عادت قِسمة، إلى الوعي بعد فترة وجيزة من الإغماء في أثناء رحلتها لجلب الماء سيراً على الأقدام تحت أشعة الشمس الحارقة من بئر بعيدة، بعد أن ضرب الجفاف مدينتها، وهي رحلة يومية تقضيها قسمة، تقطع خلالها مسافة ثلاثة أميال. هذا ما ترويه والدة قسمة، عن ابنتها التي تبلغ من العمر 14 عاماً، من قضاء السوير التابع لقضاء السماوة جنوبي العراق، وما تعرضت له قبل أسابيع معدودة.
"زوجي أخرج ابنتي من المدرسة لمساعدتي في المسؤوليات المنزلية والاعتناء بإخوتها الصغار، وقام والدها بتزويجها من رجل طاعن في السن ليتخلص من عبء متطلباتها واحتياجاتها"؛ تقول والدة قسمة، التي تشرح أن الظروف المناخية من قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير معقول خلال السنوات الأخيرة صيفاً، أدت إلى جفاف الأراضي الزراعية في ناحية السوير، وحوّلتها إلى "كَاع صبخة"، أي إلى أراضٍ شديدة الملوحة، غير صالحة للزراعة.
"أجهضت حملي لأن الكَاع صبخة"، بعينين شاردتين وصوت مرتجف تقول نبأ (اسم مستعار، 23 عاماً) من السوير، والتي كادت أن تموت بعد أن تعرضت للإجهاض، نتيجةً لشحّ المياه الصالحة للشرب، إذ إن أغلب المياه التي يستهلكونها في قريتهم تعتمد على طرائق بدائية في تصفيتها من الملح مثل استخدام قطع الشاش (القماش الرقيق)، وبرغم ذلك، أصيبت بارتفاع ضغط الدم في أثناء الحمل.
يصنَّف العراق بين دول العالم الخمس الأكثر عرضةً لتغيّر المناخ والتصحر، على الرغم من وجود نهرَي دجلة والفرات فيه، وقد أجبر النقص الحاد في منسوب الأمطار في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى عوامل مناخية أخرى، على خفض مساحات الأراضي المزروعة إلى النصف، وكان البنك الدولي في تقريره الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2022، قد حذّر من أن العراق قد يعاني من انخفاض بنسبة 20% في موارد مياه الشرب بحلول عام 2050، بسبب تغيّر المناخ.
وفق تقرير نشرته صحيفة "الصباح" العراقية الرسمية، تُعدّ محافظة المثنى من المحافظات الأكثر فقراً في البلاد، وهي تقع على نهر الفرات، وتعاني نقصاً كبيراً في المياه، كما يعيش فيها نحو مليون نسمة، أغلبهم من المزارعين ومربّي الأبقار والجواميس، ويعانون من شحّ المياه منذ أكثر من عقدين، ولا خيار أمامهم سوى البقاء، وتحمّل آثار تغيّر المناخ، بما في ذلك النزوح نحو مناطق أخرى في العراق.
وسط أزمتَي الجفاف والتصحّر، بادرت المديرة التنفيذية لمؤسسة أليس لحقوق المرأة والطفل، مريم الفرطوسي، بالتعاون مع جمعية الهلال الأحمر العراقي، إلى توفير عيادة متنقلة في ناحية السوير، مع كادر طبي وعلاجات ولوازم طبية.
تقول الفرطوسي، لرصيف22: "للظروف المناخية القاسية دور في دفع الأهالي إلى تزويج الفتيات الصغيرات مبكراً، فعندما يصبح الوضع المعيشي للأسرة سيئاً، يحاول الآباء 'التخلص من بناتهنّ' في سنّ صغيرة حتى يتخلصوا من عبء توفير احتياجاتهنّ"، مضيفةً أن "للزواج المبكر والحمل المبكر تأثيراً مدمراً على صحة المرأة مع حدوث عواقب مهلكة في بعض الأحيان، وتتعرض لانتهاكات مختلفة لحقوق الإنسان نتيجةً لذلك".
البحث عن المياه رحلة شاقّة
تتجلّى حدّة الجفاف بشكل ملحوظ في حياة النساء المنوط بهنّ تحمّل عبء البحث عن الماء في ظروف صعبة، ومعظم النساء يقضين في عملية جلب مياه الشرب وقتاً طويلاً، بدءاً من رحلة الذهاب من المنازل والإياب إليها من مكان الصهاريج، ثم الانتظار بعض الوقت حتى يحين الدور، زيادةً على الجهد المبذول.
