شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعد تطورات المنطقة... هل تعيد إيران التفكير بتغيير

بعد تطورات المنطقة... هل تعيد إيران التفكير بتغيير "العقيدة النووية"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 12 سبتمبر 202402:31 م

أثارت المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، والمتمثلة في الضربة الإيرانية الموجهة مباشرةً إلى إسرائيل، في 14 نيسان/ أبريل 2024، ردّاً على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق وتفجيرها وقتل قائد كبير في الحرس الثوري في بداية شهر نيسان/ أبريل نفسه، الخطاب المؤيد لتغيير ما تطلق عليه طهران "الفتوى النووية"، والبدء بتطوير سلاح نووي بأقصى سرعة، خاصةً إذا حاولت إسرائيل الردّ بضرب المنشآت النووية الإيرانية.

هذا الخطاب المؤيد لتطوير سلاح نووي ليس جديداً في إيران، فمن حين إلى آخر تخرج بعض الشخصيات المحسوبة على النظام لتردد التهديدات نفسها، والتي قد تكون جزءاً من الحرب الكلامية بين طهران وتل أبيب. لكن في الآونة الأخيرة أصبح هذا الخطاب سائداً، ويطرح أسئلةً عدة أبرزها: ما هي السياسة النووية الإيرانية؟ وما هي قصة الفتوى النووية التي تمسّك بها المسؤولون الإيرانيون في كثير من المناسبات؟ وهل يمكن أن نشهد في المستقبل تطوير إيران لسلاح نووي لمواجهة تل أبيب وواشنطن؟

"محور الشر"... بداية التفكير في الفتوى النووية

عندما كانت طهران تنتظر الردّ الإسرائيلي على الهجوم الإيراني بالطائرات المسيّرة والصواريخ ضدّ تل أبيب، في منتصف شهر نيسان/ أبريل الماضي، صرّح الجنرال أحمد حق طلب، قائد فيلق حماية وأمن المنشآت النووية التابع للحرس الثوري الإيراني، في 18 نيسان/ أبريل نفسه، قائلاً: "إذا كان النظام الصهيوني يريد استخدام التهديد بمهاجمة المراكز النووية في بلدنا، كأداة للضغط على إيران، فمن الممكن مراجعة العقيدة النووية وسياسات الجمهورية الإسلامية والانحراف عن الاعتبارات السابقة".

وفي الوقت نفسه، ظهر النائب البرلماني المتشدد والقائد السابق في الحرس الثوري الإيراني جواد كريمي قدوسي، ليقول: "إذا صدر الأمر فلن يكون هناك سوى أسبوع واحد قبل الاختبار النووي الأول". وافترض قدوسي، أن الفترة الزمنية نفسها ستكون مطلوبةً لاختبار صواريخ بمدى يصل إلى 12،000كيلومتر. وأضاف: "إيران تحتاج فقط إلى نصف يوم لإنتاج اليورانيوم المخصّب بنسبة 90% اللازم لبناء القنبلة النووية".

لكن ما الذي يقف دون تصنيع إيران سلاحاً نووياً كما قال المسؤولون الإيرانيون؟ الإجابة باختصار: "الفتوى النووية" التي أطلقها الزعيم الأعلى الإيراني علي خامنئي، قبل سنوات طويلة. 

أثارت الضربة الإيرانية لإسرائيل والتي جاءت رداً على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، الخطاب المؤيد لتغيير ما تطلق عليه طهران "الفتوى النووية"، والبدء بتطوير سلاح نووي بأقصى سرعة

بالرجوع إلى الوراء، أي إلى ما يزيد قليلاً عن عشرين عاماً، تحدث الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش، في كانون الثاني/ يناير 2002، وهو يشير مباشرةً إلى كوريا الشمالية وإيران والعراق، بأن حكومات تلك البلاد تمثّل "محور الشر" الذي يهدد السلام العالمي، من خلال محاولتها الحصول على أسلحة الدمار الشامل.

