شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أمس، تناولت ثلاث قطع من البيتزا وآيس كريم، ولم أشعر بالذنب... التعافي من اضطراب الأكل

أمس، تناولت ثلاث قطع من البيتزا وآيس كريم، ولم أشعر بالذنب... التعافي من اضطراب الأكل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 نوفمبر 202110:31 ص

حكاية غير مرتبة زمنياً عن اضطراب الأكل؛ صراع لا يعلم عنه أحد شيئاً.

26 عاماً

كنت في مؤتمرٍ في نيبال، عندما صرخت إحدى المنظّمات أن يتم سحب طبق الأكل من أمامي، معلّقةً بأني إما أعاني من آثار شره الكحول، أو من مرض الشره العصبي.

نظرت إليها بغضب شديد، وبكثير من الإحراج والارتباك، حتى أدركت أنني أكلت ما يزيد عن تسعة أطباق، وقمت مرات عدة للتقيّؤ، لكني لم أتوقف عن الأكل.

قضيت خمسة أيام آكل بلا توقف، مع الشعور الشديد بالغثيان والذنب والعار. محاولة إيذاء نفسي وحرمانها من الأكل تماماً، تنتهي بنوبات متواصلة من النهم انتهت بالطعام المقدّم في الطائرة، ثم إنفاق ما تبقّى معي على كمية من الشوكولاتة والمقرمشات اشتريتها من المطار.

وصلت إلى مصر، وذهبت بحقائبي مباشرةً إلى الجيم. وقفت على الميزان، لقد اكتسبت خمسة كيلوغرامات إضافية. قاومت نوبة الهلع القادمة، وقضيت نصف ساعة في الحمام مع تمرينات التنفّس، ثم قضيت أربع ساعات في التمرين بعد رحلة طويلة ومرهقة.

عدت إلى المنزل، وقررت كالعادة أن ألزم البيت أسبوعاً على الأقل، حتى أخسر الوزن الزائد. لم أتناول شيئاً مدة يومين، إلا تفاحة. في اليوم الثالث، انتابتني نوبة نهم أخرى، وبدأت الدائرة مجدداً.

لم يعمل الميزان. ذهبت إلى جميع صيدليات المنيل (جزيرة في نيل القاهرة)، بحثاً عن ميزان رقمي آخر، فلم أجد.

23 عاماً

كنت أعمل في إحدى المنظمات بدوام كامل، وكان الزملاء يبدؤون بطلب الإفطار عند الساعة العاشرة، أو الحادية عشرة يومياً، وكنت أتسلل إلى الصيدلية لأزن نفسي، وبناءً على ذلك الرقم أحدد ما إذا كنت سأتناول الإفطار، أو سأخبرهم بأني تناولته في المنزل. تلك الحجة كانت فعّالة طوال الوقت؛ أن أخبر الزميلات في السكن بأني أتناول الفطور في العمل، وأخبرهم في العمل بأني تناولته في المنزل، حتى أتخلص من صورة "الفتاة التي لا تأكل شيئاً طوال الوقت"، وطبعاً وقت الفطور كنت آكل سلطةً أو فاكهةً فحسب، فيما يلتهم الجميع الفول والطعمية بسلام. كم تمنيت أن أحظى بلحظة واحدة من ذلك السلام؛ أن أتناول الفطور وأنصرف إلى العمل بشكل طبيعي!

عند الساعة العاشرة والنصف صباحاً، ذهبت إلى الصيدلية، فوجدت الميزان لا يعمل. حاولت إعادة تشغيله مرات عدة، فاعتذر الرجل قائلاً إنهم بحاجة إلى إصلاح الميزان. عندها بدأت بالبكاء، ورجوته أن يصلحه الآن، وأنا سأدفع ثمن إصلاحه بالكامل! بدأ جميع العاملين في الصيدلية بالانتباه إلى ذلك السلوك المريب، وسؤالي عن سبب قياس وزني يومياً. اخترعت تلك القصة الرائعة عن إصابتي بمرض مناعي نادر، وأنه يجب عليَّ مراقبة وزني باستمرار، لأن أي نقص في الوزن فيه تهديد لحياتي. طبعاً لم يتوقع أحد أن العكس هو ما يحدث، وأن نصف كيلوغرام زائد قادر على إفساد يومي بالكامل. كنت نحيفة في نظر الجميع!

