بمجرد النظر إلى بورتريه "نبوية"، تتسرب إلينا تلك الرائحة الشهية المغوية، وبالتجول بين لوحات "عروس الإسكندرية" أو "الفلاحة المصرية" أو "زنجية على خلفية حمراء"، نعرف أننا سقطنا في فخّ للجمال منصوب في جوف الطبيعة، ليجتذب الرغبات المكبوتة.
نساء محمود سعيد، بانورما سوسيولوجية للمرأة المصرية في بدايات القرن العشرين، فما بين "بنات بحري"، و"حميدة" و"نبوية" و"ذات الحلق اللولي" و"ذات العيون العسلية" و"ذات الأساور الزرقاء"، يظهر سحر بنات البلد بـ"الملاية اللف"، وما يمتلكن من جمال خفيّ، وبضربات فرشاة حميمية مسكونة بالدفء العائلي رسم ابنته نادية، كما رسم زوجته وسيدات من المجتمع الأرستقراطي الذي انتمى إليه.
وبرغم أنه ابن "الطبقة المخملية"، والقاضي في المحاكم المختلطة، ونجل رئيس وزراء مصر الأسبق، وخال ملكة مصر "فريدة"، إلا أن حياةً أخرى كانت في انتظاره في مرسمه الخاص، هو نفسه يعترف بأنه كان يريد دراسة الفن بتعمق والتخصص فيه، لولا نزوله عند رغبة أسرته "سامحها الله" بحسب تعبيره في أحد الحوارات الصحافية، وقبوله بالعمل الحكومي في القضاء.
نساء محمود سعيد، بانورما سوسيولوجية للمرأة المصرية في بدايات القرن العشرين، فما بين "بنات بحري"، و"حميدة" و"نبوية" و"ذات الحلق اللولي" و"ذات العيون العسلية" و"ذات الأساور الزرقاء"
في معرض بمناسبة مرور 60 عاماً على رحيل محمود سعيد (1897-1964)، تتجلى أعمال رائد فن التصوير بجوار 14 فناناً وفنانةً صاحبوه في رحلته الفنية كأساتذة أو زملاء وجميعهم أجانب، باستثناء فنان مصري واحد، هو جوزيف مزراحي، المولود في المحلة الكبرى (دلتا مصر).
أكثر ما يلفت الانتباه في المعرض الجماعي الذي يضمّ نحو 40 عملاً لمحمود سعيد وحده، و75 عملاً لأصدقائه، هو حضور المرأة كموضوع فنّي، بكل ما تحمله ملامحها من عذوبة وقوة وحيوية، وكل ما في الجسد الأنثوي من جمال وفتنة وغواية.
يعكس المعرض الطابع الكوزموبوليتاني لمدينة الإسكندرية التي كانت تموج بالأجناس والأعراق كلها، لتعبّر عن التنوع والثراء الإنسانيين في أقصى تجلياته، وهو ما يظهر في شخصية الفنان الفرنسي روجيه بريفال، مؤسس جماعة الخيال والمفتون بالتفاصيل الشرقية وبتجواله في شوارع القاهرة وأحيائها الشعبية، والفنان أرتورو زانييري أحد أساتذة سعيد.
ومثلما كانت فتنة المرأة وروعة جسدها موضوعاً لأعمال مميزة قدّمها سعيد، خلال فترة من حياته اتسمت بالتمرد والرغبة في التحرر، كانت كذلك أيضاً بالنسبة للفنانين الآخرين.
فها هو جوزيف مزراحي، يرسم لوحة "المستحمة" لامرأة تنام عاريةً وبجوارها طبق فاكهة، في ربط بدائي بين جمال جسدها وبين الثمار الحلوة.
وهناك نماذج كثيرة لاسكتشات الفنانة السويسرية كليا بدارو، ترسم فيها الموديل العاري للمرأة، كنموذج جمالي في أوضاع مختلفة.
ومن المفارقات اللافتة أن كليا بدارو، صديقة محمود سعيد، التي وُلدت في القاهرة وأقامت في الإسكندرية، هي نفسها التي كتب عنها لورانس داريل، جزءاً كاملاً من روايته الأيقونية "رباعية الإسكندرية"، المكونة من أربعة أجزاء، والتي تُعدّ من عيون الأدب العالمي.
فمن يقرأ رواية كليا، يغوص في مجتمع الأجانب في الإسكندرية في بدايات القرن العشرين ومنتصفه، ومن يتوغل في قراءة الشخصية، سيجدها متمردةً جريئةً قويةً تقدّم الفن بأبعاد حداثية، وتترك بصمتها على كل من حولها وكأن لها سطوةً ونفوذاً روحياً غامضاً.
