"أفعل ما يحلو لي، ولا أنتظر النتائج"، ربما يمكن، بعبارته هذه، تلخيص مشوار هاني محفوظ. فهاني، الفنان والمصمم الشهير، صاحب البصمات في اللوحات والأزياء والموضة على السواء، لا يجيد التخطيط للمستقبل ولا يعرف ماذا سيحدث في الشهور القادمة. ينبع الفن لديه من منطقة غامضة ويتسلل إليه في هدوء، وبعد أن ينتهي الإلهام والتنفيذ يفكر ماذا سيفعل بما أنتجه.
هاني الناضج لا يختلف كثيراً عن هاني الطفل، المولود في القاهرة في ستينيات القرن الماضي، المستسلم للقدر أو للصدفة. وعلى عكس الأطفال، لم يكن يعرف ماذا يريد أو ماذا يتمنى في المستقبل. لكن هذه المرحلة امتدت إلى ما بعد التعليم الثانوي ودخول الجامعة. يقول: "حدفني القدر على كلية فنون جميلة بالإسكندرية". كانت هذه الكلية واحدة من الرغبات التي رصّها في استمارة التنسيق، لا لسبب إلا ليبتعد عن بيت العائلة وينال استقلاليته، ورغم أنها كانت الرغبة السابعة، إلا أنها كانت نصيبه.
الفن ابن التأمل
حتى دخوله كلية الفنون الجميلة لم يكن هاني محفوظ رساماً، ولم يكن يرغب في أن يكون رساماً أو أي شيء آخر. لم تكن لديه فكرة عن أساسيات الفن ولم يكن مشغولاً به. ونقطة التحول جاءت صدفة، حين طلب أستاذ إحدى المواد بقسم الديكور نموذجاً لأعمال فنية لكل طالب، مجموعة مكعبات فنية. يقول محفوظ:"ظللت أعمل أنا وزميل لي على نماذج، صنعنا الكثير منها، ما يتجاوز العشرة، وقلت لا بد أن ذلك كافٍ لأنال الدرجة النهائية".
"أفعل ما يحلو لي، ولا أنتظر النتائج"، ربما يمكن، بعبارته هذه، تلخيص مشوار هاني محفوظ. فهاني، الفنان والمصمم الشهير، صاحب البصمات في اللوحات والأزياء والموضة على السواء، لا يجيد التخطيط للمستقبل ولا يعرف ماذا سيحدث في الشهور القادمة
لكن ما حدث كان عكس ذلك. قدم الطلبة نماذج أعمالهم، ورأى هو طالباً صنع نموذجاً واحداً لمكعب خشبي لافت، نموذج واحد فقط علّمه الدرس الأول في الفن: ليس بالكثرة، ليست أشياء تتراص بجانب أشياء. انبهر حينها بنموذج زميله، وعرف أن الفن ابن التأمل، وأن العجلة والكثرة لا تصنعان فناً.
هذه نقطة محورية في حياة المصمم المصري، أدرك معها أنه بالفعل يريد أن يكون فناناً وأن لديه الموهبة لكن ينقصه التركيز والتأمل. بدأ في العمل كمصمم جرافيك عام 1988، ثم تعرف عام 1993 على مصمم فرنسي مقيم بالقاهرة ويعمل مديراً فنياً لإحدى المجلات. يقول محفوظ: "تعلمت منه ألا يتعدى عرض الفقرة 14 سنتيمتراً وألاّ نستخدم فونطات لها شخصية أو تصميم مميز في الكتل الكبيرة من الكتابة"، كما تعلّم من مهندس معماري مبادئ إضافية أفادته في مسيرته، وانشغل بفكرة "القيمة" كأساس لأي عمل فني. وهكذا انطلقت مشاريعه، مشروعاً وراء الآخر.
في معرضه "لا شيء" عام 2018، انشغل محفوظ بالواقع الافتراضي في تخطيه لحاجز العالم الواقعي، وعبّر بلوحاته عن الوجود الإنساني في ظل عالم يتسع، فضاء آخر نبلغه بالضغط على زر. لقد غدا الواقع الحديث مجرد شاشة، وبها تُرهن حياتنا، بحركة أصابع بسيطة. وهناك نفقد بعض حواسنا، أو تتغير قيمتها.
من معرض "لا شيء"
وفي تصميم الملابس، عمل على عدة مشاريع فرضت حضورها على نطاق واسع، واتكأ على مرجعيات ثقافية، باحثاً عن موتيفات أنيقة وتكوينات بصرية مرحة لصنع ملابس أشبه بالقطع الفنية، لكنه أحياناً يميل للأشكال الهندسية المنضبطة والخطوط الحادة.
من مجموعة Wild pixels تصميم هاني محفوظ
فيديو لعرض الأزياء
الهدم لإعادة بناء مفهوم الفن
مر هاني محفوظ بعدة مراحل، كان يمكن أن يكتفي بواحدة حققت نجاحاً، وبوجهة النظر التي تبناها حول الفن بالتعريف الوحيد الذي اكتسبه، ليس فقط من ممارسته، وإنما من أحد الأساتذة واسع التأثير عليه وعلى جيله من الفنانين. يقول: "بالفعل اقتصرت على هذا التعريف حول قيمة العمل الفني لسنوات طويلة، ثم في 2006 اكتشفت أنني صنعت صنماً وأود أن أهدمه".
حتى دخوله كلية الفنون الجميلة لم يكن هاني محفوظ رساماً، ولم يكن يرغب في أن يكون رساماً أو أي شيء آخر. لم تكن لديه فكرة عن أساسيات الفن ولم يكن مشغولاً به
كان محفوظ وقتها قد اقترب من الأربعين، وبعد سنوات من الخبرة وتكوين الاسم قرر أن يُعيد تعريف الأشياء، أن يرد الفن لأصله. هنا أعاد النظر في فكرة السوق والتواصل مع الناس، كي لا يكون فنه تجريدياً ومنغلقاً وينفتح على جمهور أوسع. ولذلك سعى ليصنع أعمالاً تتراوح ما بين الحس الفني والحس التجاري، وهي معادلة صعبة، نجح فيها بالفعل.
نتاج هذا المنظور أنه اقترب أكثر من الواقع المصري، كما في مجموعة تصميمات "غية"، إذ استلهم فيها الاسم المصري لعش الحمام، كما استخدم شكله أيضاً كعنصر جمالي. كذلك في مشروعه "لعبة الورق"، حيث أعاد تصميم أشكال الكوتشينة ضمن منظور جديد ومبتكر.
من مجموعة "ورق اللعب"
ملك الديجيتال
استغل هاني محفوظ منذ البداية التطور التكنولوجي، العمل على الكمبيوتر وتطور برامج التصميم. وكان رائداً في هذا المجال. ولعله كان من الأوائل في مصر في الجرافيك ديزاين، في تسعينيات القرن الفائت. لقد استطاع أن ينقل الفن إلى التكنولوجيا طبقاً للشروط الجديدة.
يقول: "أي مصمم يجيد التعامل مع البرامج يمكنه صناعة تصميم، لكن الفنان حين يدخل هذ المجال يصنع شيئاً مختلفاً"، هذا الشيء المختلف هو نتاج الموهبة وتناسق الألوان والأبعاد والأفكار الإبداعية، وليس مجرد تنفيذ ما يريده العميل. "في هذا المجال ينتشر عملك وليس اسمك، الخلود مضمون للعمل الفني، وليس للفنان".. وكانت هذه منطقة مريحة له، هو البعيد عن الضجيج والمُحب للظل.
استغل هاني محفوظ منذ البداية التطور التكنولوجي، العمل على الكمبيوتر وتطور برامج التصميم. وكان رائداً في هذا المجال. ولعله كان من الأوائل في مصر في الجرافيك ديزاين، في تسعينيات القرن الفائت
في مرسمه، أو الاستوديو الخاص به، في رمسيس بوسط القاهرة، يقضي هاني محفوظ ساعات طويلة في العمل. عمل يتوزع ما بين الفن التشكيلي والتصميم. العملان يشغلانه، وفي العملين يطبق وجهة نظره بأن الشكل يتبع الوظيفة، يقول: "كل شكل لتصميم يجب أن يؤدي وظيفته، هذه المطفأة مثلاً لها هذا الشكل لأن هذا الشكل يؤدي الغرض من تصميمها". يطبق هاني ذلك في تصميم الأجندات والتقويم والملابس، كما يطبقه في أي فن آخر يمارسه.
منتجات هاني محفوظ
يؤمن الفنان المصري بأن كل النظريات يمكن تدميرها وأن خلق أخرى جديدة أمر ممكن ومطلوب، لذلك، يعترف بأنه استفاد كثيراً من فنانين يصغرونه في السن، وأن أعماله تطورت بفضلهم، يقول: "مرحلة 2006 مثلاً، وهي مرحلة مهمة في حياتي، كانت بفضل شباب أصغر مني، لفتوا انتباهي لمنطقة أخرى أشتغل عليها في التصميم".
كما يبدي إعجابه ببابلو بيكاسو: "هذا الرجل صنع كل شيء، رسم لوحات وصنع تماثيل وأعمال الخزف والأعمال يدوية". نموذج بيكاسو أثر بطريقة ما في تنوع أعمال محفوظ الذي أدرك أنه ليس على الفنان أن يقتصر في مشاريعه على ممارسة فنية واحدة. وقد ألهمته تنقلات بيكاسو من مرحلة إلى أخرى لهجر الكلاسيكيات الرائجة وإعطاء أعماله فضاءً حرّاً وواسعاً لا ينفصل عن الواقع، بل يراه من زوايا مختلفة ومغايرة.
رفض "الموت الثاني"
يعتبر محفوظ أن بدايته الحقيقية كانت وهو على مشارف الأربعين، رغم أنه يظلم نفسه بهذا التصور، لكنه يربطه بمرحلة التحرر من مقدسات الفن. واليوم على مشارف الخمسين، يبدو مسكوناً بفكرة الموت.
يقول إن الفنان يموت مرتين، مرة حين تفارق الروح الجسد، ومرة ثانية مع آخر شخص ينطق اسمه. بذلك، فموت الفنان الحقيقي هو النسيان، حين يكف الجميع عن نطق اسمك.
الفيديو: هاني محفوظ في تيد اكس القاهرة 2012
من هنا بدأ هاني محفوظ يفكر في خلود الفنان، وليس فقط في خلود العمل الفني. خلاصة متأخرة قليلاً، لكنه اعتاد على ذلك، ويفهم نفسه بهذه الطريقة. وقد قرر أن يقيم معرضاً كل شهرين ابتداءً من الشهر القادم. يقول: "لديّ أعمال كثيرة تغطي هذه المعارض، أريد أن يراها الناس بدلاً من أن تظل حبيسة المرسم". سيكون هاني، بهذه المعارض، رائداً أيضاً في فكرة العرض المستمر، فلكل معرض لوحاته كأنه كتاب متناسق.
ربما يكون هذا المشروع الشيء الوحيد الذي فكر فيه هاني محفوظ حين فكر في المستقبل، وهو مرحلة جديدة لفنان يولد كل يوم. فنان تائه لكنه في النهاية يصل إلى ضالته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...