في غرفة صغيرة ضوؤها خافت، تتبع الكاميرا صوت تتابع أنفاس إيلين التي تجسد دورها ليلي كولينز، وهي تُجري تمارين المعدة على أرضية الغرفة بجانب السرير. بعد محادثة مع زوجة أبيها، تصطحبها الأخيرة لقياس وزنها فتظهر عظام جسدها بارزةً، بينما يتكرر مشهد قياس إيلين لقطر ذراعها بإصبعيها بعد تناول الطعام، وبذل مجهود في المشي أو صعود الدرج ونزوله، للتخلص من أي سعرات يمكن أن تبقى في جسدها.
في فيلم "حتى النخاع"، تعاني إيلين من اضطراب فقدان الشهية العصبي، وهو أحد اضطرابات الأكل الشهيرة، والذي يخشى فيه المصاب من زيادة وزنه ولو غرامات قليلة، فيسارع إلى التخلص منها.
تواجه البطلة كلمات قاسيةً، فوالدتها تصفها بالشبح، وزوجة أبيها تُهددها بإخراجها من المنزل حال تماديها في رفض تناول الطعام.
مفهوم التغذية الحدسية
15 سنةً قضتها أخصائية التغذية الحدسية، سهيلة حسن، في معانتها مع اضطرابات الأكل، وقررت مساعدة غيرها في الخروج من نفق اضطراب الأكل والقضاء على ثقافة "الدايت"، فدرست في أمريكا لمدة عام Integrative Nutrition، وحصلت على كورسات في التغذية الحدسية، وتستكمل دراستها حالياً للحصول على شهاة أخرى متخصصة في اضطرابات الأكل في إنكلترا.
"هناك مبادىء كثيرة للتغذية الحدسية، أهمها كيف أتعاطف مع جسدي وأتقبله وأتعامل مع نفسي في الفترات التي يكون لدي فيها تصوّر سيئ عنه، والتعامل مع الأكل على أنه مُتعة ونشاط اجتماعي والتخلص من عقلية الأبيض والأسود في الحكم عليه"
بدأت سهيلة العمل قبل 5 سنوات مع حالات تعاني من اضطرابات الأكل، مثل الأكل العاطفي، الشره، والأكل القهري.
أجرى رصيف22، حواراً مع سهيلة حسن، للوقوف على مفهوم التغذية الحدسية، وكيفية مساعدة الأفراد الذين يعانون من اضطرابات في الأكل.
ما هو مفهوم التغذية الحدسية؟
التغذية الحدسية ظهرت في فترة التسعينيات كرد فعل على ثقافة "الدايت". وبعد اكتشاف أن النظام الغذائي لا يعمل على المدى البعيد وما نتج عن ذلك من مشكلات صحية وفقدان القدرة على العيش دون نظام غذائي، وتالياً تطوير علاقة غير صحية مع الأكل، نحاول من خلالها إعادة الاستجابة لإشارات الجسد في الشعور بالجوع والشبع، دون الخضوع للقواعد الخارجية التي يفرضها "الدايت" بأشكاله المختلفة.
هناك مبادىء كثيرة للتغذية الحدسية، أهمها كيف أتعاطف مع جسدي وأتقبله وأتعامل مع نفسي في الفترات التي يكون لدي فيها تصوّر سيئ عنه، والتعامل مع الأكل على أنه مُتعة ونشاط اجتماعي والتخلص من عقلية الأبيض والأسود في الحكم عليه.
ما سبب تحويل مسارك المهني واهتمامك باضطرابات الطعام؟
كانت تجربتي الشخصية الدافع لتحويل مساري المهني، إذ عانيت طوال 15 عاماً من اضطرابات الأكل، فضلاً عن تأثري بالثقافة العامة لمقاييس الجمال وربط الجسم الصحي والتقبّل المجتمعي والجمال بشكل محدد للجسم. حينها قررت دراسة طرق التشافي من اضطرابات الأكل ومنهجية التغذية الحدسية ومساعدة من يعانون من اضطرابات الأكل واكتشفت أن ثقافة "الدايت" متغلغلة داخلنا بشكل كبير.
كيف تؤثر البيئة المحيطة في حدوث اضطرابات الطعام؟
البيئة المحيطة هي العامل الرئيسي في حدوث اضطرابات الأكل، فهناك العديد من الأحداث التي تدفع الشخص لمحاولة السيطرة على جسده والتحكم فيه، واحدة من الحالات التي عالجتها كانت تعاني من الأنوروكسيا أي "فقدان الشهية العصابي"، وتبيّن أنها تعرضت في صغرها لاعتداء جنسي فقررت البقاء في جسم صغير، ورفض عقلها تحوّل جسدها إلى جسد أنثوي كنوع من الاختفاء أو الهروب من تكرار الأمر مرةً أخرى.
