منذ انتهاكها لاتفاقية أوسلو، تستخدم إسرائيل أساليب عدة للسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني في الضفة. وقد ازدادت هذه السيطرة مع السنوات حتى صعود حكومة اليمين التي تستخدم الاقتصاد كأداة عقاب جماعي للفلسطينيين، لا سيما في ظل حرب الإبادة على غزة.
وقد تكون أبرز هذه الأساليب حجز الأموال الفلسطينية (المُقاصّة). وهي الضرائب التي تجنيها إسرائيل من الفلسطينيين على السلع المستوردة من إسرائيل أو من المعابر الحدودية الإسرائيلية، وتُشكل نسبة 70% من إيرادات السلطة.
أما الخطوة الأخيرة التي قامت بها إسرائيل في التصرف بأموال السلطة، فتطورت من "الحجز والتجميد" إلى قرار أمر به وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، مطلع آب/ أغسطس 2024، بمصادرة مبلغ 26.2 مليون دولار من السلطة الفلسطينية كتعويض "للمتضررين الإسرائيليين من العمليات الإرهابية الفلسطينية".
وعلى الرغم من أن القرار أعقب قانوناً إسرائيلياً جديداً يتيح لعائلات إسرائيليين قُتلوا في عمليات لـ"المقاومة الفلسطينية"، المطالبة بتعويض مالي من السلطة الفلسطينية.
إلا أن القانون، الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في آذار/ مارس 2024، لم يكن قانوناً مستجداً تماماً. كما أن مصادرة أموال السلطة جاءت كأنها خطوة إسرائيلية "روتينية". فبحسب القناة 12 العبرية، فإن هذه هي المرة الخامسة التي يأمر فيها سموتريتش بمصادرة أموال تابعة للسلطة.
سياسات قديمة عمّقها اليمين المتطرف
ترى الباحثة في السياسات الاقتصاديّة والتنمويّة لميس فرّاج، في حديث لرصيف22، أنه "منذ تصاعد سيطرة اليمين الإسرائيلي، وتشكيل حكومة يمينيّة متطرّفة برئاسة نتنياهو بداية العام 2023، شرعت الحكومة الجديدة في تنفيذ سياسات تعمق القمع والسيطرة على الفلسطينيّين".
وتضيف: "تهدف هذه السياسات إلى ترسيخ التبعيّة الاقتصاديّة من خلال تكثيف التحكّم في إيرادات السلطة الفلسطينيّة ورفع المبالغ المجمَّدة أو المحجوزة من أموال المقاصّة، بذريعة أنّها أموال مخصَّصة لدعم عوائل الأسرى والشهداء".
وتأتي هذه الذريعة بموجب قانون أقرّ عام 2018، يسمح باقتطاع جزء من عائدات الضرائب الفلسطينية بالقيمة نفسها التي تدفعها السلطة الفلسطينية لذوي الشهداء والأسرى في السجون الإسرائيلية.
اقتطاع مخصصات عائلات الشهداء والأسرى يعني التأثير على جميع مناحي حياة هذه العائلات، كالتعليم والصحة والتنقل والحق في حياة كريمة
في حينه، تمت المصادقة على القانون بالقراءتين الثانية والثالثة بموافقة 87 نائباً في الكنيست من أصل 120.
ويتيح القانون احتجاز مخصصات الأسرى والشهداء الفلسطينيين من الأموال المنقولة إلى السلطة الفلسطينية.
يستند هذا القانون إلى قانون مكافحة الإرهاب الذي سُنَّ عام 2016. وقد بدأ العمل بموجبه بداية عام 2019، عندما حجزت إسرائيل نحو 500 مليون شيكل وادّعت أنّها قيمة الأموال التي خصّصتها السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة لأُسر الشهداء والجرحى والأسرى في العام 2018.
ما الجديد إذاً؟
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، رفضت الحكومة الإسرائيلية تسليم أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية، والتي تستخدمها الأخيرة في دفع رواتب موظفي القطاع العام والمتقاعدين.
لكن هذه المرة، لم يسرِ قانون عام 2018 على تجميد أموال السلطة أو احتجازها كأداة عقاب لعوائل الأسرى، بل سنّ الكنيست الإسرائيلي في آذار/ مارس 2024، قانوناً جديداً يتيح لإسرائيل التصرّف بأموال السلطة المقتطعة، من خلال فتح المجال أمام عائلات إسرائيليين "متضررين من عمليات فصائل المقاومة الفلسطينية" لرفع دعاوى في المحاكم الإسرائيلية للمطالبة بتعويضات.
