تلك اليد الصغيرة التي تحاول التشبّث بأي شيء يتدلّى، تنظر من وقت لآخر نحو الوجه الكبير الذي يشاهد هذا كله، و تتوسّله أن يزيح يدها عن أي شيء سوى المكتوب له أن ينقلها إلى الجهة الأخرى من النجاة، لأن النجاة على هذا البرّ هي نجاة مؤلمة، مخيفة، فردية، كلها ألم وكل ما دونها ألم بذاته.
أجبر نفسي على النسيان. إنه يقتحم حياتي بزجاجة نبيذ حمراء ورحلة رومانسية في النيل. أقف أمامه بلا إرادة. أنتظر الصباح الذي سيكرهني فيه. لم يأت بعد، غريب.
بالأمس اشتريت قمصاناً حريرية شفافة، عدت إلى البيت لأرتديها. رحت أراقب جسدي كم يبدو ناعماً في تلك الملابس. أكتافي التي أراها عريضة قليلاً، بدت رقيقة. فكّرت فيك بينما أرتّب القمصان الحريرية في الخزانة. رغم النسيان، الرغبة عالقة في انحناءات هذا الجسد.
لا أحد في العالم يستطيع إجبارك على أن تكون شخصاً سيئاً سوى من أحببت. أعترف أني أخطأت، بل بالغت في الخطأ. أعلم جيداً كيف يرى العالم امرأة تحبّ أكثر من رجل في وقت واحد. أنت حكمت علي أن أكون بلا إخلاص. أفكّر كثيراً فيه: هل سيعلم أنني أفكّر في رجل آخر بينما يسير نحوي؟ حينها أضغط على نفسي أكثر لأنساك. لا شك سيكرهني قريباً، وستنجح محاولاتي في نسيانك بالنهاية وأعود فارغة من كل شيء.
رحت أراقب جسدي كم يبدو ناعماً في تلك الملابس. أكتافي التي أراها عريضة قليلاً، بدت رقيقة. فكّرت فيك بينما أرتّب القمصان الحريرية في الخزانة. رغم النسيان، الرغبة عالقة في انحناءات هذا الجسد... مجاز
تغضبني تلك الفكرة حد الجنون، أن الزمن يمتلكنا لأنه قادر على التلاعب بذاكرتنا الهشة، كيف ستغدو جميع الآلام التي سهرت أتجرّعها مجرّد طيف، سيصعب علي استحضار تفاصيلها فيما بعد، أو تروادني كذكرى بلهاء تضحكني. كيف سأضحك على ذكرى عابرة عن أيام نغّصت علي حياتي؟
لطالما اعتقدت و أنت تغمرني بين يديك أنني سأحمل شيئاً منك الى الأبد، شيئاً ما يلتصق بجسدي كزيت عطري، شيئاً مادياً أتحسّسه كلما اشتقت إليك، ولكنك تلاشيت. وجهك أولاً، لمساتك، و في النهاية عيناك. كل شيء يتسرّب إلى بالوعات الطريق بينما أخرج كل يوم راكضة إلى العمل. ما يصعّد جنوني أكثر أنني أجبر نفسي اليوم على النسيان، حتى لو كنتُ فعلتها ومزقتُ صدرك، فوضعت قطعة منه في جيبي، كان سيأتي يوم أنتزعها فيه وأرميها باشمئزاز، لأنني لا أتذكر كيف وجدت طريقها إلي.
أخاف من الكتابة، لأنها آلتي لاستشراف المستقبل، أدعوها حدساً قوياً أو خاصيتي المرعبة، ولكن أحياناً كثيرة أكتب حدثاً تفصيلياً قبل أن يقع، لذا تجاهلت كثيراً الكتابة عن يومنا الأخير، وعندما انتهينا لم أجد ما أكتبه، لم أجد ذاكرة لحياة بأكملها. أحلامي أيضاً تفاجئني، حلمت مرة أنك تسقط من جدار عال فتهوي أمامي بالضبط، لتتحول الى تمثال إسمنتي لم ينكسر. بقيت على حالك، جسداً متحجراً، مغمض العينين، تحت قدمي. حتى في حلمي تموت بسقطة قوية تقلب كياني، لكن دون أن تصاب بخدش واحد.
يده في يدي، أزهاره في اليد الأخرى، يودعني بضغطة على كفّي قبل أن أصعد الباص المكدّس بالبشر. أفقد توازني مرات و مرات، حتى ألتحم بالجمع الذي يدفعني نحو نقطة من الفراغ، لا يراها أحد و لكن السائق يشعر بوجودها، آلته الضخمة تحدّثه أن هناك مكاناً لي، سيسعني حتى لأقرب محطة، ابتلعتني تلك النقطة، لم أسر إليها خطوة واحدة، وجدت نفسي في النهاية أحتضن الأزهار و أستجدي الأكسجين من بين آباط الناس حولي.
في الطريق الى نقطتي اللامرئية، تقلّصتُ وتمدّدتُ عشرات المرات. تبدلت ذراعاي، وانفرمت قدماي. الرجل الذي يقف أمامي، استبدل ذراعه بذراع زوجته، نصبر جميعاً على ألم الالتحام، لنرتب أجسادنا عند أقرب محطة.
لا غفران بين ذواتي المتداخلة أيضاً، لأنني منحت كل تسامحي إليك، كنت أسامحك وأضمّك وأعلن أني برّأتك من خطاياك التي لم ترتكبها أو ارتكبتها ملء عينيك. كنت أضمّك و أقول: لا بأس، أنت الآن منزّه عن كل دنس لأنك بداخلي... مجاز
نزلتُ، أو بالأدق انبثقت من باب الباص، فلم أر النور سوى اللحظة التي لامست عندها قدماي الأرض. أسير وأرتب كلمات الوداع. في أذني مقطوعة كلاسيكية معزوفة على الكمان. أنتبه لأول مرّة أن الكمان يتنفّس. فجأة يقتصر سمعي على صوت تلك الشهقة التي تفلت من الآلة بين نوتة وأخرى، تلك الأنفاس المتصاعدة تشتتني، فأنزع سماعات الأذن وأشيح بوجهي الى النهر يلمع تحت أضواء المدينة برقة، إنه وحيد الليلة، وساكن. الكوبري المتآكل الذي أسير عليه يبدو حزيناً حين فرّط فيه الجميع، تركوه للصوص استباحوا قطعه المعدنية، فككوه وباعوه خردة. سينهار في أي لحظة مفسداً صفاء المياه اللامعة. تخيل فكرة بحجم كوبري منهار تفسد عليّ شجن النيل. هكذا يبدو التأمل في بلاد آيلة للسقوط، وهكذا يبدو قلقي عندما أكون وحيدة كالنهر.
سأتذكرنا دوماً كصراع قائم من الاعتراف، التعرّي، والانسحاب المفاجئ نحو العتمة والسكوت، وكأن كل محاولة للسقوط نحو ذات أكثر اكتمالاً- ناهيك عن أنها تجربة مؤلمة- سقوط في عودة لا نهائية إلى غابة الذات العدمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.