‑ "تخرج إلى السوق؟"
كان الطقس معتدلاً، والطريق مزدحمة بالعابرين. لا مجال لأن تحطّ على جبهتي النسمات كما حدث أمس، حين قادني الهواء الطري والحكايات المسحورة عن بنات الحي إلى أماكن غير مألوفة، غيّبتنا فيها الأحاديث إلى ما بعد شروق الشمس. تحدّث الرفاق عن فتياتهم، سردوا قصصاً لم أصدقها. آثرت السكوت والإذعان لنور الصباح، وتأمّلت انتشار الضوء من حولي بانتشاء. قرّرت ألا أستجيب لإلحاحهم. كيف أتحدث عنها وعلاقتي بها لم تتعدّ تخوم الابتسامات والنظرات الخائفة، ولم تتعدّ حدود الدهشة؟
‑ "أخرج"
انتعلت حذاء خفيفاً وسرت معها، كانت الوجوه كثيرة ومتشابهة. ثمة دفء بهيج يذيب الروح ويجعلها أكثر أُلفة وتألقاً، كأن كائناً ودوداً يتحرّك بين الناس، لا يقول شيئاً، لكن محبته تسري بين الكلمات وتبدو في العيون، تحرّر النفوس من تباريحها وتجعل الأحاديث ألوفة ورائعة.
مررت بجوار ضحكة عالية ذكرتني بجاري الذي فقد ابنه في مياه الإسكندرية، كان المارون يتندرون على صوت ضحكته. اختفى الرجل بعد أن غيّب البحر ابنه، بعد أن كانت تجلجل وتخرج القهقهات من أفواه الركاب في حافلات النقل العام التي يعمل محصلاً عليها.
تحدّث الرفاق عن فتياتهم، سردوا قصصاً لم أصدقها. قرّرت ألا أستجيب لإلحاحهم. كيف أتحدث عنها وعلاقتي بها لم تتعدّ تخوم الابتسامات والنظرات الخائفة، ولم تتعدّ حدود الدهشة؟... مجاز
الزحام يستر الأشياء المتراصّة على الجانبين، المحال، البضائع التي على الأرض، والأضواء الملونة المنبعثة من هنا وهناك. بيد أن فراغاً ضئيلاً يظهر من حين لآخر كان يتيح رؤية الأشياء: أقراط وخواتم تلمع في خزانة ذات غطاء زجاجي، بائعو الخضروات المتناثرون، أثواب القماش والستائر المزركشة. لم يعد من أثر لبائعي العرقسوس والتمر هندي والخروب. الأماكن تبدّل شاغلوها في النهار بآخرين، جلسوا خلف قطع السجاد الصغيرة والأكواب الزجاجية الفارغة والثياب.
تلكأت في سيري وأنا أنظر إلى المحال والمعروضات، أفكّر بالمكان الثابت في هذا الزخم المتبدل والرجل الذي قلّما يبرح مكانه. كم وددت أن أكون مثله، أقف خلف البناء المستدير، أحمل أداة مليئة بالثقوب وأسربل نصفي الأسفل بالخيش، أرشّ السائل فوق المعدن الملتهب وأرقب الخطوط البيض حتى تنضج، ثم ألمها ساخنة.
‑ "بص قدامك"
جذبتني من يدي ونبهتني إلى النظر للطريق. رضيت أول الأمر، ثم ما لبثت أن وجدتني أختلس النظرات نحو الحوانيت بجانبي، تأخذني حركة النساء بإشارات أياديهن وهن يساومن الباعة وتأخذني تعليقاتهن الساخرة. وقعت عيني على العم سيد، تذكرت ما قاله لخالي ذات يوم، بأن غربته هدنة مع الحياة، وعودته إلى بلدته البعيدة مسألة وقت.
أطلت النظر إليه: كان يمدّ أعواد القصب إلى ماكينة العصر، ثم يسحبها ببطء من الناحية الأخرى، يكرّر ذلك حتى تجفّ الأعواد من مائها. قال خالي: "الغربة ستهون مع الصبر"، ثم التفت إليّ بعد أن تناولت فخارية الماء من الدائرة الحديدية المعلقة بسور الشرفة، وسألني إن كنت أريد شيئاً، فانصرفت.
انحرفت جهة اليمين إلى شارع "القلايلي" وهي تجذبني، وجدتني أمرّ أمام سينما "الشرابية". كان يعلو واجهتها أفيش فيلم "دائرة الانتقام". لم أكن أتوقع أن مشاهدتي الأولى ستجذبني مرات ومرات. واصلت السير معها حتى رأيته من بعيد يرشرش آخر الماء أمام الباب، ويرتب أشياء فوق طاولة قديمة. حينما اقتربت رأيت أكياس نشادر، رائحة الكعك، أصابع خميرة، أدوات النقش، وزجاجات ضئيلة الحجم قالت إنها فانيللا.
حانوت العم إدوار صغير إلى حد ما، وذو أرضية متدثرة بطبقة شفافة من الطحين. اتجه نحو صندوق خشبي مستطيل، رفع غطاءه إلى أعلى، مدّ ذراعه داخله ونقل الطحين بعلبة بلاستيكية إلى الكيس القماش.
‑ "ميزانه حلال"
قالت أمي للمرأة التي تقف بجوارها. وفي البيت أعدّت العجين وجلسنا حول الطبلية، أخت تدير الماكينة وأخرى تستقبل البسكويت النيء، وتضعه برفق في الوعاء المستطيل. أشارك أخي الثرثرة والضحك على ما نسترجعه من مواقف، أو ما ننسجه بخفّة روحنا. تستاء وتطالبنا بأن نتوقف أو ننصرف. نتندر على أفعال ابن العمّة وعلى جسارته في مماطلة العم صالح في سداد ثمن الحشيش الذي اشتراه منه دون أن يسدّد ثمنه. "القصد": قال أخي وهو يغلظ صوته مثلما قالها ابن العمة للعم صالح لكي يقتصد في حديثه أو يكف عن سرد خلافه مع شركائه.
‑ "أسكت"
نبهتني مرة أخرى فحبست ضحكتي وجلست بعيداً. أخذني الخاطر إلى العام الماضي حين ابتاعت طبلية جديدة وكادت أختي تفقد أصابعها. دهنت الصواني بزيت بذرة القطن، وحملت أختي قطعة من العجين إلى الفوهة التي تشبه وجه البوق. ضغطت عليها بيدها، كنت أول الجالسين لإدارة اليد ذات المقبض الخشبي. مدّت يدها لتزج العجين العالق بالفوهة، تصوّرت أن يدها بأعلى المفرمة، فتابعت العمل بينما كانت أصابعها تغوص قرب العمود الحلزوني الممدّد أفقياً أسفل المفرمة، وحين لامس أناملها سارعت بسحب يدها.
أشارك أخي الثرثرة والضحك على ما نسترجعه من مواقف، أو ما ننسجه بخفّة روحنا. نتندّر على أفعال ابن العمّة، وعلى جسارته في مماطلة العم صالح في سداد ثمن الحشيش الذي اشتراه منه دون أن يسدّد ثمنه... مجاز
تراجعت أختي عن المواصلة، فتابعت أنا حتى غلبني النوم. جلس أخي وقد بدا نشيطاً ثم وهنت يداه بسرعة. في الليل سمعت صراخ الخالة أم سيد، لا بد أن شيئاً قد حدث. صعدت الدرج المتكسّر، وجدت الخالة تحترق حزناً ويمتزج بكاؤها بتمتمات.
"العصارة فرمت صوابعه": قالت وهي تبكي. كانت تهزّ كفها كأنها هي المصابة، وكلما هزت يدها ازداد بكاؤها. جلست أمي بجوارها تخفّف عنها وتستشهد بكلمات عن قبول البلاء والرضا بقدر الله. كان الصباح ينسج خيوطه الأولى والنوافذ من حولي مظلمة. سكن الشارع إلا من صوته، وقد دلف الحارة القصيرة. سمعته يتحدث عن عدم استجابته للمخدّر وعن الطبيب الذي انشغل بمداعبة الممرضة الحسناء، كان ينقل عينيه بين وجهها المثير وإصبعه المهروس. لم ينتبه إلى أن الخيط الطبي يلامس جرح عم سيد وهو ينظر بشبق في عينيها.
تركت الشرفة الباردة وبادرت أخبر الخالة، قامت إليه مسرعة وعانقته. سرتْ رهبة داخلي وشعرت بارتجافة في أطرافي حين سكنت أذني كلمات رفيقه، وكتمت الخالة صدمة البتر في نفسها.
بعد أن برز الصبح ورمت الشمس أشعتها الأولى، خرجت. كل الحوانيت موصدة، والنساء غبن عن الشارع الذي أصبح هادئاً، فارغاً من الباعة والمارة، إلا من صوت رجل يضحك بصوت مرتفع كأنه الجنون. كان يسير وحيداً. اقتربت أتابع الصوت حتى بوغتّ بصاحبه، وجدته جارنا الذي فقد ابنه في بحر إسكندرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.