شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لماذا تحتاج مصر إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية؟

لماذا تحتاج مصر إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الثلاثاء 3 سبتمبر 202410:41 ص

في الآونة الأخيرة، خرج علينا بعض الإعلاميين المصريين في مشهد عبثي، يوحي بأن هناك حالة أو شعوراً عاماً يعكس الافتتان بالجهل وكراهية العلم، بخطاب رافض لتدريس المواد الأدبية في المناهج المدرسية، بل وإغلاق أقسام العلوم الإنسانية في الكليات والجامعات، تحت زعم أنها ليست علوم "أكل عيش"، ولا تهمّ سوق العمل، ولا تخدم الشباب الباحثين عن فرص عمل، والأهم هو تعلّم الحرف والصناعات والبرمجة، ما يفتح الباب أمام تساؤلات في منتهى الأهمية والإجابة عليها من ذات الأهمية بمكان حاضراً ومستقبلاً.

لماذا هي علوم إنسانية؟

لنبدأ كلامنا حول ماهية تلك العلوم النظرية، وهي ما يطلق عليها العلوم الإنسانية، وقد اكتسبت صفة الإنسانية لأنها تهتمّ بكل ما يحيط بالإنسان من مؤثرات بيئية، مكانية واجتماعية وسياسية واقتصادية، بل وبما تحويه النفس الإنسانية بداخلها من مشاعر وضمائر وأحاسيس، والجانب الأبرز في تلك السمة الإنسانية هو العقل الإنساني، فالعقل الذي يبثّ أفكاراً ويكتسب أفكاراً ويؤمن ويتأثر بها، هو المحرّك الرئيسي لتوجهات الإنسان، وبوصلته الرئيسية تجاه الخير أو الشر، صوب الفضيلة أو الرذيلة – بالمفهوم الاجتماعي لا الديني – فالعقل هو الذي يخزّن الصور الذهنية ويتقبل جميع الأفكار، وفي نفس الوقت قادر على صنع مصفوفة أخلاقية، حقيقية أو مصطنعة، لتمرير ما يناسب أهدافه ومصالحه من أفكار.

الدولة المصرية الآن تشحذ كل همّتها من أجل تصدير خطاب وطني دعائي، يغلب عليه طابع الشوفينية الفارغة المصبوغة بالجهل، بل وتصدير رموز إعلامية تتسم بقدر عال من الجهل وانعدام المعرفة

لماذا تكره الدولة العلوم الإنسانية؟

ربما يبدو أنه تساؤل مبالغ فيه، أو يحمل روحاً عدائية تجاه الدولة، إلا أن الحقيقة تعبر عن فحوى التساؤل الهام بقدر ما يحمل دلالات عميقة تتعلق ببنية المجتمع الفكرية والثقافية، أو حمولته العقلية. الدولة المصرية الآن تشحذ كل همّتها من أجل تصدير خطاب وطني دعائي، يغلب عليه طابع الشوفينية الفارغة المصبوغة بالجهل، بل وتصدير رموز إعلامية تتسم بقدر عال من الجهل وانعدام المعرفة، لكي تردّد ذلك الخطاب الأجوف على مسامع المواطنين، رافعة شعارات حب الوطن ودعم مصر وبناء جمهورية جديدة برؤية جديدة تتحقق نتيجتها وتؤتي ثمارها بإطلالة عام 2030، والسؤال: هل تتحقق رؤى أو مشروعات ناجحة لأي دولة دون علوم إنسانية تساهم في تحقيق حياة عادلة وصحية من جميع النواحي للمواطنين؟

العلوم الإنسانية مثل التاريخ الذي يعجّ بآلاف الحوادث والسرديات والقصص التي تدرك أهمية العقل في التاريخ وأهمية تنظيم وترتيب المجتمع على أسس اجتماعية وسياسية عادلة، كما تؤكد الجغرافيا على أهمية الموقع والمكان والحدود السياسية الاستراتيجية التي تمكن الدولة من فرض نفوذها الجيو‑سياسي على أراضيها، فلا تفرّط في بقعة غالية من ترابها، بل وتستردّ حقوقها المسلوبة منها، كما فعلناها في حادثة استرداد طابا من قبضة العدو الإسرائيلي، بقرار محكمة العدل الدولية عام 1989، فلولا علم الجغرافيا والخرائط ما كانت مصر حصلت على حقها التاريخي في أرضها، كذلك الفلسفة، وهي أخطر العلوم تأثيراً على العقل، لأنها ببساطة تشكل رؤية تفسيرية للعالم كلياً وللمجتمع جزئياً.

لا تريد الدولة العلوم الإنسانية لما تملكه هذه العلوم من خاصية التغيير، فالإمساك بتلابيب العقول هو صمّام الأمان لأي سلطة

الفلسفة تجعل للعلوم خلفية عقلية قوية تستند إليها في حروبها ضد التخلّف والرجعية والخرافات، وضد كل ما يسمى ثوابت ومقدسات. الفلسفة تؤطر العقل وتحميه بسياج حديدي، ما يجعله ثائراً في وجه الظلم واللامنطق، وفي أحيان تجعله هادئاً لتمكّنه من حل المشكلات التي تواجهه بكل جسارة.

علم النفس الذي يدرس بتفحّص وتدقيق خفايا وكوامن الإنسان، محاولاً علاجه من أزماته التي وقع فيها جرّاء تأثره بالواقع المادي الأليم الذي يعيش في مشكلاته يومياً، وربط محاولات التشخيص المرضي بالأمراض الاجتماعية العامة، في إطار تخصّص دقيق يسمى "علم النفس الاجتماعي"، وعلم الاجتماع الذي يدرس العوامل والدوافع والأسباب التي تدفع بالمجتمع نحو الأزمات النفسية والأمراض الاجتماعية التي هزمته وأوقعته في براثن التطرّف والإرهاب والرجعية والسلطة أيضاً. علم الاجتماع الذي يشخّص أزمات السكان والصحة والتعليم والتربية والأسرة والمرأة والطفل وأزمة الديمقراطية والاستبداد، من منظور كلّ من علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الديني.

لا تريد الدولة العلوم الإنسانية لما تملكه هذه العلوم من خاصية التغيير، فالإمساك بتلابيب العقول هو صمام الأمان لأي سلطة، وليس بالضرورة الإلغاء بمعناه الحرفي، أي أنها لا تدرس فقط، بل يمكن أن تدرس، لكن في إطار إيديولوجي يخدم مصالح الدولة في الإبقاء على ما يسمى بالعقول الممسوخة التي تتسم بالتفاهة والسطحية والجهل المركب؛ لذلك يلجأ الخطاب الإعلامي إلى ذرائع وحجج واهية، من قبيل أن التاريخ والفلسفة لا يصلحان لسوق العمل، بل عليكم تعلّم حرف وصناعات وكمبيوتر ولغات، ليغطوا بذلك على نقطتين وهما: فشل الدولة في إيجاد فرص عمل حقيقية وسوق عمل قائم على التصنيع والإنتاج بدلاً من الاقتصاد الخدمي الريعي من ناحية، وتعمية عن إصلاح المجال العام سياسياً من ناحية أخرى، علماً بأن العلوم الإنسانية أصلاً هي أساس العلوم التطبيقية والتجريبية – لكن ليس هناك متسع لتناول تلك المسألة الآن- والنتيجة يظل أفراد المجتمع خاضعين ومذعنين ومطيعين طاعة عمياء، وهو ما سماه فوكو بـ "السلطة الانضباطية"، وتتحقق تلك الهيمنة بواسطة ما سماه ألتوسير، بـ "أجهزة الدولة الأيديولوجية"، وعلى رأسها آلة الإعلام الجبارة التي تعتبر أسهل وصولاً إلى عقل وعين وسمع المواطن، وأيسر استقبالاً من أي كتاب أو ندوة نقاشية أو مساجلات حوارية.

دراسة وتدريس العلوم الإنسانية تدريساً حقيقياً تغني المجتمع عن اللجوء إلى المؤسسات الدينية الرسمية ورجال الدين والدجالين والمشعوذين، لحل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية

لماذا نحن في حاجة إلى علوم تكوين العقل؟

لأن العلوم الإنسانية التي تضمّنت الكثير من التخصّصات النظرية والعملية منها، مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفة والاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا، والتي من الممكن أن أسميها "علوم تكوين العقل"، والتي بدورها قادرة على خلق منظومة من الأفكار، تؤدي بشكل كبير إلى تغييرات اجتماعية وسياسية، وإعادة تشكيل البنية الثقافية والفكرية للمجتمع، قادرة على نقد ما يسمى ثوابت المجتمع، ومواجهة التخلف والرجعية الدينية والأنماط القبلية التي مازال المجتمع المصري يعيش في ظلها حتى الآن، خصوصاً في المناطق الريفية، بل ويمتد تأثيرها إلى المدن.

دراسة وتدريس تلك العلوم تدريساً حقيقياً تغني المجتمع عن اللجوء إلى المؤسسات الدينية الرسمية ورجال الدين والدجالين والمشعوذين، لحل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهي ليست من اختصاصاتهم بالأساس. دراسة وتدريس تلك العلوم توقظ المجتمع من سباته العميق وغفوته التي طالت، وتنبّه العقول التي تيبّست وتحجّرت، وربما تتحقق ضالتنا المنشودة في يوم من الأيام، إذا رأينا أن العقل يستحق منا أن يكون عقلاً واعياً نشطاً قادراً على استيعاب ما يحدث.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard