شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
قطّة الأدب التي خدشت بأظافرها الحياء العام

قطّة الأدب التي خدشت بأظافرها الحياء العام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الاثنين 2 سبتمبر 202410:31 ص

في نقاش مع إحدى الصديقات بخصوص الجدل الذي أثير حول رواية "هوارية" للروائية الجزائرية إنعام بيوض، قلتُ لها بأنّني في كلّ مرة أسمع فيها بأنّ نصاً أدبياً خدش الحياء العام في المجتمعات العربية، يُخيّل إلي بأنّ الأدب هو قطة لها أظافر لغوية، وأنّ الحياء العام هو كائن حيّ، له جلد هشّ، ما أن تُبرِز له قطة الأدب أظافرها اللغوية والاستعارية حتى تصيبه وتخدشه، ولو كانت بعيدة ويفصلها عنه مئات الكيلومترات.

كنتُ ألقي على مسامع صديقتي هذا التشبيه الساخر، وأتذكّر كم يستفزني مصطلح "خدش الحياء العام" الذي لا تستخدمه ألسنة الناس في المجتمعات العربية إلا لتقدّم اعتراضاتها على فيلم أو رواية أو لوحة أو رقصة، وكأنّ هذا الحياء هو محصّن ضدّ كلّ العورات والآفات المجتمعية التي تحدث أمام عينه من ظلم وقهر وكبت واستبداد وإهدار للكرامات الإنسانية، ولا تخدشه سوى إنتاجات الآداب والفنون.

تذكّرتُ ما كتبته بثينة العيسى في كتابها "شرف المحاولة: معاركنا الصغيرة ضدّ الرقابة" من أنّ المجتمعات العربية قد تكون دخلتْ فِعلياً بشكل لاواع في منطق الرقيب، حتى صار الناس فيها سلطة رقابية عليا على أنفسهم، وأفكارهم، ورغباتهم، وهواجسهم، وكأنّ عبارة "انتبه: الأخ الكبير يراقبك!" التي أوردها جورج أورويل في روايته "1984"، كتمثيل لسلطة الرقابة الشمولية التي تعدّ على الشخص حركاته وسكناته، هي عبارة قد رسَخت في وعي أفراد تلكَ المجتمعات، وتمّ تحويرها داخل رؤوسهم ليُصبحوا "الإخوة الكبار" لأنفسهم، وليقيموا في دواخلهم شمولياتهم الخاصة.

في كلّ مرة أسمع فيها بأنّ نصاً أدبياً خدش الحياء العام في المجتمعات العربية، يُخيّل إلي بأنّ الأدب هو قطة لها أظافر لغوية، وأنّ الحياء العام هو كائن حيّ، له جلد هشّ

أصحاب دعاوى خدش الحياء العام في مواجهة اللغة التراثية الجريئة

تُورِد بثينة العيسى في كتابها السابق، بأنّ الروايات والكتب الأدبية التي يُثار الجدل حولها في المجتمعات العربية، وتتهّم تحت ذرائع وجود مشاهد جنسية بإشاعة الفاحشة أو خدش الحياء العام، هي كتب لم تخرج عن أعراف تناول الجنس في الأدب، الحديث والقديم، العربي والعالمي، الإسلامي وغير الإسلامي.

فمنع تعاطي الجنس في الأدب -كما تقول العيسى- يستوجب منع أبرز المتون الأدبية في الثقافة العربية والإسلامية مثل "ألف ليلة وليلة"، و"تحفة العروس" و"رسائل الجاحظ"، و"رشف الزلال من السحر الحلال" للسيوطي، و"نزهة الألباب بما لا يوجد في كتاب" للشيخ التيفاشي، و"الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفراوي، وكتاب "الأغاني" للأصفهاني وغيرها.

ومنع تداول ألفاظ الكفر والزندقة في الدواوين الشعرية المعاصرة، يستوجب منعها في الدواوين الشعرية التراثية، فمثلاً، إذا قام أحد بقراءة بعض النصوص الشعرية لأدونيس بحَرفية مفرطة دون الالتفات إلى طبيعتها الشعرية؛ الاستعارية والرمزية معاً، وأرادَ أن يُحاكِمها بتهمة الكفر والزندقة، فعليه أيضاً أن يُحاكِم التراث الشعري للمتنبي والحطيئة وابن رومي وبشار بن برد والمعري وغيرهم، لأن نصوصهم الشعرية فيها نفس ملامح الكفر والزندقة التي في نصوص أدونيس.

يعجز أصحاب دعاوى خدش الحياء العام، عن مواجهة هذا التراث الأدبي والشعري ذي اللغة الجريئة المنفتحة، المتمرّدة، الخارجة عن كلّ التقييدات، فمطالبتهم بمنعه يعني تقويض المدونة التراثية العربية النثرية والشعرية بالكلية. إنّهم يقفون أمامه بأفواه مشدوهة، وتغيب عنهم فكرة ضرورة تقبّله كما هو، بما فيه من إيمان وكفر، وعفة ومجون، وقداسة ودناسة، لانّه يُعبّر عن التجربة البشرية بكلّ تناقضاتها.  

إذا قام أحد بقراءة بعض النصوص الشعرية لأدونيس بحَرفية مفرطة دون الالتفات إلى طبيعتها الشعرية؛ الاستعارية والرمزية معاً، وأرادَ أن يُحاكِمها بتهمة الكفر والزندقة، فعليه أيضاً أن يُحاكِم التراث الشعري للمتنبي والحطيئة وابن رومي وبشار بن برد والمعرّي وغيرهم

دور النشر تقلّم أظافر الأدب حتى لا يخدش الحياء العام

لَفتني مؤخراً إعلان لدار نشر ترغب في استقطاب كتاب ومؤلفين لنشر كتبهم ومؤلفاتهم ضمن إصداراتها، وما لفتني في الإعلان هو ذلك البند الذي تُدرجه الدار كشرط للموافقة على النشر لديها، وتَطلب ضمنه، من الكاتب أو المؤلّف في الأدب على اختلاف أشكاله، ألا يتجاوز في مؤلّفه التابوهات الجنسية والدينية والسياسية، وأن يتقيّد فيه بعدم الإساءة للأخلاق العامة أو خدش الحياء العام.

خامرني الاستغراب من مضامين الإعلان، وخلتُ أنّ دار النشر تلك تقف أمام الأظافر الطويلة في اللغة الأدبية والاستعارية وهي تحمل معها مقصّ الرقيب، وتريد أن تُقلّمها وتقصّها حتى لا تخدش الحياء العام.

إنّ تلكَ الدار وغيرها تدعو الناشرين لديها –من حيث تدري ولا تدري- إلى إخضاع الأدب على اختلاف أشكاله (شِعر، نثر، رواية...) لمنطق الثنائيات الأخلاقية، فهي تدعوهم إلى تقسيم اللغة الأدبية إلى لغة أخلاقية ولغة لا أخلاقية، وذلك في نسيان واضح وصريح لحقيقة أنّ الأدب بكافة أشكاله يأتي ليروي التجربة المعيشية للأفراد والمجتمعات، وليعكسها بكافة جوانبها، وليصوّر فضائلها ورذائلها، وصوابها وخطئها، وخيرها وشرّها.

تذكّرتُ وأنا أقرأ إعلان الدار لغة محمد شكري التي استخدمها في سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، وكم الانتقادات التي سمعتها من أحد الأصدقاء عليها ذات مرة، فمآخذه على شكري كانت أنّه استخدم لغة روائية عادية، صادقة ومباشرة، خالية من الانشغالات الجمالية، وممتلئة بالواقعية المبتذلة، وقام باستعمال كلمات جنسية، بعيداً عن اللغة الروائية المتعالية والمؤدبة التي تستخدم تعبيرات مواربة لتصف واقع العلاقات بين البشر، وقلتُ في نفسي: "لو أنّ دار النشر تلكَ سمعت كلام ذلك الصديق لمنحته وساماً، وسلّمته مقصّاتها لتقليم أظافر اللغة الروائية الطويلة والفاحشة في (الخبز الحافي) وغيرها من الروايات الأخرى".

لعلّ تقليم أظافر الأدب لا يحتاج سوى تلك الإعلانات، التي تأتي وكأنّها تُطالِب كتاب الأدب وقرّائه باللجوء إلى دور الإفتاء، قبل أن يتجرّأوا على كتابته أو قراءته!

أحبّ أن يأتي عليّ يوم أتخلّص فيه من جميع قيود سلطة الرقابة الذاتية، وذلك اليوم فقط هو الذي يُمكنني أن أنظر فيه إلى كتابتي المقالية والأدبية، متعجّبة من ملامح الحرية التي فيها وقائلة لها: "ياااه، كم أنتِ كتابة جميلة وحرة!"

الرقابة الذاتية وتقليم أظافر الأدب

لا شيءَ يُخيفني في حقول الكتابة بشكل عام، والكتابة الأدبية بشكل خاصّ، أكثر من قيود الرقابة الذاتية التي أفرضها على نفسي، في كلّ مرة أكتب فيها شيئاً وأتردّد أو ألغي فكرة نشره، أضعُ نفسي على طاولة المحاسبة، أدخل معي في محاورات طويلة وأسألني: "ما الشيء الذي أخافكِ حتى ترددتِ أو خفتِ ولم تقولي كلمتكِ يا فتاة؟ أي سلطة سياسية أو دينية أو مجتمعية خفتِ منها وخضعتِ لقيودها ولم تتجرئي على البوح بما تريدين قوله؟".

وحقاً، رغمَ كلّ محاولاتي لكتابة نصوص أو قصص أو مقالات تُعبّر عما أريد قوله في كلّ وقت، تأتي عليّ بعض الأوقات التي أُخضع نفسي فيها لرقابة ذاتية صارمة فأتردّد وأسكت، وأقع تحت حالة استياء مزدوج؛ استياء أوّل من سماحي لهذا النوع من الرقابة بالتسلّل كلّ هذا الحدّ إلى نفسي، واستياء ثانٍ من هذا الصمت الذي أعتبره، في مثل الحالة، خرَساً اختيارياً، نتيجة خضوع مطلق لسلطة الخوف.

أحبّ أن يأتي عليّ يوم أتخلّص فيه من جميع قيود سلطة الرقابة الذاتية، وذلك اليوم فقط هو الذي يُمكنني أن أنظر فيه إلى كتابتي المقالية والأدبية، متعجّبة من ملامح الحرية التي فيها وقائلةً لها: "ياااه، كم أنتِ كتابة جميلة وحرة!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard