فرضت الظروف الأمنية الإقليمية المركَّبة تحديات واسعةً، حرَّكت بدورها معدلات الإنفاق العسكري، وأملت على الجميع تجاوباً مع بيئة أمنية شديدة التقلُّب، لا سيما في ظل صراعات متصاعدة مثل حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، وإرهاصات حرب إقليمية شاملة تدفعها تحولات سياسية غير مسبوقة.
ربما كان لهذه التحولات بالغ الأثر في تحفيز حكومات عربية على إعادة تقييم الأولويات الأمنية، والإنفاق الدفاعي، وخطط المعدات، لمواجهة تنامي التفوق العسكري الإسرائيلي، وتأثيره في فرض سياسات إقليمية على منطقة تُعدّ الأكثر التهاباً على مستوى العالم، حسب الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ونائب رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط.
ويتلاقى تقدير فهمي، مع تقرير المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، الذي يلقي الضوء على "التوازن العسكري وسط انعدام الأمن العالمي خلال عام 2024". وبرغم شمولية التقرير، لكنه لا يتجاهل حسابات الدول العربية بمنظور عسكري، وتفوق التسليح النوعي الإسرائيلي في المقابل؛ وهو ما وضع دولةً مثل السعودية في المركز الخامس عالمياً في الإنفاق العسكري عام 2023، ووصول معدل إنفاقها إلى 69.1 مليار دولار، بعد الولايات المتحدة صاحبة المركز الأول بمعدل إنفاق 905.5 مليارات دولار، والصين 215.5 مليارات دولار، وروسيا 105.5 مليارات دولار، والهند 73.6 مليارات دولار، ثم المملكة المتحدة 73.5 مليارات دولار، حسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).
ارتفاع معدلات الإنفاق العسكري الإسرائيلي
عربياً، يزداد المشهد تفاقماً بارتفاع معدلات الإنفاق الأمني الإسرائيلي، في 2022 فقط، بنسبة 4.5% من إجمالي الناتج القومي، وفق معطيات مجموعة البنك الدولي، ووصول ميزانية الدفاع الإسرائيلية خلال العام الجاري 2024، إلى 26.56 مليار دولار، بعد اقتصارها العام السابق 2023 على 23.52 مليار دولار، حسب صحيفة "غلوبس" العبرية المتخصصة في الملفات الاقتصادية.
إذا كانت دول عربية قد تحصَّلت على مبتغاها نسبياً من صفقات التسليح مثل الإمارات التي تحاصصت مع إسرائيل تسليحاً نوعياً متفوقاً، تجلَّى في حصولها على صفقة مقاتلات أمريكية من طراز F-25 (الشبح)، إلا أن خناق تجوُّل الأسلحة في المنطقة العربية ما برح مكانه
وإذا كانت دول عربية قد تحصَّلت على مبتغاها نسبياً من صفقات التسليح مثل الإمارات التي تحاصصت مع إسرائيل تسليحاً نوعياً متفوقاً، تجلَّى في حصولها على صفقة مقاتلات أمريكية من طراز F-25 (الشبح)، إلا أن خناق تجوُّل الأسلحة في المنطقة العربية ما برح مكانه، لا سيما إذا دار الحديث عن مصدر التسليح الأمريكي، وعلاقته باتفاق ضمان التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي، أو ما يُعرف بــQME Qualitative Military Edge، الذي يُعدّ أحد مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية، وتلتزم بموجبه إدارات البيت الأبيض المتعاقبة بالحفاظ على التفوّق النوعي العسكري، والتقني، والتكتيكي، وغيرها من الأفضليات لإسرائيل، ما يمكِّنها من ردع أي خصم في المنطقة.
وتزداد حدّة الخناق وتكبيل تجوُّل السلاح في المنطقة العربية بفعل إملاءات واشنطن؛ فإذا كانت أبو ظبي قد تحصَّلت على الـF-35 بعد توقيع اتفاقات "أبراهام" مع إسرائيل، ترهن إدارة الرئيس جو بايدن، توقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع السعودية بتطبيع علاقات الرياض مع تل أبيب.
