شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أربعة رفاق في رحلة إلى إيران، ثلاثة فقط في الرحلة القادمة

أربعة رفاق في رحلة إلى إيران، ثلاثة فقط في الرحلة القادمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 10 أغسطس 202411:49 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز

"انطلقنا إلى إيران"... هذه هي العبارة الأفضل لأن أبتدئ بها كتابة خطابي العاطفي، كانت الفكرة مزحةً طفيفة ثم تحولت إلى جسد صغير تناوبنا على حمله أنا وأصدقائي.

الأصدقاء مثّلوا ثلاث تجارب، ثلاثة أرواح، ثلاثة أمزجة، أقلّتهم السيارة لثلاث ساعات حتى وصلت الحدود بين بلدين، يختلف الأمر، تختلف الشمس، يتنوع الهواء وتتبدل ذرات الغبار.

بعدئذ قطعنا طريقاً طويلاً بالسيارة مستمتعين بالانتباه للعشب، الأودية، الجبال، النساء الإيرانيات الملفتات، حتى جاز لنفسي استذكار المتنبي وهو يجول ببصره في شيراز، متيحاً لفرسه التعبير عما في نفسه حيث يقول فرس المتنبي: "يقول بشعب بوّانٍ حصاني، أعن هذا يسار إلى الطعان؟"

يفضحُ حصان المتنبي النوايا البشرية التي تهمل هذا الجمال اللا نهائي من أجل مصائر و أفكار و رؤى ضيقة بكل الأحوال .

"سلام خوبي" هذه الكلمة التي ستسمعها طويلاً كما تسمع "شكو ماكو" العراقية وإذ عاش الشعبان حرباً دفعا إليها دفعاً، فإن السلام حافظَ على مكانته المركزية في اللغتين.

الوصايا التي لم يكتبها قاسم الأهوازي

بلهجة عربية مشابهة للهجة أهل البصرة يبدأ قاسم بإصدار تعليماته مدعومة بخبرته التي تعدت الـ 8 سنوات تجوالاً في شوارع إيران. قاسم من الأهواز لكنه يقيم في قم، ولديه قصة حب أليمة سردها لنا مع قليل من المبالغة، ثم بدا متأثراً بقصته التي تشبه إحدى قصص إدغار آلان بو.

كانت قصته لافتة كما لو أنه ألّفها بنفسه.

لا تقل إنك عراقي بالطريقة التي توحي للآخرين أنك سومري. قلها بالطريقة التي تتحدث بها مع أحد جيرانك، أي شعب لا يمكنه أن يغفل عن حاضره من أجل ماضيك الشخصي... مجاز

يحب قاسم الشعر الشعبي العراقي وقد ألحَ علي أن أقرأ له قصيدة متوهماً أن قصائد النثر لن تشبع ذائقته. حين قرأت له نصين صغيرين، عرفتُ أنه لم يحبهما واستطعتُ أن أخمّن أنه اعتبرها كتابة باردة وإن لم يقل ذلك.

وعبر الفهم نفسه، فيمكن أن تكون تلك هي الوصايا التي لم يستطع قاسم تأليفها غير أنها ملائمة لمزاجه الشخصي.

البداية:

إذا لم تكن ناجحاً

فابتكر طريقة مناسبة لتفشل بها.

***

لا تتح للمرأة أن تعرف أنك من بلد ثان، واصل النظر لها ببديهية ودون تعقيد، إذا انتبهت لك حاول أن تغمض عينيك، لا علاج لخيبة الأمل سوى أنك لم تولد لترى!

***

لا تقل إنك عراقي بالطريقة التي توحي للآخرين أنك سومري. قلها بالطريقة التي تتحدث بها مع أحد جيرانك، أي شعب لا يمكنه أن يغفل عن حاضره من أجل ماضيك الشخصي.

***

لا تحاول إصلاح ضميرك بخدعة، إنك هنا مثل من يحاول إضاءة الغرفة بشموس مرسومة على الورق.

***

النساء الإيرانيات جميلات، لكن إدراك ذلك لا يتوقف على النظر لهن فحسب، يمكنك سماع الأغاني الفارسية كأنك تفهم شيئاً منها.

***

لا تكن قلقاً حتى عندما تظن أن جميع سائقي السيارات نصابون، إذ لن يكون لديهم الوقت الكافي لابتزاز الجميع.

***

تخلّ عن انطباعك القومي العريق، انس أن بيننا حرباً ودماً، دع شلالات رامسر تنتصر على الموت وتزيل الأثر.

***

النهاية:

لا تطلب شاياً عراقياً في أي مكان تذهب إليه. هذا الشاي موجود في أدمغة العراقيين فحسب.

النساء الإيرانيات جميلات، لكن إدراك ذلك لا يتوقف على النظر لهن فحسب، يمكنك سماع الأغاني الفارسية كأنك تفهم شيئاً منها... مجاز

حيدر وباسم، رفيقان في الدومينو وغريمان في أشياء أخرى

رافقنا قاسم الأهوازي الذي في السفرة دون أن ينسى تحذيرنا دوماً من أن يتم خداعنا، يشعرنا، وهو ذو الأصل البصري، بأننا في أمان، حيث لا يمكنك أن تشعر بالأمان ما دمت فاقداً للغة، هذا ما يعجز قاسم عن قوله.

إضافة لقاسم كان معي ثلاثة رفاق من خارج الوسط الأدبي المصاب بلوثة النرجسية و ادعاء السمو الزائف. لنبدأ بأكبرهم سناً، إنه حيدر، المولود قبل الحرب الإيرانية العراقية بخمس سنوات، ولعله يتذكّر شيئاً من فظاعتها فالذاكرة تبدأ بالترسّخ من الطفولة.

يبدو حيدر ذا طبيعة غير ملوثة تماماً، إذ تتفق ملامحه الريفية مع ما يفكر به. ينحدر من قبيلة كبيرة، ويحاول تقديم نفسه كولدٍ بار لهذه المؤسسة العتيدة، لكن ذلك لا يعفينا من القول بأنه يحب النساء ويشعر بالانبهار قبالة الفتيات الإيرانيات، مع توابل من تأنيب الضمير بالطبع.

شخص لطيف وودود، ولديه قدرة على النوم في السيارة، حين تعتم الطرق ويشعر بالتعب، يطلق دوي شخيره محافظاً في الوقت نفسه على هيئة متزنة وأناقة لا يستهان بها.

ثمة سعادات تقوم الكتابة بتشويهها، وثمة حزن يحوّله الأدب إلى نكتة

في حضرة الإمام علي بن موسى الرضا، فتح حيدر كاميرا موبايله، وأشعر أهله بأنهم موجودون هنا يزورون معه. كانت لحظة فارقة تنم عن حاجة الإنسان للجماعة حتى حين يقف مع نفسه تجاه حاجته الميتافيزيقية.

ليس حيدر صديقاً قديماً، لكن يمكنك أن تثق به كما لو أنك تعرفه منذ سنوات طويلة، النبل البشري جواز سفر أبدي الصلاحية.

تخرج حيدر في معهد الإدارة، وأحب رفيقته التي نالت درجات عليا لتعيّنَ معيدة وتكون أستاذته بعد أن رسبَ هو. قصة فيها جانب من سخرية الحب وتلاعبه بالأدوار، إذ يدفع المرأة للنجاح والرجل للبقاء حزيناً في مقعده الخلفي.

كان حيدر على الدوام متقداً بقصة حبه هذه، ولعل زواجه ونزواته الضئيلة لم تكن إلا انتقاماً من تلك القصة العنيدة أو انتصاراً عليها فقط.

الحقيقة أحيانا تبدو ملموسة في معرفة شخص ما لكن الشخص نفسه يكشف لك عن سمة ثانية لم تكن جلية، وهذا ما يلحّ علي قوله عند الحديث عن باسم، الرجل الثالث في السفرة، إذ يتأجل الحديث عن سومار الآن.

يحمل باسم شهادة القانون ويتصرف بصرامة و رسمية محاولاً أن يرسخ له شخصية منظمة ومتزنة، لكن ما إن نطأ مدينة رامسر حتى تنكشف خيوط رفيعة من شخص مرح وموهوب في ابتكار ضحكة شريرة مع ابتسامة لا يخفى نقاؤها.

باسم شيء لا يمكن العثور عليه بسهولة في عالم اليوم. رجل نبيل ومتفتح الذهن ولا تنقصه سوى بضعة أمتار ليبدو علمانياً من الطراز الرفيع، أي من هؤلاء الذين يطالبون بانطلاق البشر نحو الحياة بعيداً عن القيود الدينية المظلمة.

عرفت باسم منذ 12 عاماً، وترافقنا لأوقات طويلة، وقد عكرت علاقتنا لحظات من سوء الفهم، إلا أننا سرعان ما عدنا للصفاء والفهم المعهود. ثمة تآخ روحي فيما بيننا وتقارب فكري، رغم اختلاف المشارب وتنوع التجارب وغموض المفاهيم.