تتحدث أم علي (43 عاماً)، وهي أمّ لأربعة أبناء، إلى رصيف22، وهي تحمل عبوات مياه فارغةً في طريق عودتها إلى منزلها في السوير، قائلةً: "لا توجد طريقة لتوفير المياه الصالحة للشرب إلا بحفر الآبار أو اللجوء إلى صهاريج المياه التي تجوب أرجاء القرية لتزويدنا بمياه الشرب، ولأن معظم بيوتنا مبنية بالطين وآيلة إلى السقوط، يرفض معظم الأهالي دخول هذه السيارات قرب البيوت تجنباً لسقوطها، لذا تقف الصهاريج على مسافات بعيدة من القرية".
وتتابع: "تُجبر نساء وفتيات القرية على المشي لمسافات طويلة ذهاباً وإياباً أكثر من مرة من وإلى هذه الصهاريج، أو إلى الآبار الارتوازية لجلب المياه وكثيرات منهن حوامل، أو يعانين من آلام في المفاصل والرقبة نتيجة حملهنّ أوزاناً ثقيلةً على رؤوسهن".
ووفقاً لمؤسسة "أليس"، فإنّ تأثيرات تغيّر المناخ على النساء الريفيات تتمثل في تدهور الزراعة والأمن الغذائي نتيجةً للجفاف والفيضانات، وزيادة أعباء جمع الموارد المائية بسبب ندرتها. كما تزيد هذه التغيرات من انتشار الأمراض وتفاقم الظروف الصحية، مما يؤثر على صحة النساء عموماً. بالإضافة إلى ذلك، تدفع الظروف المناخية القاسية النساء للهجرة، مما يعرّضهنّ لمخاطر اقتصادية واجتماعية، إذ إن ضعف التمكين الاقتصادي والاجتماعي يحدّ من قدرة النساء على التكيّف مع هذه التغيرات والمشاركة في اتخاذ القرارات.
لا يؤثر تغيّر المناخ في العراق على القطاع الزراعي فحسب بل يمثّل تهديداً خطيراً لحقوق الإنسان الأساسية ويضع عوائق أمام التنمية المستدامة ويفاقم التحديات البيئية والأمنية والسياسية والاقتصادية التي تواجهها البلاد.
الخبير البيئي ليث العبيدي، يصف لرصيف22، الجفاف الذي ضرب المحافظات الجنوبية بـ"الكارثة"، موضحاً: "انعكست آثار تغيّر المناخ في المحافظات الجنوبية بشكل مباشر على الواقع الزراعي لأسباب عدة أهمها تصحّر الأراضي وزحف الكثبان الرملية وانتشار الآفات الزراعية لشحّ المياه السطحية، مما أدى إلى انعدام الأمن الغذائي وسبل العيش، لذا بدأ البعض من سكان السماوة في محافظة المثنى يعتمدون على الآبار، أما في المناطق الأخرى كمحافظة الديوانية جنوبي العراق مثلاً، فلم تنجح العملية لأنها آبار كبريتية شديدة الملوحة".
يتابع العبيدي:" أثّرت التغيرات المناخية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الأهوار التي شهدت موجات نزوح كبيرةً إلى محافظات النجف وكربلاء وبابل والبصرة بسبب قلة الموارد التي يعتمدون عليها كتربية الجاموس وصيد الأسماك وقطع القصب، ناهيك عن المشكلات الاجتماعية الناجمة عن ضغوط تغيّر المناخ كالتنافس على الموارد الطبيعية ومصادر المياه ونشوب النزاعات على مصادر المياه وارتفاع حدّة العنف".
"أجهضت حملي لأن الكَاع صبخة"، بعينين شاردتين وصوت مرتجف تقول نبأ (اسم مستعار، 23 عاماً) من السوير، والتي كادت أن تموت بعد أن تعرضت للإجهاض، نتيجةً لشحّ المياه الصالحة للشرب، إذ إن أغلب المياه التي يستهلكونها في قريتهم تعتمد على طرائق بدائية في تصفيتها من الملح مثل استخدام قطع الشاش (القماش الرقيق)، وبرغم ذلك، أصيبت بارتفاع ضغط الدم في أثناء الحمل.
