحاد وبعد تأخير ساعة ونصف وصلت إلى المشفى وكانت حالتي قد تدهورت".
تضيف زهراء: "حمداً لله، تم إنقاذ طفلتي ولكن التأخر في إسعافي تسبب في رفع الرحم بعد أيام من الولادة لأن النزيف لم يتوقف". وتشير إلى أن زوجها كان ينصحها بدخول أحد المستشفيات الحكومية القريبة، إلا أنها كانت تخشى أن الولادة فيه بسبب الأحاديث المرعبة التي نسمعها من الأمهات عن سوء الرعاية في هذه المستشفيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يوملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 4 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 6 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...