أثارت تصريحات الإعلامي المصري تامر أمين، الأخيرة حول جدوى دراسة العلوم الإنسانية مثل التاريخ والفلسفة والمنطق في المدارس والجامعات في مصر، جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية في مصر، وهذا يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل لسنا فعلاً بحاجة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية في مصر؟ وهذا يأخذنا إلى أسئلة أخرى: كيف هو حال دراسة تلك العلوم الآن؟ وكيف ينظر الناس إليها؟ وهل تلعب العلوم الإنسانية فعلاً دوراً في حياة الناس في مصر؟ وما هو مستقبل تلك العلوم؟
العلوم الإنسانية أمن قومي
تقول الباحثة المصرية هالة هاشم غنيم، أستاذة تاريخ الفن المساعد في جامعة "درسدن" الألمانية، لرصيف22: "تدريس التاريخ والجغرافيا والعلوم الإنسانية لطلبة التعليم الأساسي حتى مستوى التخصص الجامعي، مسألة أمن قومي، وهذا ليس تهويلاً وتضخيماً للأمور، فأنا أبني وجهة نظري هذه على كتابات الغرب الذي درست فيه، وأعرف كيف يفكّرون فيه".
وتوضح غنيم: "فعلى المستوى القومي، تتجه الدولة المصرية حالياً في مواجهتها الحالية للتطرّف الديني، سواءً كان تطرّفاً مسيحياً أو يهودياً أو مسلماً، إلى ما يُسمَّى بالهوية التاريخية الجمعية، وذلك لزيادة صور الانتماء وترسيخ الهوية المصرية في محاولات للتغلب على ما يُسمَّى بالعنف الديني أو ما يُسمَّى بالتفرقة على أساس العرق أو الدين، وتالياً تسعى الدولة إلى إيجاد هوية جمعية يُبحث عنها في التاريخ المصري؛ فلذلك نجد الدولة تنتج مسلسلات مثل 'أم الدنيا'، وهو مسلسل وثائقي أُنتج منه أكثر من جزء واستعانوا فيه بالمتخصصين في التاريخ والآثار".
أثارت تصريحات الإعلامي المصري تامر أمين، الأخيرة حول جدوى دراسة العلوم الإنسانية مثل التاريخ والفلسفة والمنطق في المدارس والجامعات في مصر، جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية في مصر
وتضيف غنيم: "وعلى المستوى الخارجي، عندما نقوّي جبهتنا الداخلية، ونُدرِّس تاريخاً حقيقياً مبنياً على البحث المتعمِّق ونبني عند طلاب المدارس والجامعات أساساً تاريخياً قوياً، فنحن بذلك نحمي جبهتنا الخارجية أيضاً، وليس جبهتنا الداخلية فحسب، خصوصاً في ظل قيام دول ونشوب حروب على أسس تاريخية ودينية".
العلوم الإنسانية في قلب الصراعات الدولية
يقول خالد فهمي، أستاذ علم اللغة في جامعة المنوفية، لرصيف22: "كل صراعات الوجود المعاصر وليدة فلسفات دينية وروحية، فمثلاً تدعم الولايات المتحدة الأمريكية الكيان الصهيوني منذ فترة طويلة، بناءً على اعتقاد عدد كبير من قادة الولايات المتحدة الأمريكية وسياسييها وزعمائها بالعقيدة الإنجيلية الصهيونية التي ترى أنه لن يتمّ نزول المسيح عليه السلام إلا بعد خراب الهيكل، ولن يكون خراب الهيكل إلا بعد الدعم والتعزيز والتوطين المستمر في الكيان الصهيوني، باعتبار أنَّ خراب الهيكل وخراب العالم هما العلامة-المؤشر على نزول المسيح، ومن ثمَّ كان كل ذلك الدعم غير المنقطع والذي لا يُتَصَوَّر توقفه نتاج إيمان حقيقي بفلسفات ورؤى دينية وروحية لدى المتحكمين في السياسات العالمية الراهنة".