لم يعمل الميزان. ذهبت إلى جميع صيدليات المنيل (جزيرة في نيل القاهرة)، بحثاً عن ميزان رقمي آخر، فلم أجد. حاولت السيطرة على نوبة الهلع، والعودة إلى المكتب لتسليم تقرير عاجل... لم أتناول أي شيء على الرغم من شعوري بالجوع الشديد. وبعد انتهاء الدوام، قضيت ساعتين في البحث عن ميزان آخر أثق به، فلم أجد. دخلت في نوبة نهمٍ، ثم تناولت جرعةً كبيرة من المنوّم، حتى أنام وأتوقف عن الأكل والهلع!

 فقدت دورتي الشهرية، وثلاثة ضروس سقطوا فجأة، وتساقط شعري، فاضطرت إلى حلاقته طوال الوقت. ظنّ الجميع أنه يليق بي. كان ذلك جيداً على الأقل. مع ذلك، كانت نوبات النهم في أبشع صورها، وتصوري عن جسدي ظل يسوء حتى بعد وصولي إلى الوزن المثالي في نظري

12 عاماً

أتذكر ذلك اليوم بتفاصيله كلها. كنت في غرفة القياس مع أهلي أشتري لباس الصيف. قست أكثر من ثماني قطع، واستمر والدي في التعليق على كل قطعة بأنها ضيقة، وتبرز مفاتني! شعرت بخيبة أمل. لن أكون جميلة يوماً ما، وأرتدي ملابس "طبيعية" مثل صديقاتي. خرجنا من المحل، ولم أشترِ شيئاً. شعرت بعدها بأني سمينة للغاية، وأن مشكلاتي كلها ستنتهي إذا فقدت الكثير من الوزن. حينها لن أملك مفاتن ربما، وسأرتدي ما أريد!

قضيت وقتاً على الإنترنت أبحث عن أسرع الطرق لفقدان الوزن، فوجدت ما يسمّى وقتها بالريجيم الكيميائي؛ وهو أن تتناولي صنفاً واحداً من الفاكهة كل يوم، لمدة أسبوع. خسرت بعض الوزن، وشعرت بالارتياح، ولم أستسلم بعدها. بدأت بإدخال بعض الأطعمة الخفيفة، وقطعت النشويات والدهون تماماً. استمر ذلك "الدايت" مدة شهر، حتى وجدت نفسي فجأةً ألتهم كميات كبيرة من الفطائر بالجبن، من دون أن أشعر. بعد الانتهاء، شعرت بالندم الشديد، وبأن شهراً كاملاً من الدايت يضيع سدى. حاولت أن أجبر نفسي على التقيّؤ، بصعوبة في البداية، حتى أتقنت الموضوع باحتراف.

بعد سنة من التقيؤ بشكل مستمر، أُصبت بالتهاب حاد في الجهاز الهضمي. ومن لطف القدر أن جسدي رفض التقيؤ نهائياً، وبدأت برحلة أخرى من أدوية التنحيف، والمليّنات، والرياضة، بشكل هوسي، للتعويض عن الأكل، استمرت 15 عاماً!

24 عاماً

سافرت للعمل في أحد بلدان الشرق الأوسط، وكانت هذه بالنسبة إليّ بداية جديدة، ومحاولة أخرى لفقدان الوزن. قضيت عاماً متواصلاً من المعاناة. وصلت إلى أقل وزن ممكن. فقدت دورتي الشهرية، وثلاثة ضروس سقطوا فجأة، وتساقط شعري، فاضطرت إلى حلاقته طوال الوقت. ظنّ الجميع أنه يليق بي. كان ذلك جيداً على الأقل. مع ذلك، كانت نوبات النهم في أبشع صورها، وتصوري عن جسدي ظل يسوء حتى بعد وصولي إلى الوزن المثالي في نظري.