الفنان علي سعيد، مدير مراكز الفنون في قطاع الفنون التشكيلية في مصر، تحدّث عن فكرة المعرض الذي يستمر لمدة 3 أشهر، وأوضح أنهم كانوا يفكرون في معرض كبير للفنانين الأجانب الذين أقاموا في مصر، وفكروا في تقديمهم من خلال الاحتفاء بالفنان الرائد محمود سعيد في ذكرى رحيله الستين، وقرروا الاحتفاء به في صحبة أصدقائه من الفنانين الأجانب، وتحدث إلى رصيف22، حول "فلسفة العرض وما يمثله من استدعاء لجزء مهم من تاريخ مصر الفني، سواءً عن طريق أعمال محمود سعيد نفسه كأحد الرواد المؤسسين لفن التصوير الحديث، أو لمن تتلمذ على يدهم أو زاملهم من الفنانين الأجانب"، مضيفاً: "إقامة المعرض في القاهرة يمنح فرصةً لكثيرين من أبناء العاصمة لرؤية أعمال محمود سعيد التي نقلناها من متحفه في الإسكندرية، وربما لم يتسنَّ للجمهور القاهري رؤيتها من قبل (تبعد الإسكندرية عن القاهرة نحو 216 كيلومتراً).
يمثل الجسد الأنثوي حالةً فريدةً في أعمال محمود سعيد، فهو ينزّ بالجمال والبهجة والاشتهاء، وقد ساعده في تقديم هذه الأعمال الفاتنة أن الموديل العاري كان مسموحاً به في مصر قبل منتصف الخمسينيات، حيث كان يُستخدم ببساطة في كليات الفنون الجميلة، وبالتبعية في مراسم الفنانين، إلى أن جرى منعه منتصف الخمسينيات بسبب دعاوى متطرفة عدّته يبيح العري ويتنافى مع التقاليد الاجتماعية والتعاليم الدينية، ويبدو أن هذا المنع كان عرفياً، فقد صدر قرار بمنع استخدام الموديل العاري في كليات الفنون رسمياً في عام 1973، وفق ما رصده تحقيق قديم نشرته مجلة "آخر ساعة" المصرية.
يمثل الجسد الأنثوي حالةً فريدةً في أعمال محمود سعيد، فهو ينزّ بالجمال والبهجة والاشتهاء، وقد ساعده في تقديم هذه الأعمال الفاتنة أن الموديل العاري كان مسموحاً به في مصر قبل منتصف الخمسينيات
ما قدّمه محمود سعيد ورفاقه في معرض "في صحبة محمود سعيد"، لا يقتصر على الجمال والفتنة الأنثوية، بل احتشدت أعمالهم بالكثير من المناظر الطبيعية والمشاهد المألوفة والبورتريهات المتنوعة، إلا أن تيمة الجسد بتجلياته الحسية كانت لافتةً في أعماله، وهو ما رصدته الدكتورة أمل نصر، أستاذة ورئيس قسم التصوير سابقاً في كلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية، إذ ترى أن محمود سعيد تعامل مع المرأة بوصفها ربيبةً للطبيعة، وتذكر في دراستها "الجسد ومشاهد الطبيعة" أن الموروث جعل جسد المرأة باعثاً على الفتنة، وتالياً يجب عزله وتحديد المجال الذي يتحرك فيه، إلا أن محمود سعيد "زرع جسد المرأة عارياً في مشاهد طبيعية مفتوحة".
وهو الأمر الذي يتجلى في لوحتين رئيستين، هما "عروس الإسكندرية" و"المستحمة " أو "الفلاحة المصرية"، وعدّت الأكاديمية المصرية هاتين اللوحتين الأكثر جرأةً وغرابةً، لأنه زرع عنصراً بشرياً غير معتاد في مشهد تقليدي للغاية. فعروس الإسكندرية تقف عاريةً بمبالغات في مواطن الإخصاب بالجسد، وخلفها تسير القوارب في النهر والفلاحات يملأن الجرار وكل مظاهر الحياة هادئة في الخلفية.
الأمر نفسه ينطبق على لوحة "المستحمة" أو "الفلاحة المصرية"، فهو التصوير الأكثر جرأةً وغرابةً للفلاحة في مشهد عادي وتقليدي، وهي لوحة عدّتها نصر "تقترب من أفق ميتافيزيقي عجيب".
وتتنوع الاحتمالات حول فلسفة سعيد في رسم المرأة عاريةً ما بين الرغبة في العودة بها إلى الفطرة البدائية، وما بين استدعاء صورة حواء بكل ما تمثله من رمزية للحضور الأنثوي الأول، وربما أراد تحرير المرأة وإطلاقها في الطبيعة.
ويبدو أن فترة رسم الموديل العاري لدى محمود سعيد ورفاقه، بكلّ ما يمثله من إبراز كامل للفتنة والجمال الأنثوي وإطلاقه في الطبيعة، ارتبطت بفترة في حياته ملؤها التمرد والجرأة والشغف، ففي نهاية حياته ركن إلى رسم المناظر الطبيعة والمشاهد الصامتة في حالة هدوء وسكينة تناسب حكمة الكهولة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.