وفي السياق نفسه، تؤكد هالة غنيم، على أننا "يجب أن نساعد الجيل الحالي في أن يواجه في المستقبل هجمات مثل الأفروسنتريك والتي تريد الولايات المتحدة من خلالها التخلص من السود بدفعهم نحو الاعتقاد بأنَّ أصلهم مصري وتاريخهم مصري، وهي السردية نفسها التي نشأت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع نهضة الصهيونية، فهناك دول جانبنا ومشروع آخر يُعاد استنساخه في الوقت الحالي عن طريق الأفروسنتريزم".
وتستطرد هالة غنيم: "فقد انتهينا من قصة الصهيونية ببناء الدولة الصهيونية التي تقوم على فكرة أنَّ الدولة قائمة بوعد ربّاني، وأنَّ هذه هي الأرض الموعودة، وهذا الكلام إلى آخره الذي أدَّى إلى احتلال فلسطين والآن يتنامى الأفروسنتريزم، وفي الوقت ذاته يحاول اليهود إنشاء سردية جديدة تقول بأنَّ الهكسوس لهم حق تاريخي في مصر. فعندما أُدرِّس أبناء الوطن التاريخ الصحيح، وأضع لهم أساساً، فأنا حينئذ أرسّخ انتماءهم إلى البلد وأرسِّخ عندهم مفهوم الحق القائم على الأدلة التاريخية".
وتطرح غنيم تساؤلاً: "هل هذا كلامي أنا؟ فلو لم أدرِّس التاريخ وأهملت فكرة تأسيس الطالب المصري من البداية في هذا الموضوع، ما الذي سيحدث؟".
وتجيب: "هناك كاتب اسمه جيسن شتاينهاور، له كتاب بعنوان E-History، أي التاريخ الإلكتروني، ويذهب فيه إلى أنَّه لو تمّ إهمال التاريخ البروفشنال، أي التاريخ الذي يكتبه متخصصون، وحدث عدم اكتراث لتدريسه سيكون هناك مخرج واحد للمتلقّي وللرأي العام. فعندما يريد المتلقي البحث عن معلومة مثلاً عند حدوث نقاش خاص بالسياسة أو نقاش خاص بالحق، أين سيبحث هذا المتلقي إذا لم يكن ثمَّة تاريخ يُدرَّس؟ الإجابة أنه سيبحث في السماوات المفتوحة أو في ما يُسمَّى بالتاريخ الإلكتروني. وهذا التاريخ الإلكتروني هو تاريخ غير بروفشنال، وغير مهني، وغير حقيقي، وغير قائم على بحث علمي، وذلك مثل فيديوهات الدحيح وفيديوهات ريهام عياد. سيدخل هذا المتلقي وليس لديه وعي.
هو فقط يريد أن يكون عنده ما يُسميه شتاينهاور المعرفة المعقولة good enough knowledge، حتى يستطيع النقاش، فبدلاً من أن يقرأ هذا المُتلقي كتاباً يحتوي على 200 صفحة، أو بدلاً من الرجوع إلى ما دَرَسه في سنّ الطفولة، سيشاهد فيديو لأحد المؤثِّرين وهو لا يعرف أجندة صاحب هذا الفيديو؛ فهل يدعم صاحب هذا الفيديو مثلاً مخططاً خارجياً؟ هل له غرض محدد من هذا الفيديو؟ هل يطرح فعلاً وجهة نظر حقيقية مبنية على بحث علمي؟ وتضيف: "في المجمل -وفقاً لشتاينهاور- معظم هؤلاء المؤثِّرين غير متخصصين وعدد كبير منهم يُدعّم أجندات الـforign agent، أي القادم من دول مُعادية، واستدلَّ شوبنهاور على ذلك بحملات الـcivil rights، في وقت حملة دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة والتي فاز فيها سنة 2016.