طوال 15 عاماً، لم تغب تلك الأصوات عن ذهني دقيقةً واحدة. أصوات تخبرني كم أنا فاشلة و"تخينة"، أو تجبرني بأن أقيس وزني حالاً، أو تدفعني إلى الأكل بنهم، أو الامتناع تماماً عن الأكل. أصوات تمنعني من الخروج، ومخالطة الناس، خوفاً من أي تجمّع فيه طعام، أو لأني فاقدة الثقة بنفسي بعد نوبة نهم. أصوات تمنعني من بناء علاقات عميقة، أو المبيت عند أحد الأصدقاء، لأن لدي "سراً كبيراً" نجحت في تلك السنوات كلها في إخفائه، ولا أريد أن يُكشف أمري، لأنه لو رآني أحد في نوبة نهم، سيشعر بالازدراء والقرف، وربما لن يعرفني مجدداً. لماذا لا يمكنني أن آكل كشخص طبيعي فحسب؟

27 عاماً... الهاوية وقرار التعافي

قبل السفر، كنت أحرم نفسي من الأكل حتى أكون في أفضل شكل ووزن.

قبل تلك "السفرية" تحديداً، كنت أتمرّن بشكل مكثّف مرتين في اليوم، وأخذ بعض المكملات، فازداد وزني نحو خمسة كيلوغرامات. كنت بالفعل أشعر بالاستياء في أثناء السفر.

طوال 15 عاماً، لم تغب تلك الأصوات عن ذهني دقيقةً واحدة. أصوات تخبرني كم أنا فاشلة و"تخينة"، أو تجبرني بأن أقيس وزني حالاً، أو تدفعني إلى الأكل بنهم، أو الامتناع تماماً عن الأكل.

ذلك اليوم، أكلت كميةً مهولة من الطعام على وجبة الفطور، حتى لم أستطع التنفس. حاولت التقيّؤ بعدها وفشلت، فجرحت حلقي، وشعرت بألم شديد طوال اليوم، وبصعوبة في الكلام. قررت أني لن أنعزل في غرفتي، وأفوِّت فرصة الاستمتاع بالسفر، فارتديت ملابس فضفاضة، وتجنبت النظر في المرآة. لن أدع ذلك يتحكم بي، وسأستمتع مهما حدث، قلت محدثةً نفسي. حاولت تنظيم أنفاسي، والخروج إلى الشمس.

ذهبنا إلى مدينة "إيلا"، للهايكينغ وممارسة الأنشطة. انفصلت عن المجموعة، ودخلت إلى منطقة جميلة جداً، ووجدت مجموعة من الأشجار فيها بقع بيضاء سائلة، ويتجمع الناس للتصوّر معها، لأنها جميلة ومختلفة. سألت عن هذه الأشجار، فقال لي أحدهم إن اسمها أشجار البهاق، نظراً إلى منظرها الفريد. فكّرت لو أن هذه الأشجار أشخاص عندهم بهاق بالفعل؛ لن يتعامل معهم أحد على أنهم تحفة فريدة مميزة، وسيلقون الكثير من التنمر والانتهاك. فكرت طويلاً في كل هذه القيود المجتمعية للجمال، ولم أجد إجابات منطقية؛ لماذا نتعامل مع الأشخاص الأكبر حجماً على أنهم أقل جمالاً من شخص أصغر، بينما لا نتعامل مع بقية الكائنات الحية بالمنظور نفسه؟ لماذا قضيت حياتي كلها أرغب في حشر جسدي في قالب أصغر، لأن تلك هي معايير الجمال التي أظنها، أو يظنها الجميع؟

قررت أني سأسمح لأكبر مخاوفي بالحدوث، وسأزيد وزني. شعرت بارتياح شديد لهذا القرار. تناولت العشاء يومها، وكان طبقاً يدعى "كوتو"؛ عبارة عن عجين باللحم والخضار. لم أكن سآكله في حياتي! شعرت بسعادة غامرة كطفل يجرّب الطعام للمرة الأولى. طلبت حلوى ومشروبات، وقابلت بالصدفة رجلاً حكى لي عن معاناته مع اضطراب يتصل بالطعام، وأنه يحسب السعرات الحرارية عن طريق أبليكايشن (تطبيق) عبر الهاتف. أتذكر أني تباهيت وقتها بأني لا أحتاج إلى أي تطبيق، لأني أحفظ جميع السعرات في كل الأطعمة. شك في ذلك، وراهنني على علبة سجائر بأنني لن أعرف عدد السعرات في الوجبة التي أمامه. فزت بجدارة بالطبع. يا لها من مهارة رائعة! ضحكنا بسخرية حزينة.