ولد باسم بعد حرب إيران بثلاث سنوات، إلا أنه لا يحتفظ بأي شيء من هذه الحرب، وبما أن لكل عراقي قصة أليمة، فللرجل أكثر من حكاية قد يرويها بنفسه ذات يوم.

ينحدر باسم من قبيلة يناصرُ جلُّ أفرادها الزعيم الشيعي الذائع الصيت مقتدى الصدر، غير أن باسم يخالفهم الهوى، متخذاً لنفسه طريقاً مسالماً وبعيداً عن المزاج السياسي والديني المتقلب. "ليس من الضروري أن تأكل سكر لكن من الواجب ألا تكون نملة": لعل هذا هو الشعار الذي يشقُ باسم عبره طريقه الطويل في هذا العالم.

لا تطلب شاياً عراقياً في أي مكان تذهب إليه. هذا الشاي موجود في أدمغة العراقيين فحسب... مجاز

سومار، عاطفةُ الرجل تسبق ظله

سومار هو بطل الرحلة، ومن دونه لا يمكن تخيل أنها ستكون شاخصة بهذا القدر من المرح في مخيالنا الشخصي جميعاً. من الصعب ألا تحب سومار أو لا يلفتك حضوره، ومن الصعب كذلك ألا تغفر له خطاياه وتأخره بالردّ على الاتصالات، فما إن يحضر الرجل، حتى يزيل بمرحه ودعابته الخارقة كل الأفكار التي يحلو لك أن تؤلفها عنه.

لاسم سومار حكاية، لوجوده حكاية ولزواجه حكاية أيضاً، فالرجل مليء بالحكايات، وأحياناً قادر على صنعها من العدم.

ذهب صالح إلى الحرب، وكان من بين الذين سمعوا بمدينة إيرانية تحمل اسم سومار، فاختار لابنه هذا الاسم لسهولة استعادة الذكرى ولطرافتها، وثمة صاروخ إيراني يحمل الاسم نفسه، ومن هذه المصادفة الفطرية صنع سومار بنفسه مزاجاً كوميدياً لا يشق له غبار، يمكنه أن يبتدع النكتة من أي موقف وفي أي ظرف، وإن كنت أحاول رسم شخصيته فهو هيكل من ثلاثة أضلاع: الدعابة والكرم والعاطفة المفرطة.

أشك أن سومار وقع في الحب ببساطة كما تقع بناية قديمة، فجأة ودون سابق إصرار، يعيش قصة حب أليمة ولا هدف لها، لكن ذلك لا يمنعه من الاستمرار فغاية الحب ألا يتحقق الهدف.

لسومار ملامح سومرية، وجه طويل وممتلئ وشفتان مميزتان وبشرة سمراء توحي بأن الرجل عاش بروليتارياً، وبالفعل فقد كان رجل عائلته بعد أن لقي أبوه حتفه حال خروجه من أحد سجون البعث.

إن كنا نتحدث عن سومار فإن الحب يسيطر على حياته، يتلف جسده ويضيء قلبه أو يشعل فيه لفافة تبغ. قصة حبه حكاية شهيرة و عصية على النسيان، ولو أتيح له أن يكون شاعراً لرأينا عدداً ضخماً من القصائد التي تتغزّل بمدينة بابل، بحضارتها وشوارعها وعيون فتياتها، فالحب يوحي لمريديه بأن المدن لا شيء دون أن تعشق فيها أحداً.

في الرحلة، لم يكن سومار غريباً عن البلد، فقد زار إيران لعشرات المرات بسبب علاج ولده ذي العمى الولادي، وهو يكاد يعرف كل شيء هناك، وبدا ذلك جلياً من تجواله، إذ قطعنا طرقاً كثيرة والرجل منهمك باتصالات العمل والحب، كما لو أنه أحبها اليوم، الحب يبدأ اليوم ولا يهرم غداً أو بعد غد.

الرحلة كانت فيها أشياء أخرى ساذجة لدرجة إنها لا تغني الموضوع الأدبي أو لعلها أهم من الأدب برمته، فثمة سعادات تقوم الكتابة بتشويهها وثمة حزن يحوله الأدب إلى نكتة.

و هذه هي النكتة الأخيرة: ذات مرّة، ذهب أربعة رفاق إلى إيران، استمتعوا ولعبوا وأزاحوا الخطاب الرسمي فيما بينهم، لكن أحدهم لن يذهب في الرحلة القادمة.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard