شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ذات غروب دافئ جلس عبد الحميد في شرفة منزله… ماذا قالت شرفات قناة السويس؟

ذات غروب دافئ جلس عبد الحميد في شرفة منزله… ماذا قالت شرفات قناة السويس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 4 سبتمبر 202401:04 م

يهوى محمد حزين، ممارسة لعبة "البازل" تخييلياً في جولاته مع أصدقائه خلال زيارتهم لمدينة الإسماعيلية، حيث يطلب منهم تخيّل أن هذا المبني السكني ذا الأدوار العشرة، غير موجود ويقع مكانه منزل بارتفاع طابقين أو ثلاثة على الأكثر، بنوافذ خشبية وشرفات دائرية واسعة، مثلما كانت قبل خمسة عشر عاماً على الأقل قبل هدمه، أو حتى مئة وخمسين عاماً وقت بنائها.

يعمل حزين كعامل بحري في هيئة قناة السويس في مدينة الإسماعيلية، لكنه مهتم بتوثيق التراث المعماري للمدينة، كما أنه عضو في فريق مشروع "سيرة مصر" الذي عمل سابقاً على توثيق المباني ذات الطراز المعماري النادر في مدينة القاهرة، بحسب وصفه.

من الفيلات الفريدة القليلة المتبقية بالإسماعيلية

إذا زرتم يوماً واحدةً من المدن المطلّة على قناة السويس، وتجولتم في شوارعها القديمة، فلن تتوقفوا عن الانبهار بروعة تصاميمها المعمارية وفرادتها، فمن أكثر ما يميز تلك العمارة كثرة استخدام الأخشاب، إلى جانب هذا العدد الكبير من المباني المكونة من ثلاثة أو أربعة طوابق، والتي يرجع تاريخ بناء معظمها إلى مطلع القرن الماضي، بحسب وصف كلودين بياتون، المهندسة المعمارية الفرنسية المتخصصة في التراث المعماري، والتي تهتم بشكل خاص بالعمارة الأوروبية فى دول حوض البحر الأبيض المتوسط. عملت بياتون منذ عام 2004، على مشروع بحثي عن عمارة مدن قناة السويس، صدر في ثلاثة كتب تحت عنوان "عمارة القرن التاسع عشر والقرن العشرين"، تباعاً عن المركز الفرنسي في القاهرة، ويتناول مدن الإسماعيلية وبورسعيد والسويس.

إذا زرتم يوماً واحدةً من المدن المطلّة على قناة السويس، وتجولتم في شوارعها القديمة، فلن تتوقفوا عن الانبهار بروعة تصاميمها المعمارية وفرادتها، فمن أكثر ما يميز تلك العمارة كثرة استخدام الأخشاب

تميز كلودين الطراز المعماري لفترة نشأة مدن قناة السويس، بوجود صالات الاستقبال الواسعة والشرفات (الفرندات) الخشبية الطويلة، وتتفرد بور سعيد بهذا الطراز المعماري المميز في حيّين (الشرق والغرب)، إذ لن ترى له مثيلاً في أي مدينة مصرية أخرى سوى في الحي الإفرنجي وبعض من شوارع منطقة المحطة الجديدة، كأحد مناطق الحي المخصص للعرب مع نشأة مدينة الإسماعيلية، وحي بور توفيق في السويس في مزيج قد لا يجتمع في أي مدينة أخرى حول العالم، بحسب وصف كلودين باتون، في كتبها الثلاثة "عمارة القرن التاسع عشر: بورسعيد-الإسماعيلية-السويس".

تفصيلة من شرفة خشبية بالحي العربي بالإسماعيلية

يقول حزين لرصيف22: "منذ عام 2011، فقدنا مباني كثيرةً في الإسماعيلية، حيث بدأ التوسع في بناء العمارات السكنية العالية على حساب مبانٍ قديمة أغلبها كان بطراز معماري مميز كان يسكنها الأجانب الفرنسيون واليونانيون وأيضاً مصريون من وقت حفر قناة السويس".

ويضيف: "أعمل على مشروع توثيقي في الأحياء القديمة في مدينة الإسماعيلية، وأشكّل مع أصدقاء ما يشبه جماعات الضغط في محاولة للحفاظ على الطراز المعماري. لا نستطيع في أغلب الأحيان الحفاظ على المنازل التي يرغب أصحابها في هدمها، ولكن نركز جهودنا على دفع الجهات المعنية إلى عدم تغيير شكل المباني القديمة، أو الانتباه عند إعادة رصف الشوارع القديمة، ونوصي بالحفاظ على شكلها".

شرفة منزل بالحي العربي بمدينة الإسماعيلية

ويقول: "نجحنا من قبل في تغيير سريع في خطة رصف وإعادة إنشاء رصيف للمشاة، والحفاظ على أعمدة قواعد الفرندات في منازل خشبية في منطقة المحطة الجديدة في الحي العربي القديم للإسماعيلية. وقد أعيدت في الحيّ خطة الرصف بما يتماشى مع الحفاظ على قواعد الأعمدة".

بحسب حزين، توسعت أعمال الهدم لمبانٍ يزيد عمرها عن 100 عام، خلال عامي 2010 و2012، ولكن نوبات الهدم بدأت فعلياً منذ عام 1997، بدعوى قضائية رُفعت في محافظة الإسكندرية يختصم أصحابها فيها قرار مجلس الوزراء لعام 1996 بحظر هدم الفيلات والمباني الأثرية، وقد حكمت المحكمة الدستورية في عام 2006، بعدم دستورية هدم الفيلات في جميع محافظات مصر.

نشأة مدن الإسماعيلية وبور سعيد

وجود جاليات فرنسية وفدت للعمل في قناة السويس، قسّم المدينة إلى حيّين أساسيين: "حيّ الإفرنج ويسكنه الأجانب من الفرنسيين والطليان واليونانيين، والحي العربي ويسكنه المصريون والفئات الأقلّ دخلاً من اليونانيين".

في عام 2011، اعتمد الدكتور عصام شرف، رئيس مجلس الوزراء وقتها، قوائم حصر 505 من المباني والمنشآت التراثية في مدينة بور سعيد، طبقاً للقانون رقم 144 لسنة 2006، بطلب من محافظ بور سعيد، لتسجيل المباني في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، إلا أن المباني المسجلة تمكن عدد من أصحابها من هدمها بدعوى قضائية لسحب تخصيصها كطراز معماري نادر، بينما سُجّلت مدينة الإسماعيلية في قوائم حصر المباني التراثية ضمن لجنة حصر القصور والفيلات التاريخية، بالقرار رقم 845 لسنة 1998، واكتفى تقرير اللجنة بحصر مساكن وفيلات مسجلة كمبانٍ ذات طراز معماري نادر تعود ملكيتها لهيئة قناة السويس، بُنيت مع نشأة المدينة، للموظفين الفرنسيين في القناة.

مبني مهدم جزئيا بشارع البلدية بالإسماعيلية سجل مؤخرا ضمن مباني الطراز المعماري المميز

حالياً تفقد مدينة بور سعيد معلماً من معالمها حيث يبدأ مالك عمارة قديمة خُصّصت سابقاً للمركز الثقافي اليوناني، الذي ظل لسنوات كمركز ونادٍ اجتماعي لليونانيين في بور سعيد ويقف نموذجاً لطراز البناء اليوناني في المدينة بالشرفات المستديرة الصغيرة، وبواكي إسمنتية تحمل الشرفات ومنحوتات لوجوه على الواجهة بحسب دراسة كتاب "عمارة بورسعيد" لكلوين بياتون، إنها إما مقتبسة من الأدب التراثي اليوناني، أو هي تجسيد لوجوه أبناء المالك الأول للبيت. 

وخلال الأعوام الأخيرة، هُدم في بور سعيد مبنى القنصلية الأمريكية سابقاً، بعدما صدر قرار برفعه من قوائم سجلات المباني ذات الطراز المعماري المتميز في مدينة بور سعيد.

مبني يوناني بالإسماعيلية هدمت أجزاء من شرفاته و نزعت الشبابيك رغم تسجيله كطراز معماري متميز.JPG

يمثّل البيت اليوناني في بور سعيد منطقةً سكنيةً تحيط بميدان مصطفي كامل في الإسماعيلية، وقد هُدم أكثر من نصفها لبناء أبراج سكنية بطوابق متعددة، وما زالت منها منازل تحتفظ بشكل بنائها القديم. أحد هذه المنازل ما زال يحتفظ بلوحة رخامية كُتبت باللغة اليونانية: "عقار يعقوب باستا، ومنح بالوراثة إلى الجالية اليونانية تحت رئاسة يورغوس ذاسكالاكي عام 1949"، بحسب الترجمة الحرفية للّوحة.

بيت خشبيّ يسقط بالهدم

ذات غروب في يوم شتوي دافئ، جلس عبد الحميد في شرفة منزله يراقب عمّال هدم يعملون بهدوء في فك أخشاب من سقف وأرضيات منزل جيرانه في حي المحطة الجديدة في مدينة الإسماعيلية، فيما ترك كوب شاي ليبرد وهو يراجع ذكريات المنزل الذي شهد سنوات صباه وشبابه مع الجيران من سكّانه.

شرفة بيت المساجيري - السويس

عكف العمال على فك أعمدة خشبية عريضة من منزل بُني قبل أكثر من 100 عام، في المنطقة التي كانت تُعرف بالحيّ العربي منذ نشأة مدينة الإسماعيلية مع بداية حفر قناة السويس. يحكي عبد الحميد مشهد فك الأخشاب: "كأن العمال يعرفون قيمة ما يعملون به، حيث احتفظت الأخشاب بشكلها وقوّتها، ووقف المقاول كمشرف على عمل فنّي وليس على عملية هدم. شعرت بأني والمدينة كلها فقدنا جزءاً من روحنا مع البيت المتهدم".

يضيف عبد الحميد: "لا ألوم أصحاب المنزل الجدد على قرار الهدم. بالتأكيد سعر بيع الشقق الجديدة في موقع مثل هذا مغرٍ، مع ارتفاع أسعار الأراضي، ولكن ذكرياتنا تزداد قيمةً مع المباني القديمة".

أرض فضاء كان عليها منزل هدم بعد 100 عام من بناءه وفي عمق الصورة بناية خشبية . وحولها بنايات خرسانية بنيت بطوب أحمر

يلفت عبد الحميد إلى شعار أثير لمواطني المدينة كُتب على لافتات تستقبل الزائرين: "ابتسم أنت في الإسماعيلية"، كما يفضّل وصفها الجمالي بأنها "باريس الصغرى"، ويقول: "المدينة ما زالت جميلةً، ولكن مع أعداد الأبراج الطويلة لم تعد الإسماعيلية التي نعرفها، كما أن باريس الصغرى وصف يطلَق على حيّ سكنه الفرنسيون فقط، ويمثل الآن 20% تقريباً من مساحة المدينة، ويسكنه فقط موظفو الدرجات العليا في هيئة قناة السويس".

الأساس الخشبي الذي هُدم أمام أعين عبد الحميد، تصفه كلودين في كتبها عن شكل شرفات المنازل في بور سعيد والإسماعيلية بأنه "الملمح الرئيسي لهذا الطراز الذي كان يُعرف بطراز العمارة الاستوائية، نظراً إلى تصميمه خصيصاً ليلائم الأجواء الحارة، فيعتمد على إحاطة المبنى بالفرندات الخشبية لحماية واجهته من أشعة الشمس المباشرة".

انتشر هذا الطراز المعماري بكثافة في مطلع القرن التاسع عشر في كافة المستعمرات الأوروبية حول العالم (خاصةً المستعمرات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية)، كما انتشر أيضاً واكتسب شعبيةً كبرى في المنتجعات الفرنسية.

ما زالت الشرفات الخشبية تمثّل تراثاً ثقافياً في مدن قناة السويس، ومزاراً سياحياً لزوّار المدن، خاصةً في شارع الجمهورية في بور سعيد ومنطقة حي النخيل في الإسماعيلية

ففي عام 1856، أعلنت شركة قناة السويس عن مناقصة لبناء وتجهيز مساكن لعمال وموظفي الشركة على طول القناة المزمع حفرها في المنطقة، وفاز بالمشروع العرض الذي تقدّمت به شركة فيكتور فريري (في فيكامب نورماندي)، وهي شركة تخصصت واشتهرت بالإنشاءات الخشبية. وشُيّدت المنازل على طراز أقرب إلى منازل الريف الفرنسي، كي لا يشعر الموظفون بالغربة بعيداً عن فرنسا، وقامت الشركة بتوريد معظم التجهيزات إلى موقع العمل على طول القناة، وعمدت إلى تشييد بنايات أكثر فخامةً لكبار الموظفين، حيث قامت مثلاً بتشييد خمسة شاليهات على شاطىء بور سعيد لمديري شركة قناة السويس، ولم يتبقَّ من تلك الحقبة سوى الشاليه الخاص بفرديناند دليسبس، صاحب امتياز حفر قناة السويس، والموجود في مدينة الإسماعيلية وتحوّل حالياً إلى فندق سياحي باتفاقية بين هيئة قناة السويس وشركة "مكسيم".

فندق أكري .. أحد المباني اليونانية بشارع الجمهورية ببورسعيد

جذب نجاح مشروع قناة السويس منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، إلى بور سعيد، عدداً من التجار والمقاولين من اليونان وإيطاليا ومالطا ومن بعض المقاطعات في الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية؛ فاشتروا، بغرض الاستثمار، قطع أراضٍ مملوكة للدولة المصرية ولشركة قناة السويس، وأخذوا فى تشييد المباني عليها بغرض تأجيرها كمساكن ومكاتب إدارية لشركات تعمل في التجارة والشحن، ومزجوا في الإنشاءات بين البناء التقليدي والخشبي؛ فأقاموا فرندات خشبيةً في الواجهات على امتداد المبنى التقليدي كله.

بناء المنازل والشرفات بالأخشاب انتشر في الإسماعيلية وبور سعيد منذ حفر قناة السويس حتى عشرينيات القرن الماضي، في الشوارع التي لا يقلّ عرضها عن 15 متراً. وفي عام 1921، حظرت بلدية بور سعيد تشييد الشرفات الخشبية، وطُبّق الحظر نفسه في الإسماعيلية، ليبدأ بعدها انتشار بناء المنازل الخرسانية بطراز تنوّع بين اليوناني والإيطالي القوطي.

دي لسبس بمدينة الإسماعيلية تحولت حاليا لفندق سياحي

ما زالت الفرندات والشرفات الخشبية تمثّل تراثاً ثقافياً في مدن قناة السويس، ومزاراً سياحياً لزوّار المدن، خاصةً في شارع الجمهورية في بور سعيد ومنطقة حي النخيل في الإسماعيلية.

وتحاول مبادرات أهلية، مثل مبادرات جمعية بور سعيد التاريخية، ومبادرات شخصية في الإسماعيلية، أن تساهم في الحفاظ على المباني الفريدة المتبقية، والتي هُدم جزء كبير منها في الأعوام الماضية، فجهود المهتمين بتراث القناة دفعت الجهات الحكومية لتسجيل أكثر من 500 مبنى في بورسعيد، وأقلّ من 100 في الإسماعيلية، وعدد أقل في مدينة السويس، وإعادة ترميم بيت المساجيري الذي أدار حركة البريد في البحر الأحمر.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image