كان للخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي أمام الكونغرس، أثراً غير عادي على القيادة الإيرانية، خاصةً في الوقت الذي كان الجميع فيه ينتظر أن تكون وجهة الغزو الأمريكي التالي بعد أفغانستان، العراق أو إيران. ازدادت المخاوف في طهران أكثر فأكثر عندما تم الكشف عن المنشآت النووية الإيرانية السرّية في آب/ أغسطس 2002، وأبرزها منشأة نطنز وآراك للمياه الثقيلة. من هنا بدأت القيادة الإيرانية باللجوء إلى مسألة "الفتوى النووية"، للخروج من هذا المأزق، ومنع أن تكون إيران هي التالية على جدول الغزو الأمريكي.

غزو العراق... والتأكيد على الفتوى النووية

أنكرت طهران رغبتها في الحصول على أسلحة نووية مراراً وتكراراً، وازداد الحديث عن هذا الأمر في خطابات علي خامنئي بالتزامن مع الغزو الأمريكي للعراق في آذار/ مارس 2003. ففي اليوم التالي لمهاجمة الولايات المتحدة،العراق، في 21 آذار/ مارس 2003، قال خامنئي: "القول بأن الجمهورية الإسلامية تبحث عن الأسلحة الكيماوية والقنابل الذرية كذب محض...نحن لسنا مع القنبلة النووية ومبادئنا الإسلامية لا تتفق مع هذه الأمور".

وكرر خامنئي، الكلام نفسه بعد الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، في آب/ أغسطس 2003، قائلاً: "الأسلحة النووية لن تقدّم شيئاً. نحن لا نتفق مع أسلحة الدمار الشامل بهذه الطريقة على الإطلاق"... واستمرت تصريحات خامنئي للتأكيد على الفكرة نفسها طوال السنوات الماضية.

لكن حسن روحاني، الرئيس الإيراني الأسبق (2013-2021)، عندما كان رئيساً للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، جعل من هذه التصريحات روايةً رسميةً للنظام الإيراني. ففي عام 2004، عندما كان يقود المفاوضات النووية مع القوى العالمية، ولبثّ الطمأنينة في نفوس الأوروبيين، طرح تصريحات خامنئي الرافضة للسلاح النووي، على أنها فتوى دينية تحرّم على إيران الحصول على الأسلحة النووية، وبرهن على كلامه بخطبة جمعة لخامنئي، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، قال فيها:"نحن لا نفكر في الأسلحة النووية. لقد قلت مرات عديدة إن سلاحنا النووي هو هذه الأمة، وأسلحتنا الذرية هي هؤلاء الشباب. لا نريد إنتاج أسلحة نووية وقد عبّرنا عن رأينا الشرعي في هذه المسألة".

وفي مقابلة صحافية مع روحاني، في عام 2012، قال إنه لجأ إلى استخدام كلمات هذه الخطبة التي أدلى بها خامنئي، وأعطاها صورةً دينيةً للتأكيد على موقف إيران من الأسلحة النووية، وطمأنة الأوروبيين على سلمية البرنامج النووي الإيراني.

ولجأت طهران في خضم أزمتها النووية في عام 2010، وتحويل ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، إلى توثيق تصريحات خامنئي عن تحريم الأسلحة النووية، بأنها فتوى دينية رسمية صادرة عن قمة هرم السلطة في البلاد. 

من أقوال خامنئي: "القول بأن الجمهورية الإسلامية تبحث عن الأسلحة الكيماوية والقنابل الذرية كذب محض...نحن لسنا مع القنبلة النووية ومبادئنا الإسلامية لا تتفق مع هذه الأمور".

وبإصرار الحكومة الإيرانية وتأكيدها على فتوى خامنئي بتحريم الحصول على الأسلحة النووية، نجحت الفتوى النووية في تجنيب إيران صراعاً واسع النطاق مع القوى العالمية. على سبيل المثال، في المفاوضات النووية التي جرت بين عامي 2013 و2015، والتي أدت في النهاية إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية، والذي شهد موافقة طهران على فرض قيود على برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات، صرّح وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كيري، في عام 2014، قائلاً: "نحن نأخذ فتوى خامنئي على محمل الجد. إن الفتوى الصادرة عن رجل دين هي بيان قوي للغاية حول النية ونحن نحتاج إلى تدوينها، والشرط هنا هو ترجمة الفتوى إلى تفاهم دولي ملزم قانوناً ومعترف به عالمياً يتجاوز فكرة الإيمان داخل المعتقد الديني".

هل الفتوى النووية ثابتة ولا يمكن تغييرها؟

في عام 2020، صرّح وزير الاستخبارات الإيراني في إدارة حسن روحاني، محمود علاوي، في مقابلة قائلاً: "صناعتنا النووية سلمية، وقد نصّت فتوى القائد (خامنئي)، على تحريم الأسلحة النووية، ولكن إذا كان هناك ما يقلق إيران فإنه لن يكون خطأ إيران، لكن خطأ من أخافوا إيران، على الرغم من أنه في الظروف العادية ليست لدى الجمهورية الإسلامية مثل هذه النية والخطة"، في إشارة إلى امتلاك سلاح نووي.

كان التصريح السابق لوزير الاستخبارات الإيراني، بدايةً لموجة جديدة من الخطاب المؤيد لامتلاك إيران سلاحاً نووياً، وعكس الفتوى النووية لخامنئي، بعد سنوات طويلة من التأكيد الرسمي على وجود فتوى دينية تمنع طهران من امتلاك أسلحة الدمار الشامل.

صحيح أن تصريح محمود علاوي، أثار في ذلك الوقت ردود فعل غاضبةً، خاصةً من المسؤولين في إدارة روحاني المعتدلة، لكن في الوقت نفسه ظهرت أصوات لم تتردد في تأييد تصريحاته، بل تزيد عليها، إذ قال النائب البرلماني أحمد أردستاني، المقرّب من النظام، بعد أيام قليلة من تصريح وزير الاستخبارات: "الفتوى الدينية تتغير حسب مقتضيات وظروف الزمان والمكان، كما قام القائد في فترة من الزمن ووفقاً للظروف الدبلوماسية والسياسية والأمنية المتعلقة بقضية الأنشطة النووية بتحريم الأسلحة النووية، يمكن أن يغيّرها في ظروف أخرى".

ومن حينها لم يتوقف الحديث في مناسبات مختلفة عن إمكانية تغيير الفتوى الدينية المتعلقة بالأسلحة النووية التي أطلقها خامنئي منذ سنوات، وظهر العديد من المسؤولين المحسوبين على النظام، والذين في كثير من الأحيان يتحدثون بلسانه بشكل غير مباشر، ليؤكدوا على أن أي فتوى دينية يمكن عكسها، وأن الفتاوى ليست دائمةً، وتصدر وفقاً لظروف اليوم.

وتحدث رجال دين شيعة عن إمكانية تغيير فتوى خامنئي النووية، لأن الفتوى ليست ثابتةً ويمكن تنقيحها وفقاً للمتغيرات، وأن الفتاوى الصادرة عن رجال الدين الشيعة قابلة للمراجعة حسب احتياجات العالم الإسلامي، وفي كثير من الأحيان يرى الفقهاء الشيعة أن الظروف تحتّم إعادة النظر في أحكام وفتاوى أصدروها، حفاظاً على مصالح الإسلام.

بعبارة أخرى، إذا عددنا أن الفتوى النووية التي أصدرها خامنئي بأن استخدام وإنتاج أسلحة الدمار الشامل محرّمان، فهذه تُعدّ فتوى أوليةً، يمكن بتغيير الديناميكيات أن تتغير، ومن الممكن أن تنظر طهران إلى إنتاج مثل هذه الأسلحة على أنه ضرورة كرادع للأعداء الذين بدأوا بمهاجمة الجمهورية الإسلامية. كما أن إصدار فتوى تحريم الأسلحة النووية كان في البداية ضرورياً لمنع نجاح القوى العالمية في تصوير إيران على أنها مصدر لتهديد عالمي، لكن في الوقت نفسه إذا هاجمت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية على سبيل المثال، أو قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية داخل الأراضي الايرانية، فإن الفتوى قد تخضع للمراجعة والتغيير وفقاً للظروف المتغيرة وستقوم طهران بالحصول على الأسلحة النووية لردع الأعداء. 

بعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق في الثمانينيات تم عكس الفتوى الدينية للخميني، وبدأت الحكومة الإيرانية باستكمال البرنامج النووي الذي بدأه محمد رضا بهلوي، وتحديثه إلى درجة أقلقت المجتمع الدولي، لذلك يمكن القول إن الحرب العراقية الإيرانية كانت المفتاح الرئيسي لفهم سياسة إيران

ومن الأمثلة البارزة على إمكانية تغيير الفتاوى الدينية الصادرة عن أهم رجال الدين الشيعة في إيران، فتوى مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، روح الله الخميني، في الثمانينيات، في الموضوع نفسه. بدأ البرنامج النووي الإيراني في عهد آخر ملوك إيران محمد رضا بهلوي، قبل ثورة عام 1979.كان الشاه الإيراني يرى أن تطوير برنامج نووي إيراني سيكون البوابة الأساسية للتصنيع والتحديث. أكد الأب الروحي للبرنامج النووي الإيراني في عهد الشاه، أكبر اعتماد، هذا الأمر قائلاً: "من أجل تحقيق اقتصاد صناعي ومعايير اجتماعية عالية، كان لزاماً على إيران أن تحل مسألتين أساسيتين: احتياجات الطاقة واكتساب الصناعات عالية التقنية والتكنولوجيا النووية".

كما كانت أيضاً للشاه رؤية أخرى تتعلق بامتلاك إيران برنامجاً نووياً، وهي توسيع وتأسيس قدرة نووية محلية كسلاح ردع لمواجهة خصوم إيران الإقليميين، دون الحاجة إلى بناء ترسانة نووية كبرى قد تعرّض أمن إيران للخطر، وفي الوقت نفسه تظلّ لدى إيران قدرة على تطوير سلاح نووي إذا اشتدت الحاجة إليه. وبالمناسبة هو منطق القيادة الإيرانية الحالية نفسه.

لكن عندما انتصرت ثورة 1979 التي أوصلت رجال الدين إلى السلطة، أوقفوا البرنامج النووي الذي بدأ في عهد الشاه، بزعم أن عملية استمرار البرنامج النووي ستكون ذات تكاليف باهظة، والحصول على التكنولوجيا النووية سيجعل إيران تعتمد على التكنولوجيا الغربية، وهو ما يعارض إحدى ركائز الثورة الإيرانية، "الاستقلال التام عن القوى الغربية". صرّح الخميني حينها، بأن استخدام الأسلحة النووية والكيماوية محرم شرعاً، ولا يجوز لإيران إنتاجها أو استخدامها. 

لكن بعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق في الثمانينيات (1980-1989)، تم عكس الفتوى الدينية للخميني، وبدأت الحكومة الإيرانية بعد وفاة الخميني باستكمال البرنامج النووي الذي بدأه محمد رضا بهلوي، وتحديثه إلى درجة أقلقت المجتمع الدولي، لذلك يمكن القول بوضوح إن الحرب العراقية الإيرانية كانت المفتاح الرئيسي لفهم سياسة إيران في ما يخصّ الأسلحة النووية.

وبالعودة إلى السؤال حول إمكانية أن يعكس خامنئي فتواه النووية وقت الحاجة؟ فالإجابة بكل وضوح هي نعم.حدث ذلك بوضوح في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. فعندما بدأ العراق بمهاجمة المدن الإيرانية المكتظة بالسكان، قال الخميني حينها إن الهجوم الإيراني المضاد على المناطق السكانية العراقية أمر غير مقبول وغير مسموح به، وله خطاب شهير في تشرين الأول/ أكتوبر 1980، قال فيه: "جيشنا مقيّد، وقد كلّف الإسلام جيشنا بمهمة، لكن جيشهم (الجيش العراقي)، غير مقيّد وإذا دمّروا مدينةً واحدةً ستتم تهنئتهم وجيشنا لا يفعل ذلك، ولا يستطيع أن يفعل ذلك". وحتى عندما حاول قادة الحرس الثوري إقناعه بالبدء بمهاجمة المناطق السكانية العراقية، بدلاً من الوقوف لصدّ الهجمات العراقية فحسب، قال: "أيدينا مقيّدة، لأننا لا نريد أن يهلك الناس العاديون الأبرياء، وأيديهم مفتوحة، ولو لم يقيّد الإسلام أيدي إيران لما تبقّى شيء من بغداد والبصرة".

لكن بعد ثلاثة أشهر من هذه التحذيرات والتصريحات الرافضة لمهاجمة المدن العراقية، وافق الخميني على عكس الفتوى، ويقول حسين علائي أحد قادة الحرب في ذلك الوقت، في كتاب "التاريخ التحليلي للحرب"، إن الخميني أصدر أمراً باتخاذ إجراءات مضادة والبدء بمهاجمة المدن العراقية، وكان ذلك في عام 1984، وبدأ الحرس الثوري الإيراني بعمليات الردّ والمهاجمة التي استمرت حتى نهاية الحرب، وهذا يفسّر أن الفتوى النووية لخامنئي ما كانت سوى حيلة مؤقتة لتقليل الضغوط الدولية على إيران.

هل يمكن لإيران تطوير سلاح نووي؟ ومتى؟

يزعم المسؤولون الإيرانيون من حين إلى آخر، بأن طهران تمتلك كل العناصر التقنية اللازمة لامتلاك الأسلحة النووية، خاصةً بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وفشل المفاوضات النووية اللاحقة في التوصل إلى صفقة لإحياء هذا الاتفاق، ولجوء إيران إلى تسريع وتيرة برنامجها النووي رداً على تدمير واشنطن للصفقة النووية، وإعادة فرض العقوبات المفروضة على طهران.

وقبل الإجابة عن سؤال: هل يمكن لإيران تطوير سلاح نووي؟ لا بد من الإشارة إلى أن الأسلحة النووية هي مجموعة واسعة من الأنشطة السياسية والتقنية التي تحتوي على إنتاج المواد الانشطارية مثل اليورانيوم عالي التخصيب أو البلوتونيوم، وتصميم الرؤس الحربية اللازمة لحمل القنابل النووية، وبناء أنظمة الصواريخ الحاملة لهذه القنابل، والقرار السياسي والعسكري اللازم للبدء بهذه العملية. 

السبيل الوحيد أمام إيران لصدّ أي هجوم مستقبلي هو استكمال وتسريع البرنامج النووي، للحصول على المعرفة النووية اللازمة لتصنيع سلاح رادعاً أمام أعدائها.

وقد سلكت إيران طريقاً طويلاً وصعباً امتد لعقود للحصول على ما سبق، فقد بدأت برنامجاً نووياً سرّياً منذ التسعينيات، وأوقفته في عام 2003، بسبب الغزو الأمريكي للعراق، كما ذكرنا سابقاً، وحاولت بعد سنوات من غزو العراق استئناف البرنامج النووي والحصول على المواد الانشطارية اللازمة لتصنيع قنبلة نووية، وهي اليوم تملك هذه المواد بكميات كبيرة وفقاً لتقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي قالت إن المدة التي تحتاجها إيران لتصنيع قنبلة نووية هي أشهر وليست سنوات. وقد انتقد رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، امتلاك إيران لكميات هائلة من اليورانيوم عالي التخصيب الذي يكفي لصنع عدد كبير من القنابل النووية، منذ عام 2018، أي بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وهذا يوضح أن إيران دولة عتبة نووية. صحيح أنها لا تمتلك حتى الآن أسلحةً نوويةً، لكنها تمتلك كل ما تحتاجه لصنع القنابل النووية.