تقول نبأ: "لم أحصل على التغذية الكافية خلال فترة حملي بسبب قلة الزراعة وضعف الدخل، وأُصبت بارتفاع ضغط الدم بسبب ملوحة المياه، فأجهضت حملي الأخير، خصوصاً أنه تزامن مع موجة جفاف شديدة ضربت منطقتنا العام المنصرم".
تروي نبأ تجربتها لرصيف22، وتقول: "تحمّلت مسؤولية أسرتي بمفردي، بعد أن اتجه زوجي صوب المدينة من أجل البحث عن عمل لتعرّض الأرض التي كنا نعتاش منها للجفاف، وتوجب عليّ توفير المياه والخبز والطعام بأي وسيلة لأبنائي الثلاثة. الجوع وقلة الغذاء وملوحة مياه الشرب والتعب والإرهاق في ظل درجات الحرارة المرتفعة، كانت كلها أسباباً أدت إلى إجهاضي".
تشير أخصائية النسائية والتوليد الطبيبة صفا داود سليمان، إلى أن للتغيرات المناخية وما ينجم عنها من ارتفاع درجات الحرارة، آثاراً سلبيةً على صحة المرأة والجنين خاصةً في المناطق الجافة التي يضطر ساكنوها إلى شرب المياه المالحة.
"يؤدي شرب المياه المالحة إلى احتباس السوائل في جسم الحامل و تسمم الحمل لعدم قدرة الجسم على التخلص من الملوحة، ومن الأعراض الأخرى الخطيرة ارتفاع ضغط الدم المفاجئ والتهاب الكليتين وهو ما يرفع من مخاطر الولادة المبكرة والإجهاض"، تقول سليمان، لرصيف22.
وتفيد سليمان بأنّ التعرض للإجهاد الحراري وقلة تغذية الحامل سيؤديان إلى انخفاض وزن الحامل أو إصابتها بفقر الدم، وهذا سينعكس سلباً على الجنين الذي يتلقى غذاءه من الأمّ عبر الحبل السرّي وتالياً عدم حصوله على تغذية كافية، ما يهدد حياة الأم والجنين معاً.
من جانبها، تفيد نور محمد، المتطوعة مع فريق منظمة أليس في مبادرة العيادة المتنقلة: "أنقذت العيادة المتنقلة الكثير من الحالات المعرّضة للإجهاض؛ لأن نقص إمدادات المياه هو العنوان الأبرز في حياة سكان الناحية، ما يجعل العبء مضاعفاً على النساء والحوامل بالإضافة إلى نقص الرعاية الصحية لعدم توافر مستشفيات ولا عيادات متخصصة".
جفاف ونقص خدمات وفقر الدورة الشهرية
كشف تقرير صادر عن منظمة Women Deliver الأمريكية المعنية بالحقوق الصحية والإنجابية للنساء حول العالم، أن تغيّر المناخ له آثار عميقة على الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، ويزيد حدّة التفاوتات القائمة بين الجنسين. فارتفاع درجات الحرارة والأحداث المناخية المتطرفة مثل الفيضانات والجفاف وموجات الحر تزيد من تعرّض النساء والفتيات للمخاطر الصحية، وتحدّ من قدرتهنّ على الوصول إلى الخدمات.
تقول الفرطوسي: "أزمة الجفاف أثّرت حتى على توفير الفوط الصحية للنساء، وذلك لنفاد الكمية المتوافرة؛ بسبب الفقر الذي ضرب ناحية السوير بعد موت المزروعات وإغلاق الكثير من المحال التجارية، لذا بادرنا إلى توفير الفوط الصحية، والحثّ على النظافة الشخصية، لأن الوتيرة المتوقعة لاستمرار تغيّر المناخ وما ينجم عنه من آثار على الصحة الإنجابية تستدعي اتخاذ إجراءات حاسمة وفورية بشأن التكيّف معها".
ووفقاً للطبيبة سليمان، فإن التغيرات المناخية المتواترة من ارتفاع درجات الحرارة والجفاف قد تسبب اضطرابات الدورة الشهرية، حيث أن "الإجهاد الحراري أحد العوامل الكامنة وراء عدم انتظام الدورة الشهرية، لذا تعاني معظم النساء في المناطق المعرّضة لارتفاع درجات الحرارة من النزيف في أثناء فترة الحيض وتلف البويضات وتالياً تقلّ الخصوبة".
وتردف سليمان: "يمكن أن تؤدي موجات الحر الشديدة أيضاً إلى التهاب بطانة الرحم بسبب التعرق المفرط وارتفاع درجة حرارة الجسم في فترة الحيض بسبب التغيرات الهرمونية، والالتهابات المهبلية خلال فصل الصيف من العوامل الكامنة وراء عدم انتظام الدورة الشهرية، والتي تنتج من زيادة التعرق في المناطق الحساسة، وتسبّب حكّةً في الجلد، ما يزيد الشعور بالانزعاج والتوتر".
رحلة نزوح شاقة
وصلت سارة (اسم مستعار، 32 عاماً) إلى قضاء الزبير في جنوبي العراق، برفقة زوجها وطفليها الصغيرين، حيث اضطرت إلى النزوح من منزلها الكائن في "هور أم الودع"، جنوبي مدينة الناصرية.
تعرّض هور أم الودع، لموجة جفاف شديدة خلال فصل الصيف من العام الحالي، ما جعل ساكنيه يودعونه واحداً تلو الآخر، بحثاً عن مصدر رزق، لفقدان عملهم في الصيد والرعي بعد نفوق الأسماك وموت الجواميس التي يعتاشون منها، ولم يتبقَّ من قاطنيه سوى العشرات، أما باقي البيوت فأصبحت مهجورةً.
تحيط المياه بمنطقة أم الودع في عمق أهوار مدينة الناصرية في هور السناف أو الكرماشية التي تقع في أسفل نهر الفرات على بعد نحو 360 كيلومتراً جنوب شرقي بغداد، بالقرب من آثار مدينة أور التاريخية القديمة، ويسكن أم الودع مربّو الجاموس وصيادو الأسماك، كما تشتهر ببيع القصب والبردي والحصائر، وتبعد عن مركز ناحية كرمة بني سعيد 13 كيلومتراً، وهي إحدى النواحي التابعة لقضاء سوق الشيوخ.
كانت سارة، الحامل في شهرها السابع، خائفةً وقلقةً من عدم قدرتها على الولادة في مرفق صحي آمن في أثناء رحلة نزوحها وتوضح: "شعرت بألم المخاض وأنا في الشهر السابع من حملي، وذهبت على الفور إلى القابلة القريبة من بيتي في أم الودع، لم تمضِ ساعات حتى قررنا نحن والمئات من أهالي القرية النزوح من المنطقة التي أصبحت بلا حياة ولا ماء ولا طعام ولا مصدر رزق".
تستطرد سارة وتقول:"استمرّ ألم المخاض معي طوال رحلة نزوحي التي استمرت ثلاث ساعات، من دون أن أحصل على الرعاية الصحية، وتمكّن زوجي من الوصول إلى عيادة طبية قرب منزلنا الجديد في الزبير، وأنجبت طفلي مبكراً خلال سبعة أشهر فقط من الحمل، لكنه توفي بعد يومين من ولادته".
يشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إلى أن العراقيين يعانون بشكل خاص من انتهاكات حقوق الإنسان بسبب التدهور البيئي الحاد الذي نجم عن الصراعات، وصناعة النفط، وسوء الإدارة الحكومية، كما تشير أحدث تقارير المنظمة الدولية للهجرة إلى أن أكثر من 140 ألف عراقي، موزّعين على 23 ألف عائلة، اضطروا إلى النزوح من منازلهم في وسط العراق وجنوبه بسبب الجفاف والتصحر.
كما كشفت الأبحاث عن علاقة مباشرة بين زيادة درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة خلال الأسبوع السابق للولادة وارتفاع خطر الإملاص بنسبة 6%، خاصةً خلال أشهر الصيف (أيار/ مايو حتى تشرين الأول/ أكتوبر)، مما يعني حدوث نحو أربع حالات إملاص (ولادة طفل دون أن تظهر عليه مظاهر حياة) إضافية لكل 10،000 ولادة.
تشير الفرطوسي، إلى ضرورة النظر إلى التغيّرات المناخية بمنظور حقوقي لحماية المتضررات بشكل أكبر وتوفير شبكات الحماية أيضاً لحمايتهنّ من موجات النزوح بحثاً عن المياه في بيئة أخرى يصعب التأقلم معها، ومتابعة من لم يستطعن النزوح، وتعرضت صحتهنّ الإنجابية للخطر؛ ما أدى إلى ارتفاع نسبة القلق والتوتر لديهنّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يوملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 4 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 6 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...