كذلك تؤثر مقاييس الجمال المجتمعية على نظرة الشخص إلى جسده ومدى تقبّله إياه.
ما هي أبرز الدوافع التي يمكن أن تسبب اضطرابات الأكل؟
يمكن للظروف الأسرية أن تكون مُسبباً، فمثلاً في حال لم تكن البيئة المُحيطة داعمةً للشخص، أو في حال وجود خلافات عائلية مستمرة، كذلك قد يدفع فرض قيود على ملابس الفتاة إلى اضطراب الأكل فتُفضّل البقاء في جسم نحيف لارتداء ما ترغب من دون تعليقات.
للأسف، تلعب التعليقات المجتمعية دوراً أساسياً في حدوث اضطرابات الأكل، فكثير من الحالات التي أتابعها عانت من تعليقات على زيادة الوزن أو نقصانه، وربط الجمال بالوزن، وهو ما يجعل الشخص يشعر طوال الوقت بأنه في حاجة إلى إصلاح شيء ما ويبدأ من عمر الطفولة بالالتزام بنظام غذائي.
ما هي أنواع الاضطرابات وهل هي محصورة في أنماط محددة؟
الاضطرابات الأكثر شيوعاً هي "اضطراب الشره العصبي Binge eating disorder". يُصاب الشخص بالنهم فيأكل كميات كبيرةً من الطعام، ويصل خلال هذه الحالة إلى تناول أي شيء دون وعي لما يأكله وقد ينسى ما تناوله. النوع الثاني هو Bulimia nervosa اضطراب الشره العصبي، ويلجأ خلاله الشخص إلى التخلص من الطعام عن طريق التقيّؤ، والمليّنات أو التمارين كي يحرق ما تناوله، والنوع الثالث فقدان الشهية العصبي، وفي هذه الحالة يفقد الشخص وزنه بنسبة كبيرة جداً ويصل إلى مرحلة تُمثل خطورةً على صحته قد تؤدي إلى وفاته نتيجة انهيار الجسم على كل المستويات Anorexia nervosa.
إلى أي مدى قد يصل تأثير اضطراب الأكل على الصحة الجنسية؟
إذا كان تصوّري عن جسدي سيئاً فمن الصعب مشاركته مع شخص آخر، كما أن عدم تناول الطعام يؤثر على الرغبة الجنسية، فالجسم يكون في حالة ضعف ولم يحصل على التغذية اللازمة، وفي حالة الإصابة بنوبات نهم يشعر الشخص حينها بالامتلاء الذي تصعب معه ممارسة أي نشاط.
تؤدي اضطرابات الأكل في أوقات كثيرة إلى الاكتئاب، وهو ما يجعل المرء يفقد الرغبة الجنسية، فضلاً عن كونه في الأصل أحد اضطرابات الوسواس القهري، فينشغل العقل أغلب الأوقات بمحاولة السيطرة على هذه النقطة دون التفكير في غيرها من الأمور، وتالياً لن يكون الشخص المعني حاضراً بشكل حقيقي في وقت ممارسة الجنس، فيتحول الأمر إلى عملية ميكانيكية بحتة دون الاستمتاع بها.
وقد يصل الأمر إلى انقطاع الدورة الشهرية، وقد تصاب المرأة بالتهاب المهبل الفطري نتيجة الضغط العصبي، وهو ما يُصعّب عملية الجماع، ويجعل العلاقة الحميمة عمليةً مؤلمةً جداً، وقد تفقد القدرة على الإنجاب في حالة انخفاض نسبة الدهون في الجسم عن الحد الطبيعي.
ما الأخطاء الشائعة التي نرتكبها في سلوكيات التعامل مع أجسادنا؟
الأخطاء تنقسم إلى شقّين؛ الأول نتلقّاه من مُحيطنا كالثقافة العامة التي تقوم مثلاً على إجبار الطفل على تناول طعامه كاملاً وحديث بعض الأمهات عن جسدهنّ بشكل سلبي أمام الأطفال، والشقّ الثاني يكمن في الأخطاء التي نرتكبها في حق أنفسنا مثل تأجيل الاستمتاع بالحياة إلى حين الوصول إلى جسم معيّن، وذلك يعود إلى تصوّرنا المحدود عن الجمال والصحة. خطأ آخر هو المقارنة بين جسدي وجسد أي شخص آخر وهو ما يُعزز رفض الشخص لجسده ويبدأ بالدوران في دائرة اللهث وراء النظام الغذائي والتوقف عن الحياة.
ما هي أبرز طرائق العلاج لمساعدة من يعاني من اضطراب الأكل؟
أعمل على إعادة بناء التصور عن الجسد بشكل مُكثّف، وهو الأصعب لكونه ناتجاً عن أفكار مترسخة في الذهن منذ سنوات، بالتوازي مع الشغل على الأكل ذاته، كذلك لا بد من الاتصال بالطبيعة بشكل أسبوعي، وكلما تم ذلك كلما تحسنت علاقة الشخص بجسده فيشعر بكونه جزءاً من الطبيعة، كذلك الابتعاد عن متابعة الأشخاص الذين يروّجون لمقاييس محددة للجمال، ومتابعة أشخاص بأجسام مختلفة يمارسون حياتهم بشكل طبيعي.
بالإضافة إلى ممارسة تمارين مختلفة، كأن يبدأ الشخص خطوةً خطوةً بالنظر إلى جسده في المرآة للتعرف عليه، وسلك طريق الحيادية الجسدية أي النظر إلى الجسد بحيادية دون ربط النظر إليه بمشاعر طارئة، فهو يستحق الاهتمام والتغذية والنظافة، فالأهم هنا هو احترام الجسد بمعزل عن المشاعر.
كيف تساعدين هؤلاء الأشخاص على تجنّب الانتكاسات؟
الانتكاسات تحدث وهي جزء من رحلة التشافي، فنحن لا نتجنب حدوثها لكن نتعلم كيف نتعامل معها، فمثلاً بعد حدوث نوبة نهم يرتدي الشخص ملابس مريحةً، ولا يُجبر نفسه على البقاء في المنزل لأن ذلك يُعيده إلى الدائرة مرةً أخرى.
ما هي أصعب حالة قابلتك طوال فترة عملك؟
جميع الحالات تؤثر فيّ بشكل شخصي حتى الآن، على سبيل المثال هناك فتاة مراهقة كانت تعيش قصة حب وتعرضت للهجر وارتبط حبيبها السابق بفتاة أقلّ منها في الوزن، فاعتقدت أنها لن تحصل على الحب إلا إذا فقدت وزنها وفقدت الشهية تماماً وحاولت الانتحار أكثر من مرة، حالة أخرى لسيدة في سن الـ45 تعاني من اضطراب الأكل مذ كان عمرها 13 سنةً، فهي تعيش منذ أكثر من 30 عاماً مع صوت في ذهنها يُقلل منها ويحرمها من الأكل، حتى أنها لم تجلس في حياتها لتتناول الطعام مع أطفالها.
"تؤدي اضطرابات الأكل في أوقات كثيرة إلى الاكتئاب، وهو ما يجعل المرء يفقد الرغبة الجنسية، فضلاً عن كونه في الأصل أحد اضطرابات الوسواس القهري، فينشغل العقل أغلب الأوقات بمحاولة السيطرة على هذه النقطة دون التفكير في غيرها من الأمور، وتالياً لن يكون الشخص المعني حاضراً بشكل حقيقي في وقت ممارسة الجنس، فيتحول الأمر إلى عملية ميكانيكية بحتة دون الاستمتاع بها"
تجدر الإشارة إلى أن الاضطراب النفسي يؤثر على شخص بين كل 8 أشخاص في العالم، بحسب ما نشرت منظمة الصحة العالمية في حزيران/ يونيو 2022، ويُظهر التقرير أن 14 مليون شخص يعانون من اضطرابات الأكل حول العالم في العام 2019، بينهم 3 ملايين طفل ومراهق، وتم تقسيم اضطرابات الأكل على النحو التالي: فقدان الشهية العصبي، الشره المرضي العصبي، سلوك الأكل غير الطبيعي، والانشغال بالطعام وما يصاحبه من مخاوف بشأن وزن الجسم وشكله.
ويكشف التقرير أن الأعراض أو السلوكيات المرتبطة تتسبب في تعرض الصحة لمخاطر كبيرة أو أضرار جسيمة، من هنا يجب على المرء أن يحترم جسده ويقدره وأن يستمتع بالطعام من دون أن يتأثر بالمعايير الجمالية النمطية أو بالتعليقات الجارحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...