فمن ناحية القدرة التقنية تستطيع إيران وفقاً للتقارير أن تصنع قنبلةً نوويةً في مدة زمنية قصيرة، لكن متى ستلجأ إيران إلى تصنيع سلاح نووي؟

أجابت الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات عن هذا التساؤل. فبعد أن حرّم القادة الدينيون الجدد لإيران بعد ثورة 1979، استكمال البرنامج النووي الذي أسسه محمد رضا بهلوي، لعب استخدام صدام حسين للأسلحة الكيماوية خلال حربه مع إيران دوراً أساسياً في قرار إيران السعي للحصول على رادع نووي، خاصةً وسط تجاهل المجتمع الدولي في ذلك الوقت لانتهاكات العراق وشكاوى إيران لجذب الانتباه الدولي للفظائع التي خلّفها استخدام العراق للأسلحة الكيماوية ضد الإيرانيين.

وهذا ما عزز الفكر الإيراني في ما يخص السياسة النووية، ففي حين أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تمتلك الكثير من الحلفاء، ولا دعم المجتمع الدولي، لمنع استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّها، فالسبيل الوحيد أمامها لصدّ أي هجوم مستقبلي هو استكمال البرنامج النووي وتسريع العمل فيه، للحصول على المعرفة النووية اللازمة لتصنيع سلاح نووي ليكون رادعاً أمام أعدائها.

ويقول هاشمي رفسنجاني، الرئيس الإيراني الأسبق (1989-1997)، وواحد من أهم مؤسسي الجمهورية الإسلامية في إيران، في مذاكرته: "التعاليم الأخلاقية للعالم لا تكون فعالةً عندما تصل الحرب إلى حالة خطيرة، ويغمض العالم عينيه عن الاعتداءات التي تُرتكب في ساحة المعركة. يتعيّن علينا أن نجهز أنفسنا بالكامل للاستخدام الهجومي والدفاعي للأسلحة الكيمائية والبيولوجية والذرية".

لقد خلّفت الحرب العراقية الإيرانية آثاراً لا يمكن نسيانها على النفسية الإيرانية والسياسة كذلك، فالخسائر التي تكبدتها إيران من حربها مع العراق الذي استخدم ترسانته الهائلة من الأسلحة الكيمائية والتقليدية، ما شكل تهديداً أمنياً خطيراً للجمهورية الإسلامية حديثة النشأة، دفع القادة الإيرانيين إلى توسيع النشاط النووي للبلاد.

صحيح أن القيادة الإيرانية أوقفت برنامجها النووي السرّي في عام 2003، خوفاً من التهديدات الأمريكية في ذلك الوقت وما حدث في أفغانستان والعراق، وأصدرت الفتوى النووية التي تؤكد على عدم نية إيران امتلاك أسلحة نووية في مناورة لتجنّب إعطاء أي ذريعة لواشنطن لغزو إيران، وصحيح أيضاً أن القيادة الإيرانية تدرك جيداً أن تطوير سلاح نووي بشكل علني ستكون له تكاليف وتداعيات سياسية ودبلوماسية باهظة تهدد الأمن القومي الإيراني، لكن هذا لا يجعل لجوء إيران إلى الأسلحة النووية أمراً مستحيلاً.

ومع خروج المواجهة بين طهران وتل أبيب إلى العلن بعد سنوات طويلة من حرب الظلّ بين العدوّين، إذا افترضنا على سبيل المثال أن طهران قررت في أي وقت من الأوقات الرد على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في طهران، أو قامت تل أبيب بتنفيذ أي عملية اغتيال رفيعة المستوى أخرى داخل الأراضي الايرانية، أو هاجمت المنشآت النووية الإيرانية بشكل مستفز، حينها سنشهد تغييراً كبيراً في السياسة النووية الإيرانية. فعند حدوث أي تهديد للبيئة الإستراتيجية والأمنية لإيران، ستقوم طهران على الفور باستخدام كل إمكاناتها النووية لتصنيع سلاح نووي دون النظر إلى الأيديولوجيات أو الفتاوى الدينية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image