وتنبّه غنيم إلى أنَّ "المشكلة تتمثل في أنَّ المتلقي سيتلقّى المعلومة في هذه الحالة كمُسلَّمة لكونها صادرةً عن مؤثِّر مشهور برغم أنها معلومة غير صحيحة، ولكن المتلقي سيصدّقها وسيتبناها مُجبراً لافتقاده الأساسيات. فمثلاً في حالتنا المصرية، لو هذا الطالب غير المؤسس تاريخياً جاء له من يقول له سيناء من حقنا، فإنَّ هذا الطالب سيصدّقه ويتركه يحتلّ سيناء. فلو رجعنا إلى التاريخ سنجد أننا في مفاوضات السلام حتى نستردّ أرضنا اعتمدنا بشكل كبير على التاريخ المبنيّ على وثائق وخرائط تاريخية. لذلك قلت في بداية حديثي إنَّ تدريس التاريخ هو قضية أمن قومي".
العلوم الإنسانية تدخل في 95% من نشاط الوجود الإنساني
وحول تصريحات تامر أمين، يقول الدكتور خالد فهمي: "الحقيقة أنَّ اللغط الدائر على خلفية تصريحات عدد من الإعلاميين، آخرهم إلى الآن كان الإعلامي المصري تامر أمين، حول جدوى العلوم الإنسانية والذي تجاوز السؤال حول الجدوى إلى الهدم لأنه صرّح باستبعاد عدد ضخم جداً من الحقول المعرفية، متعللاً بما كان منه من أمر عدم احتياج سوق العمل إلى هذه العلوم، فالحقيقة أنَّ طرح سؤال مثل: هل نحن فعلاً بحاجة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية يدلّ على أزمة حقيقية، لأنَّ تاريخ العالم من لدن آدم عليه السلام إلى اليوم".
يقول الدكتور خالد فهمي: "الحقيقة أنَّ طرح سؤال مثل: هل نحن فعلاً بحاجة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية يدلّ على أزمة حقيقية، لأنَّ تاريخ العالم من لدن آدم عليه السلام إلى اليوم".
ويضيف: "إذا ما ركّزنا على الحقبة الأخيرة من دورات الحضارة الإنسانية، وهي المرحلة الأخيرة التي تتزعم فيها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي الهيمنة إلى حين صعود الصين، يمكنني أن أقرر أن أكثر من 95% من مَشْغَلَة الوجود الإنساني وإدارته هي العلوم الإنسانية وأنَّ الـ5% أو الـ10% على أكثر التقديرات تتعلق بالتطبيقات أو المنتجات التي ترتكز على خلفيات فلسفية ومعرفية، وسأضرب أمثلةً متعددةً كي أقرر بشكل عملي حول هذا. فنشأة الحضارة الأوروبية الحديثة أو النسخة الأخيرة من الحضارة الغربية، استدعت في عمود من أعمدة ثلاثة قامت عليها منجز عقل الجدّ الإغريقي الأول بحيث نستطيع أن نقرر أنَّ الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني والآداب اليونانية ومجمل عطاء الروح اليونانية كانت حاضرةً بقوة بشكل مؤسسي وتأسيسي في تأسيس الحضارة الغربية المعاصرة، والقول بأنَّ علوم اليونان العلوم التطبيقية الإمبريقية من الطب والهندسة والميكانيكا التي هي تطبيقات عملية الفارق بينها وبين المنجز العالمي الحديث لا يمكن قياسه".