أخذت أجزاء الصورة في الاكتمال. يرسل لي الكون إشارات بأنه حان الوقت للتعافي نهائياً. هذه المرة مختلفة، ليست مثل جميع المحاولات السابقة.

بدأتُ رحلة تعافٍ استمرت سنة ونصف السنة. يمكن القول إن السنة ونصف السنة تلك، هي أصعب من 15 سنةً من الصراع مع الاضطراب. كنت أعمل على محاور عدة: أن أقوم بتغذية جسمي بشكل سليم، بعد سنوات من الحرمان والنهم، وأتعلم أن آكل بشكل حدسي، بعد أن فقدت كل التواصل مع جسدي، وأن أعترف بالمشكلة، وأتصالح مع كل لحظات العار، والتصرفات الغريبة، والكذب المستمر في أي سياق فيه طعام أو تجمعات، وأن أتقبل أن هذا حدث لي، وأني أنا فقط المسؤولة عن تغييره، من دون البقاء طويلاً في فخ لوم الأهل على ما حدث.

لم يفهم أحد يوماً ما أمرّ به، ولذلك قررت التحدث لأجل هؤلاء كلهم الذين يعانون من اضطرابات الأكل، ويظنون أنهم وحدهم، وأنهم لا يستحقون الحب. لأجل هؤلاء كلهم الذين فقدوا الأمل مراراً بالتعافي

تطلّب مني الأمر الكثير من القراءة، والتحدث إلى متعافيات ومتعافين من ثقافات مختلفة، ورحلات كثيرة في الطبيعة تطلّبت أن أترك القاهرة كلياً، وأنتقل للعمل في مزرعة. الكثير من التأمل، والكتابة، ومراقبة أفكاري، وتجريب تقنيات مختلفة، لفهم دائرة السلوك الإدماني القهري، حتى فهمت نفسي تماماً، وأحببتها للغاية.

لم أندم يوماً على هذا القرار. كان أفضل قرار في حياتي، وأفضل استثمار. لم أكن أتوقع أن التعافي ممكن. لم أكن أتوقع أن الحياة بعد التعافي هي بهذه الروعة.

أمس، تناولت ثلاث قطع من البيتزا، وآيس كريم، على الغداء، ثم انصرفت إلى العمل بسلام. لم أشعر بالذنب. لم أشعر بالحاجة إلى إنهاء البيتزا بالكامل، والاستمرار في الأكل. لم أقف أمام المرآة بعدها، لأراقب كم "إنشاً" زاد في جسمي بعد تناول البيتزا. لم أقِس وزني، ولم أعد أقف على الميزان. لا يحدد ذلك الرقم من أنا؟ ولا كيف سيسير يومي؟ قلَّت الأفكار الوسواسية القهرية حول الأكل، وتحسّن تصوري عن جسدي بشكل ملحوظ.

لم يفهم أحد يوماً ما أمرّ به، ولذلك قررت التحدث لأجل هؤلاء كلهم الذين يعانون من اضطرابات الأكل، ويظنون أنهم وحدهم، وأنهم لا يستحقون الحب. لأجل هؤلاء كلهم الذين فقدوا الأمل مراراً بالتعافي. لأجل هؤلاء الذين يسافرون في الطريق الخطأ، وما زالوا يظنون أنهم معدومو الإرادة، وأن الحل في تجربة "دايت جديد"، وتقويم النفس!

يجب أن يكون التعافي فحسب في المرتبة الأولى، وأن تكون على استعداد للتنازل عن تغيير الوزن، وخسارة الأصدقاء، والعزلة، والنكسات المستمرة، والأفكار التي تشكك بقدرتك على فعل هذا. ثِق بجسدك أنه يعرف ما يجب عليه فعله للنجاة. ثِق بالرحلة. لا تسِر في رحلة التعافي بشكل مستقيم أبداً، وهو أفضل شيء سيحدث لك على الإطلاق!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image