طوق إسرائيلي تحت المظلّة الأمريكية
يرى فهمي، أن حصار العرب بـ"الطوق الإسرائيلي"، للحيلولة دون تجوُّل السلاح إقليمياً بعيداً عن المظلة الأمريكية، حرَّض على الخروج من الدائرة الأمريكية، والانفتاح على معسكر أوروبا والشرق، لا سيما فرنسا والصين وروسيا والهند وغيرها. ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "دولة مثل قطر التي تُعدّ من أقرب الدول العربية إلى الولايات المتحدة، وعلى أرضها تقع أكبر القواعد العسكرية (العُديد)، لم تتمكن من الحصول على مقاتلات F-35 الأمريكية، فاستعاضت عنها بصفقة مقاتلات من طراز 'رافال' الفرنسية، ولا يختلف الحال كثيراً عند النظر إلى دول إقليمية أخرى، تفتقر إلى سلاح أمريكي، والتفّت عليه للحصول على نظير له لدى الشرق".
ولا تغيب التحركات المصرية في هذا الخصوص عن ناظري المراقبين؛ فالمصريون الذين استعاضوا قبل القطريين عن الـF-35 بمقاتلات الـ"رافال"، يجرون حالياً مفاوضات للحصول على مقاتلات J-31 الصينية؛ وبحسب تقرير نشره موقع savunmasanayist التركي، تجري القاهرة محادثات سرّيةً مع الصين لشراء الجيل الخامس من طائراتها المقاتلة الشبح J-31، إلى جانب طائرات الجيل الرابع J-10C، "من أجل تطابق قدرات قواتها الجوية مع قدرات إسرائيل، التي تمتلك أحدث الطائرات المقاتلة في المنطقة".
ونقل الموقع التركي عن مصادر وصفها بـ"الرسمية"، أن "هذه المفاوضات جارية، والغرض منها الشراء والقدرة على مواجهة طائرات F-35 الإسرائيلية". وكشف التقرير عن أن قائد القوات الجوية المصرية، اللواء محمود فؤاد عبد الجواد، كان قد التقى مؤخراً في بكين، نظيره الصيني، الفريق أول تشانج دنجكيو، لبحث إمكانية شراء هذه الطائرات.
فشل شراء الـSU-35 لا يمنع شراء الـJ-31B
ولم يمرّ تسريب معلومات حول الصفقة المصرية الصينية من دون تعليق إسرائيل، الذي استهلّته بتقرير في موقع nziv العبري، أكدت فيه أن خطوة القاهرة جاءت بعد فشل محاولات شراء 24 مقاتلةً روسيةً من طراز SU-35، تحسّباً من فرض عقوبات أمريكية.
وإمعاناً في التعليق الإسرائيلي على الصفقة، وربما محاولة التقليل من أهميتها وتأثيرها، أبدى معدّ التقرير (لم يكشف عن هويته)، استخفافاً بطراز المقاتلة الصينية، التي تضاهي في إمكانياتها المقاتلة الأمريكية F-35، وقال نصّاً: "كيف تكون الطائرة الصينية أفضل من الأمريكية وقد سُرق تصميم الطائرة بالكامل وأنظمتها الداخلية من الأمريكان؟ في الحقيقة الطائرة الصينية ليست أكثر من تقليد رديء للأصلية".
وخلافاً لتعليق إسرائيل على صفقة المقاتلات الصينية، استعرض التقرير التركي إمكانيات الطائرة، مشيراً إلى أن J-31 المعروفة حالياً بـJ-31B، أصبحت جاهزةً للخدمة منذ سنوات، بحسب مقطع فيديو حديث، تم الكشف فيه عن أنها مزوّدة بمخازن أسلحة داخلية على جانبيها، وقادرة على حمل صاروخَين. وأشار المحلل العسكري فو تشيان تشاو، إلى أن هذا التطور يسلّط الضوء على تقدّم الصين في تكنولوجيا التخفّي، ويضع J-31B كمنافس للطائرة الأمريكية F-35 Lightning II.
تزداد حدّة الخناق وتكبيل تجوُّل السلاح في المنطقة العربية بفعل إملاءات واشنطن؛ فإذا كانت أبو ظبي قد تحصَّلت على الـF-35 بعد توقيع اتفاقات "أبراهام" مع إسرائيل، ترهن إدارة الرئيس جو بايدن، توقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع السعودية بتطبيع علاقات الرياض مع تل أبيب
ويرى مراقبون أتراك، أن دخول المقاتلة J-31B إلى الخدمة، يضع الصين في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة ضمن نادي الدول القادرة على تشغيل نوعين من المقاتلات الشبح. وبرغم أن الدور الدقيق للطائرة J-31B لا يزال غامضاً، إلا أن الخبراء يقدّرون أنها قد تكون نسخةً أرضيةً يمكنها الهبوط على حاملة طائرات، مع قدرات قتالية معززة.
تنامي التفوّق العسكري المصري خلال العقد الأخير
ولا يقتصر خروج دول المنطقة من عقال القيود الأمريكية على الصفقة الصينية الأخيرة، وإنما طال صفقات أخرى مع معسكر الشرق، وكان لذلك بالغ الأثر في تنامي التفوق العسكري المصري على نظيره الإسرائيلي خلال العقد الأخير، بحسب الخبير العسكري المصري، قائد سلاح الشؤون المعنوية الأسبق، اللواء الدكتور سمير فرج، مشيراً إلى أن التقرير الأخير لمؤسسة تصنيف مستوى جيوش العالم (Global Firepower)، وضع مصر في المركز الأول عربياً وإفريقياً، والثانية في المنطقة بعد تركيا. وفي ما يخص التفوّق العسكري الإسرائيلي إقليمياً، نفى الجنرال المصري المتقاعد تفوّق إسرائيل على مصر، مشيراً إلى اقتصار التفوّق الإسرائيلي في النواحي التكنولوجية، لا سيما أنها تأتي في المركز الثاني عالمياً بعد الهند.
وفي حديث إلى رصيف22، يبرز فرج مدى تغلّب القاهرة على قيود مصادر التسليح، ويقول: "إذا كانت واشنطن قد منعت حصول مصر على مقاتلات من طراز F-35، فقد استعضنا عنها بنظيرتها الفرنسية 'رافال'، خاصةً عند الحاجة إلى تأمين أمن البلاد القومي".
ويؤكد فرج، أن امتلاك مصر لمقاتلات أمريكية من طراز F-16، حال دون وصول ذراعها العسكرية إلى أعالي النيل، نظراً إلى التحديات التي تواجه الدولة المصرية هناك؛ ولذلك لم تتردد القاهرة في امتلاك المقاتلات الفرنسية التي تضاهي نظيرتها الشبح الأمريكية.
انصهار مصادر التسليح في منظومة عسكرية واحدة
الخبير العسكري المصري، يتجاوز مسألة التسليح إلى تحدٍّ آخر، وهو انصهار تعدد مصادر التسليح ضمن منظومة عسكرية واحدة من دون أي تعارض، ويعدّ نجاح المصريين في الخطوة دليلاً جديداً على قدرة التناغم بين مصادر التسليح. أما في ما يخص انفتاح الدول العربية على مصادر التسليح غير الأمريكي، فيلمح فرج إلى أن الدول العربية تحاول هي الأخرى إحراز خطوات على هذا الصعيد؛ لكنه يستبعد قدرتها المحلية على تشغيل منظومات الأسلحة؛ فالجيش السعودي على سبيل المثال مُجنَّس بمقاتلين من السودان وباكستان والهند، وقطر التي تحصَّلت على مقاتلات الـ"رافال"، لم تتمكن من تشغيلها إلا من خلال جنسيات أخرى لا سيما الباكستانية.
يجزم الخبير العسكري المصري بأن بلاده هي الوحيدة التي تخلَّصت في المنطقة العربية من "وصاية التسليح الأمريكي"، فدولة مثل السعودية اقتربت من توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وهو ما يضاعف تموضع المملكة إقليمياً تحت المظلّة الأمريكية
ويجزم الخبير العسكري المصري بأن بلاده هي الوحيدة التي تخلَّصت في المنطقة العربية من "وصاية التسليح الأمريكي"، فدولة مثل السعودية اقتربت من توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وهو ما يضاعف تموضع المملكة إقليمياً تحت المظلّة الأمريكية.
ولا ينفي فرج التحديات التي واجهتها الدولة المصرية عند اعتماد سياسة تعدد مصادر التسليح، مؤكداً إصرار نظام السيسي على الخطوة من البداية، خلافاً لنظام مبارك الذي استجاب للضغوط الأمريكية وتخلَّى عن إستراتيجية الانفتاح على أسواق جديدة في التسليح، ويضيف: "نوّعت الدولة المصرية الجديدة تسليحها حين اشترت حاملتي مروحيات 'ميسترال' من فرنسا، بالإضافة إلى فرقاطات حربية من إيطاليا، وغواصات من ألمانيا، فضلاً عن منظومات قتالية أخرى من روسيا".
ويخلص الخبير العسكري المصري إلى أن الدولة المصرية أدركت حتمية اللجوء إلى "أكثر من سوبر ماركت لشراء الأغراض العسكرية"، والتخلُّص من الاعتماد على مصدر واحد للتسليح كما كان متّبعاً في الماضي غير البعيد، وهو ما ينعكس بشكل أو بآخر على تحرير القرار السياسي والإستراتيجي من القيود الممارسة من قوى عظمى على المنطقة، فهل يتوسّع هذا النهج إلى دول أخرى؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.