العلوم الإنسانية والاجتماعية تدخل في صناعة السيارات
ويضرب فهمي مثالاً من عالم صناعة السيارات تتداخل فيه العلوم الإنسانية. يقول: "أنا أريد من أي أحد أن يأتي بعدد متنوع من السيارات؛ أن يأتي بسيارة من منتجات روسيا، وسيارة من منتجات أوروبا الباردة، ويأتي بسيارة من منتجات اليابان، ويأتي بسيارة من منتجات الولايات المتحدة الأمريكية. هذه كلها منتج واحد للحضارة استجابةً لسوق العمل كما يدّعي هذا الإعلامي. هذه السيارات الأربعة، وإن كانت في النهاية سيارات، إلا أنها تستبطن وتستدعي وتستحضر فلسفات وعلوماً إنسانيةً واجتماعيةً من الأساس. سنجد السيارة الأوروبية صُممت لتلائم طبيعة المناخ والجغرافيا الأوروبية، وستجد هناك محاولات لتدفئة القدمين عند القيادة، وهو ما يشكو منه من يشتري هذه السيارة في البيئات المصرية الحارة مثلاً، فهي سيارة مصممة لبيئة ومناخ وجغرافيا مختلفة عن البيئة المُسْتَورِدة، ويمكن أن تقول ذلك على السيارة الروسية".
ويقول: "إذا ما ذهبت إلى اليابان ونظرت في الفلسفة القائمة التي استدعت الأنثربولوجي، ستجد نمطاً من السيارات القزمة أو السيارات الصغيرة التي راعت طبيعة البنية البدنية الجسمانية للإنسان الياباني. وإذا ما ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ستجد أنَّ مشاعر العظمة والأبهة والفخامة المكانية انعكست على صناعة السيارات الأمريكية بنمط من الرفاهية أو نمط من الاتساع. فعلى الرغم من أننا أمام منتج واحد إلا أنه يستلهم عدداً من قيم العلوم الإنسانية الاجتماعية الأنثربولوجية المناخية الجغرافية، وتتجلى هذه الانعكاسات في تطبيقات صناعية في هذا المنتج وفي غيره".
القيمة الأعظم للعلوم الإنسانية مكافحة الجهل
يقول زين عبد الهادي، أستاذ علم المعلومات وتاريخ المعرفة بجامعة حلوان، لرصيف22: "في أحد تعريفات العلم أنه دراسة الظواهر المتكررة، وتكتنز رفوف المكتبات المصرية بعشرات الرسائل العلمية، لكن من استخدمها؟ هل هي مشكلة العالم الذي قام بكتابتها أو العلماء الذين أجازوها، وهل شرط أساسي تطبيق واستخدام نتائج هذه الرسائل والأطروحات العلمية والأبحاث والتطبيقات، أم أنَّ العلم يسعى إلى مجرد فهم الظواهر؟ هذه أمور مفهومة لكل من اتخذ من العلم طريقاً لحياته ووجوده، لكن العلم في جوهرة يعمل من أجل قيمة وحيدة تسبق أي قيمة أخرى وهي مكافحة الجهل، وقطع الطريق على الحماقات الإنسانية، ومنها نفي الأهمية عن العلوم الإنسانية".
ويواصل عبد الهادي تساؤلاته: "هل كان يمكن وضع برمجيات (سوفتوير)، من دون فهم اللغات والترجمة فهماً عميقاً؟ وهل كان يمكن تعليم السلوك للروبوت دون فهم هذا السلوك؟ وهل تقدمت سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا فجأةً دون أرضية من العلوم الإنسانية؟ وهل يُعزى تفوّق الولايات المتحدة إلى التكنولوجيا أم إلى التفوق في العلوم الإنسانية أولاً؟ إذا نظرت أمامك وسألت: لماذا لجأت أمريكا لألفين توفلر ليرسم خريطة المستقبل وهو متخصص في علم الاجتماع؟ ولماذا لجأت كندا إلى لوتار ليكتب عن تاريخ المعرفة وما بعد الحداثة وهو فيلسوف؟ ولماذا وضعت فرنسا الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في المقدمة؟ ولماذا كانت نوبل الأولى لنا كعرب في الأدب على يد نجيب محفوظ القادم من حقل الفلسفة؟ ولماذا يُعدّ طه حسين أستاذ اللغة والأدب والتاريخ أهم شخصية مصرية على الإطلاق في القرن العشرين، وهما من رواد العلوم الإنسانية؟ وكيف أنَّ أهم من كتب عن الشخصية المصرية كان أستاذاً في الجغرافيا هو جمال حمدان الخالد؟ إن الأمر لا يتعلق بالتفاخر، بل بمكافحة الجهل، وهذا الأمر ليس منوطاً بالعلوم التطبيقية كالطب أو الزراعة أو الهندسة فقط، بل إنَّ مكافحة الجهل هي أهم سمة بل هي القيمة الأعظم للعلوم الإنسانية".
