شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رحيل الفنان حلمي التوني... دافع بريشته عن جسد المرأة ضد الأصولية

رحيل الفنان حلمي التوني... دافع بريشته عن جسد المرأة ضد الأصولية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 10 سبتمبر 202402:22 م

بعد دقائق من إعلان خبر وفاة الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني (1934-2024)، ضمّت مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لمئات اللوحات التي رسمها طوال مسيرة 90 عامًا من العمل اليومي.

ولم تكشف تلك اللوحات عن غزارة إنتاجه فقط، وإنما أظهرت انتماءاته القومية على نحو واضح، فقد انتمى شابًا إلى مثقفي فترة التحرر الوطني، وتورط في القومية العربية وأحلامها في الاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية. واعتبر منذ نكبة العام 1948 أن فلسطين قضية شخصية بقدر ما هي قضية إنسانية. 

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

الفنان العروبي 

اختبر التوني إيمانه بالعروبة في محطات ومحكات رئيسية؛ فقد عايش تجربة الحرب الأهلية في لبنان بكافة تفاصيلها خلال عمله مع جريدة السفير، وانخرط في صناعة الملصقات السياسية المعبرة عن انحيازه لفصائل الثورة الفلسطينية.

كما عايش لحظة خروج الفلسطينيين من لبنان في العام 1982 عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ثم راقب في العام 1990 الآثار المترتبة على الغزو العراقي للكويت، التي عمل فيها لعدة سنوات مع مجلة العربي الكويتية العريقة وعدّها "نكبة جديدة"، وهي كذلك بالفعل.

وعلى الرغم من ذلك، ظل تعلقه بفلسطين كما هو، لم يتراجع ولم يفقد إيمانه بعدالة قضيتها إلى أن انتقل.

وفي مقابل الانشغال القومي، أظهرت أعمال حلمي التوني انحيازه المطلق للمرأة التي كانت الموضوع الرئيس للوحاته المنتمية إلى ما يسميه النقاد "التعبيرية الغنائية". وهي ذات طابع كرنفالي يحتفل بالألوان الصاخبة والحية لتجديد فكرة الاحتفال.  

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

سرديات شعبية

واستثمر صاحبها فيما تختزنه ذاكرته من علامات وسرديات مصدرها الحكايات الشعبية، بما تشمله من جوانب فانتازية وأسطورية تمجد الأفعال الخارجة عن المألوف، والتي تبتكر أساطيرها وتخلط بيسر بين الواقع والأحلام وتطبق قوانين السريالية، ولكن من خلال نموذج محلي خلاق يعزز من حضور الأسطورة في الواقع اليومي.

ويرى البعض أن لوحات التوني كانت تستكمل عمل الفنان الشعبي على نحو ما، لكن بأدوات أكثر عصرية وانطلاقًا من وعي تام بالدلالات التي تنتجها الموتيفات والعلامات التي غمرت لوحاته.

لم تكشف اللوحات التي ظهرت عقب إعلان وفاة التوني على مواقع التواصل عن غزارة إنتاجه فقط، وإنما أظهرت انتماءاته القومية على نحو واضح، فقد انتمى شابًا إلى مثقفي فترة التحرر الوطني، وتورط في القومية العربية وأحلامها في الاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية. واعتبر منذ نكبة العام 1948 أن فلسطين قضية شخصية بقدر ما هي قضية إنسانية

وبدا واضحًا أن التوني، المتخصص في التصوير الزيتي والتصميم، تأثر بما درسه من فنون الزخرفة، إذ أن غالبية اللوحات اعتنت بهذا الجانب الزخرفي، وبدت وكأنها استعادة لفن "المنمنمة" الفارسية، وهو فن شائع في الحضارة الإسلامية.

ومن جهة أخرى، اعتنى التوني في أعماله بالأسطح وعمليات التحضير والترصيع اللوني، مستعيدًا مهارة فنان الخيامية، وهو فن مصري يقوم بصورة رئيسية على عمليات الترصيع "من الفعل رصع" بالقماش وصياغة الموتيفات الشعبية. كما أعطى اهتمامًا يندر أن يتكرر لأوضاع الجلوس، واتسمت خطوطه بليونة وانسيابية تلائم الطبيعة الغنائية للوحاته.

والمتأمل في لوحات التوني لا يفوته إدراك افتنانه بالجسد الأنثوي وجمالياته، وهو افتتان جاء من موقف تقدمي قاوم به الأصوات التي تعالت في سبعينيات القرن الماضي داعيةً لعزل الجسد الأنثوي ومقاومة حضور المرأة في المجال العام استجابة لنزعات أصولية. 

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

خصوبة الماضي في مواجهة فقر الحاضر

ومن المثير حقًا أن التوني، في سياق ولعه بالتعبيرية الغنائية، انتابته حالة من حالات النوستالجيا خصبت حنينه إلى الماضي، وقادته إلى تراثه المصري القديم، وعرف الطريق إلى طفولته من جديد. كما أعاد النظر في جداريات مقابر بني حسن وتونا الجبل قريبًا من مسقط رأسه، حيث ترسخت في وعيه البصري الحالة التي أسميها حالة "نفرتاري"، وهي الحالة التي صارت إطارًا وضع فيه دائمًا صورة لكل سيدة أراد أن يرسمها بكامل البهاء. فلم تظهر نفرتاري في جداريات معبد رمسيس الثاني إلا وهي في حالة احتفال بجسدها، واحتفظ التوني بهذا المعنى، وإلى جوار ليونتها بصلابة الخطوط التي عرف بها كيف نحت وجه أخناتون. 

افتتان التوني بالجسد الأنثوي جاء من موقف تقدمي قاوم به الأصوات التي تعالت في سبعينيات القرن الماضي داعيةً لعزل الجسد الأنثوي ومقاومة حضور المرأة في المجال العام استجابة لنزعات أصولية.

وفي معرضه الذي وجه تحية إلى نفرتاري وأخواتها، تحضر الرموز المصرية المألوفة والمعروفة في جداريات المعابد وموائد القرابين، وهي: الهدهد، زهرة اللوتس، السمكة، والأخيرة لها دلالات معروفة في الوعي الشعبي وتأتي في الأحلام قرينة الخير وحسن الطالع.

وفي واحدة من أجمل اللوحات، تأخذ نفرتاري قبلتها من فم الهدهد، وهو طائر له مكانة كبيرة في التراث المصري القديم وفي التراث الديني لارتباطه بقصة الملك سليمان.

تلازمت صورة المرأة في لوحات التوني مع علامات راسخة عنده، منها الفاكهة التي ارتبطت بالمتعة والغواية، إلى جانب الطائر الذي يشد المرأة إلى أفق سماوي ويمنح حضورها قدرات أسطورية تفارق بها أرض الواقع. 

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

أبيض وأسود

في مجموعات أخرى، استعاد مشاهد راسخة في أفلام الأبيض والأسود لتفاصيل الحياة اليومية خلال فترات من الماضي التي لم يكن ينظر إليها بغضب، بل بكامل التقدير والإجلال. وأعاد تصور حالات الحب والغزل والزواج التي تجمع بين "الأفندي" المصري التقليدي ونساء الثلاثينيات، وأجرى الكثير من التحوير واهتم بالمبالغات الكاريكاتيرية التي بثت في اللوحات الكثير من الطرافة والروح الكوميدية.

واهتم في لوحات أخرى بتقديم مشاهد غير مألوفة تعيد صياغة علاقات التراتب والبطريركية في عالم الزواج والعلاقات الاجتماعية. وأعطى للزوجة ملابس الزوج، وأخذت ملامحها سمات ذكورية، غير أنه جملها بالمساحيق والألوان التي أكدت معنى المفارقة، كما في اللوحة الشهيرة التي وضع فيها بنت البلد فوق الأسد ومنحها قدرات خارقة مستلهمًا عالم السيرة الهلالية، وتحول أبو زيد الهلالي على يديه إلى امرأة ترتدي الطربوش. 

في سياق ولعه بالتعبيرية الغنائية، انتابته حالة من حالات النوستالجيا خصبت حنينه إلى الماضي، وقادته إلى تراثه المصري القديم، وعرف الطريق إلى طفولته من جديد. كما أعاد النظر في جداريات مقابر بني حسن وتونا الجبل قريبًا من مسقط رأسه

وتكررت لديه النوافذ والشرفات التي كانت أقرب إلى شاشات عرض سينمائي لأوجه الفتنة الأنثوية، وتجلت في لوحاته حرفية بالغة في إثراء اللوحة بعلامات باذخة.

وفي مجموعة أخرى، هناك احتفال بالجسد الأنثوي البدين في محاكاة لم يكررها كثيرًا لأعمال الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو (1932-2023). وظل التوني منحازًا للأجساد المتناسقة التكوين التي تحتفي بأنوثتها، وترسم ثوبها، وترصعه بالورود الشعبية، وتدير حردة الصدر بحساب، وتجعل من فتحة الصدر بابًا أو نافذة على حديقة محرمة. 

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

لوحات حلمي التوني

ونالت المجموعات التي رسمها التوني بمنطق الأيقونات القبطية شعبية كبيرة لأنها لوحات شابهت وجوه الفيوم إلى حد كبير. وبالمثل، نالت مجموعته التي انطلقت من الأغنيات المصرية اهتمامًا كبيرًا لأنها اعتمدت على فن الحروفية وأعادت تأويل معاني الأغنيات.

وفي الأعمال التي رسمها دعمًا للثورة الفلسطينية، هناك عناية فائقة بالزخارف المستوحاة من الثوب الفلسطيني ونسيجه اليدوي المتميز، واستلهام من العلامات الراسخة في الذاكرة، خاصة رمزية المفتاح المرتبطة بحق العودة.

وقبل وفاته، كتب عن المرأة الفلسطينية مستعيدًا عبارات وضعها في كتابه "هِيَ" الصادر عن دار الفتى العربي عام 1979:

"هي.. شامخة مثل الجبال

هي أمي.. هي وطني.. هي فلسطين.".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image