وخلال حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو، قدم 195 إسرائيلياً من المصابين في الهجمات الفلسطينية وعائلات القتلى طلبات بتعويضات مالية قيمتها 1.4 مليار دولار.
وكانت السلطة الفلسطينية قد تقدّمت في أيار/ مايو 2024، بالتماس للمحكمة الإسرائيلية العليا، تطالب فيه بإلغاء قانون "تعويض ضحايا الإرهاب"، إلا أن سموتريتش سارع إلى مصادرة أموال من السلطة، حتى قبل أن تبت المحكمة الطلب.
على رأس الهرم تقف إسرائيل، والتابعيين في أدنى هذا السلم هم الفلسطينيون. نحن سوق واحدة، وعملة واحدة، ونقد واحد وسياسات مالية واحدة، لكنّ هناك حكماً عسكرياً يربط اقتصاد الفلسطينيين ويفقرهم أكثر
يقول رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس لرصيف22: "إن الأمر يتعدى كونه احتجاز أموال، بل هي سرقة علانية فيها تجاوز للاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومخالفة للقانون الدولي كذلك".
وفيما يتعلق بتغطية العجز الناجم عن اقتطاع هذه المبالغ، يقول فارس: "نحن نتعامل مع حقوق عائلات الشهداء والجرحى والأسرى كجزء من منظومة الحقوق المالية لجميع الفئات التي تنفق عليها السلطة الفلسطينية. وبالتالي، حين يحدث عجز في الميزانية، فإنه يُوزع على الجميع ولا يقصر على فئة دون أخرى".
وأوضح فارس أن المادة 22 من القانون الأساسي الفلسطيني ينصّ على "رعاية أسر الشهداء والأسرى ورعاية الجرحى والمتضررين والمعوّقين. فتكفل السلطة الوطنية لهم خدمات التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي".
"إذا لم يتعارض مع أمن إسرائيل"
"اقتطاع إسرائيل لمخصصات عائلات الشهداء والأسرى من أموال المقاصة يعدّ عقاباً جماعياً ويخالف بشكل صريح وواضح القانون الدولي الإنساني الذي ينص على عدم معاقبة أي شخص عن مخالفة لم يرتكبها"، يقول مدير عام مؤسسة "الحق" شعوان جبارين لرصيف22.
وأضاف أن القانون يحظر أيضاً تطبيق عقوبة جماعية على مجموعة أشخاص عن فعل ارتكبه شخص آخر. وهذه إحدى الضمانات الأساسية التي تنصّ عليها اتفاقيات جنيف.
ولفت جبارين إلى أن اقتطاع مخصصات عائلات الشهداء والأسرى يعني التأثير على جميع مناحي حياة هذه العائلات، كالتعليم والصحة والتنقل والحق في حياة كريمة.
من جهته، يؤكد وليد حبّاس، الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية لرصيف22 على أن "كافة القوانين والبروتوكولات والاتفاقيات الدولية التي تكون إسرائيل جزءاً منها تتضمن بنوداً مثل: "إذا لم يتعارض مع أمن إسرائيل".
وبهذا تستغل إسرائيل القوانين وتدعي بأن السلطة تدعم "المخربين"، ما يعد انتهاكاً لاتفاقية أوسلو. هكذا تسوق نفسها أمام المجتمع الدولي" يضيف حباس. موضحاً أن هناك العديد من المؤسسات الأهلية التي تعمل في إسرائيل خصيصاً لصالح هذا الموضوع، منها مركز أبحاث وظيفته فقط مراقبة الإعلام الفلسطيني لرصد أي تصريح يدعم "الإرهاب الفلسطيني"، بالإضافة لمنظمات أخرى تراقب توزيع الأموال.
ويرى حبّاس أن "بروتوكول باريس" ينطوي على المزيد من البنود التي تمنح سموتريتش القدرة على تنفيذ سياسات إلى جانب مصادرة أموال المقاصة".
كيف تحولت المقاصة إلى أداة ابتزاز بيد إسرائيل؟
يحدد بروتوكول باريس أو البروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو العلاقة الاقتصادية بين "إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية.
وينص على قيام إسرائيل بجباية الجمارك والضرائب المختلفة للسلع المستوردة لمناطق السلطة الفلسطينية، كون إسرائيل تسيطر على المعابر والحدود، وبالتالي فإنها تسيطر على كل الصادرات والواردات الفلسطينية التي يجب أن تمر عبرها. وينص البروتوكول الاقتصادي على اقتطاع 3% من أموال الضرائب لصالح إسرائيل (كعمولة إدارية)، وتسليم تلك الإيرادات للسلطة الفلسطينية بشكل شهري.
"لكن إسرائيل تستخدم المقاصة كأداة ابتزاز ومقايضة"، تقول فراج. "تدرك الحكومة الإسرائيليّة أن هذه الأموال تشكّل أكثر من ثلثيْ إيرادات السلطة الفلسطينيّة. وبالتالي فإن حجز أو اقتطاع هذه الأموال يؤدّي إلى حرمان أكثر من 240 ألف موظَّف ومستفيد يعادلون نحو 25% من القوى العاملة في السلطة الفلسطينيّة".
وتؤكد فراج: "عند كل موقف لا ترضى عنه إسرائيل، تستخدم أموال الـمُقاصّة أداة لإحكام السيطرة على السلطة الفلسطينيّة ومعاقبتها. ففي العام 2000، على أثر اندلاع الانتفاضة الثانية، اُحتُجِز نحو 500 مليون دولار، ولم تحول إسرائيل للسلطة الفلسطينيّة سوى 16% من المستحقّات خلال عامين، أي حتى نهاية عام 2002".
ويرى حبّاس أن بروتوكول باريس وضع أساساً كجزء من سياسة إسرائيل في التحكم بالاقتصاد الفلسطيني.
هناك العديد من المؤسسات الأهلية التي تعمل في إسرائيل خصيصاً لصالح هذا الموضوع، منها مركز أبحاث وظيفته فقط مراقبة الإعلام الفلسطيني لرصد أي تصريح يدعم "الإرهاب الفلسطيني"
فهو "ينص على أن كل ما يتم إدخاله إلى الأراضي المحتلة من أموال وسياسات نقدية وعملات متداولة، وصولاً إلى قاعات الصناعة والتجارة، يمر من خلال ما يسمى "الكوجات" وهو مكتب المنسق، الذي يعد أعلى جهة لإدارة شؤون الأرض المحتلة"، يقول حبّاس.
ويردف: "إن أي جهة، سواء كانت محلية أو دولية، تتحدث عن المقاصة والأرقام المالية في فلسطين، هي سجينة بفكرة وجود دولة إسرائيل ودولة فلسطين المحتملة. لذلك تتم صياغة كل هذه الأفكار بناءً على وجود اقتصادين".
لكن في الواقع، نحن نعيش ضمن نظام اقتصادي واحد وهو نظام استعماري يحتوي على هيكليات. على رأس الهرم تقف إسرائيل، والتابعيين في أدنى هذا السلم هم الفلسطينيون. نحن سوق واحدة، وعملة واحدة، ونقد واحد وسياسات مالية واحدة، لكنّ هناك حكماً عسكرياً يربط اقتصاد الفلسطينيين ويفقرهم أكثر".
"حين لا ترضى إسرائيل عن السلطة"
تقول الكاتبة والمحللة السياسة د. نور عودة لرصيف22: "إن التذرع الإسرائيلي بأن السلطة الفلسطينية تدعم الإرهاب عبر دفع رواتب عائلات الشهداء والأسرى هو عنوان من ضمن عناوين كثيرة استخدمتها إسرائيل لممارسة الابتزاز السياسي ولتحقيق الغاية من برنامج الحكومة الإسرائيلية الحالية المتمثل بإنهاء وجود الكينونة الفلسطينية مادياً ومعنوياً".
وترى عودة أنها سياسة ليست جديدة، بل استخدمتها إسرائيل على سبيل المثال عام2011 بعد توجه فلسطين لرفع مكانتها في الأمم المتحدة. فتم احتجاز أموال المقاصة في حينه، مضيفة: "كل ما يتم الآن هو تبرير سياسة يراد منها إخضاع الفلسطيني بشكل كامل".
وتبيّن أن "إسرائيل لا تريد وجود لسلطة فلسطينية لا في الضفة الغربية ولا في قطاع غزة، وتتعامل الآن مع وجود كياني شبه رمزي على الأرض في الضفة الغربية للسلطة الوطنية الفلسطينية".
وترى عودة أن هدف الحكومة الإسرائيلية القائمة حالياً هو الاستيلاء بشكل كامل على الضفة الغربية. وقد شكلت حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة فرصة ذهبية لإسرائيل بأن تفعل ما تريد لتحقيق أهدافها وبرنامجها الحكومي بأسرع وقت ممكن وبأقل انتباه دولي ممكن".
وتشير إلى أن هذا البرنامج يضمن توسيع صلاحيات الحكومة في الضفة، والاستيلاء على الأراضي وإعطاء شرعية لإرهاب المستوطنين وتوسيع المستوطنات وبناء مستوطنات جديدة".
وتختم: "لم تكن هذه الإجراءات وليدة المصادفة. بل هي تطبيق عملي وسريع للبرنامج الحكومي الإسرائيلي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...