العلوم الإنسانية حاضرة بقوة في حياة الناس العاديين
وحول حضور العلوم الاجتماعية في حياة الناس في مصر، يؤكد خالد فهمي على أنَّ "نظرة عموم الناس في مصر -بعيداً عن النُخب العلمانية ضيقة الأفق في قطاع من قطاعاتها- لهم نظرة عامة هي التي تكوّن وقود النهضة أو وقود الإصلاح المادي، وهنا أقصد نظرة العمال وعوام المصريين إلى العلوم الإنسانية، وهي نظرة إيجابية ونظرة فيها إجلال".
ويواصل: "يمكنك أن تصنع استطلاعات رأي حول دور الشيخ بوصفه تجلياً بالغ الوضوح للفكرة الإنسانية أو للعلم الإنساني، ويمكن أن تستطلع استطلاعات الرأي هذه مع القساوسة وآباء الكنيسة المصرية. يمكنك أن ترى هذا الإجلال للأسماء بالغة الحضور في الواقع المصري، والتي أثَّرت في ما يمكن أن نسمّيه بقطاعات الطبقة الوسطى المثقفة المتعلمة ويمكننا هنا أن نصنع قائمةً بأسماء بالغة الحضور والتأثير والقيمة والتعاطف على الأقل في القرن الأخير، بدءاً من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومصطفى كامل ومحمد فريد، على المستوى السياسي. وعلى المستوى الإبداعي الأدبي نجد طه حسين والعقاد ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. وعلى مستوى الفنون محمود مختار المَثَّال العظيم، وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ. من خلال نظرة الناس إذاً إلى هذه القمم -وهي ليست أسماء صانعين بالمعنى المادي- يمكنك أن تدرك مدى تأثيرها في واقعهم".
دراسة التاريخ مهمة للدولة أكثر من الناس الآن
يؤكد محمد عبد العاطي مدرّس التاريخ واللغة التركية العثمانية في جامعة سوهاج، لرصيف22، على أنّ "دراسة التاريخ في الوقت الحالي مهمة جداً للدولة أكثر من الناس؛ لأن قارئ التاريخ سيصبح مشبعاً بالأحداث التاريخية ولن يتأثر كثيراً بما هو حادث الآن، فعندما يرى الفقر والظلم والقتل سيكون أكثر ثباتاً لأنه قرأ من قبل عن ذلك في التاريخ، وعنده خلفية عن حوادث وقعت في الماضي أشنع وأبشع من حوادث اليوم، فمن قرأ تاريخ الجبرتي على سبيل المثال، لن يتأثر بغلاء اليوم مقارنةً بغلاء الماضي".
يوجه محمد عبد العاطي، هذه الرسالة إلى تامر أمين: "الصحافي بحاجة إلى التاريخ والفلسفة أكثر من غيره، لأنه يعرض وقائع صحافيةً أو حوادث حدثت منذ أيام فأصبحت تاريخاً".
ويوجه محمد عبد العاطي، هذه الرسالة إلى تامر أمين: "الصحافي بحاجة إلى التاريخ والفلسفة أكثر من غيره، لأنه يعرض وقائع صحافيةً أو حوادث حدثت منذ أيام فأصبحت تاريخاً، وعندما يعرضها يُدخل رأيه فيها ويعلق عليها فهذا الأمر هو الفلسفة. فالتاريخ ماذا حدث وكيف حدث؟ أما لماذا حدث فهذا هو فلسفة التاريخ أو تفسير التاريخ. وكذلك الجغرافيا مهمة لنا في معرفة حدود بلادنا، فكما هناك سماء، هناك أرض، ودراسة الجغرافيا مهمة للباحث في نقد الحوادث التاريخية، فقديماً استعمل المؤرخون في النقد التاريخي الجغرافيا. عندما ذكرت رواية بأن جيش تيمورلنك الذي حارب السلطان بايزيد الأول العثماني كان مكوناً من 500 ألف جندي، في موقعة أنقرة، رجّح المؤرخون استحالة حدوث ذلك لأن البقعة التي وقف عليها الجنود أي الجغرافيا المكانية لا تستوعب هذا العدد، فاستعملوا الجغرافيا في النقد التاريخي، فالعلوم الإنسانية مكمّلة لبعضها".
الوضع مزرٍ وعندنا نسّاخون، لا باحثون مبدعون
وبرغم طفرة الاصطناعي، والتي بسببها يظن البعض أن العلوم الإنسانية ليس لها مكان في عصرنا، وهؤلاء واهمون، إلا أن دراسة هذه العلوم في الحقيقة اليوم في الجامعات يجب أن تتواكب مع تطورات العصر، ويجب على أساتذة الجامعات أن يطوروا من مناهج هذه العلوم، ويغيّروا في طريقة تدريسهم لها، فيجب أن يكون عند أستاذ الجامعة قبل الطالب إيمان بقيمة هذه العلوم، وفقاً لما قاله محمد عبد العاطي.
وعن حال تدريس العلوم الإنسانية في مصر، تقول هالة غنيم: "إنَّ حال تدريس تلك العلوم مزرٍ وذلك لسببين: السبب الأول أن العمل على التاريخ والدراسات الإنسانية بدأ بمبدأ استنساخ ما كتبه الغرب وليس بالمجهود الشخصي إلا في استثناءات قليلة؛ فأصبح عندنا نسَّاخون لكل ما كُتب في الغرب، وهذا أيضاً له استثناءات لأنه ما زال عندنا باحثون حقيقيون، بغض النظر عما إذا كان الغرب منصفاً أم لا، أو هل عمله في التاريخ مبنيّ على علم باللغة والثقافة أم لا". وتضرب غنيم مثلاً على عدم دقة الغرب في دراسته لتاريخنا، باحثة من جامعة برمنغهام، كتبت مقالاً عن مصر في 2014.
تشرح غنيم: "تدَّعي هذه الباحثة علمها باللغة والتاريخ المصريين ولا تعلم أن الفترة التي كتبت عنها لم تكن فترة استعمار وتقول هذه الباحثة -وفقاً لهالة غنيم- إنَّ هناك في مصر حنيناً إلى فترة الاستعمار لأن القاهرة كان شكلها أجمل ولا تعلم أنَّ شكل القاهرة الذي تتحدث عنه كان في عهد الخديوي إسماعيل الذي كان ما قبل الاحتلال الإنكليزي لمصر؛ فصور القاهرة المنتشرة هذه كانت من القاهرة الخديوية قبيل الاحتلال الإنكليزي".
وتؤكد هالة غنيم على أنَّ حال دراسة وتدريس التاريخ يحتاج إلى إعادة نظر وإلى دعم وتقوية لأدوات البحث العلمي القائم على دراسة المصادر الأولية بدلاً من تبنّي وجهة نظر الغرب على طول الخط". وتتابع: "فدور التاريخ محوري جداً في حياة المصريين. نحن نتكلم عن دولة التاريخ وتالياً فجزء كبير من وجود المصريين هو هويتهم المبنية على التاريخ المصري الممتد".
هل لسنا بحاجة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية في مصر؟ وهذا يأخذنا إلى أسئلة أخرى: كيف هو حال دراسة تلك العلوم الآن؟ وكيف ينظر الناس إليها؟ وهل تلعب العلوم الإنسانية فعلاً دوراً في حياة الناس في مصر؟ وما هو مستقبل تلك العلوم؟
وفي السياق ذاته يقول خالد فهمي: "نحن في أزمة لا تتعلق بالعلوم الإنسانية، وإنما تتعلق بطريقة تقديم العلوم الإنسانية. نحن ما زلنا مُتَغَرَّبين وما زلنا نسقط في فخ التبعية الغربية، فمثلاً ليست لدينا لسانية عربية مسلمة، وليست لدينا نظرية اجتماعية عربية مُسْلِمة، وليست لدينا نظرية نقدية عربية، وليس لدينا علم نفس إسلامي. أقصد أنه في ظل تمايز الهويات لا نجد إلا في أندر الندرة من يحرص على أن يتناول هذه العلوم الإنسانية من واقع الهوية المصرية التي تطير بجناحين، جناح التوحيد مسلمين ومسيحيين، وجناح الإبداع أو القدرة على الخلق أو امتلاك العقل الإبداعي creative mind. فتأمُّل تحليل الهوية المصرية يكشف عن أنها هوية مسكونة بالتوحيد لفترات طويلة جداً في عمق التاريخ على الأقل من أول التاريخ المدوَّن من أول إخناتون أو إخنوخ أو إدريس عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا خط ممتد لم ينقطع مدده في الشخصية المصرية حتى أنَّ المصريين كانوا من القائلين بالطبيعة الناسوتية الكاملة للمسيح".
ويضيف: "تاريخ عصر الشهداء للكنيسة المصرية القبطية يشهد على هذا، وحتى بعد ذلك بعدما تغلَّب الرومان ظلت الفكرة التوحيدية المسيحية هي الأصل بدليل أنَّ الإسلام جاء فاتحاً وكان بنيامين رأس الكنيسة القبطية المصرية هارباً في أديرة الصحراء من عسف الرومان، وهو ما يعني أنَّ الاعتقاد المصري المسيحي في هذا التوقيت كان اعتقاداً أريسياً تابعاً لأريوس رأس الكنيسة الذي تُخُلِّص منه في 325م، بعد مؤتمر نيقيا وانتهاء الطبيعية الواحدة الناسوتية للمسيح. أقصد أنه حتى التوحيد بالإسلام في الأرض المصرية كان ناتجاً عن الفكرة التوحيدية التي كانت لا تزال مثمرةً في الأرض المصرية. الجناح الثاني هو جناح الإبداع والخلق أو القدرة على الابتكار، ومن ثمَّ أتصوّر أنه ما يُقدم الآن في العلوم الإنسانية متخلف غارق في التبعية وخادم للمركزية الأوروبية والأمريكية".
مستقبل يحتاج إلى نقد وأدوات
ويؤكد خالد فهمي أنَّ "مستقبل تلك العلوم مرهون بتقديم النظريات الغربية مدعومة بنقد يستند إلى الهوية المصرية التي قلت إنها مسلمة أو توحيدية خلَّاقة يربطها دائماً بالإنتاج في تكاملية ينبغي أن تكون واضحةً". وتقول هالة غنيم: "أتمنى أن يفيق المصريون قبل فوات الأوان، وأن تكون هناك إستراتيجية لحفظ وتدريس العلوم الإنسانية بما يضمن تطوير أدوات الباحث في المجالات كافة".
ويؤكد فهمي على أنَّ "إصلاح نسقية هذه العلوم هو السبيل الحقيقي لنهضة مصر الحضارية المادية إن كان الذي يسأل أو فهم من كلام هذا الإعلامي الضيق الأفق أن الأمر فقط متعلق بسوق العمل. مصر لها طبيعة خاصة جغرافية ولها طبيعة خاصة ديموغرافية سكانية ولها طبيعة خاصة مناخية ولها طبيعة خاصة في أخلاق الناس وعوائدهم، ومن ثمَّ كل ذلك ينبغي أن يكون حاصلاً وحاضراً بقوة عند أي تفكير في تحديث مصر مادياً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.