تمثل الحياة العسكرية وعالم الحرب واحد من الفضاءات الأساسية التي ازدهرت فيها الكتابة عن الذات، وفن اليوميات تحديداً، وقد خلّفت لنا الصراعات المسلحة الكثير من الدفاتر التي كان أصحابها شهوداً على تلك التجارب، وكانت وثائق أساسية للمؤرخين وعلماء الاجتماع لتحليل المجتمع، وطرق تفكيره، وظروف الصراعات وعوالمها. وصار بعضها الخطاب المضاد للرواية الرسمية التي يكتبها الساسة أو بأمر منهم؛ مؤرخين أو إعلاميين.
تعتبر مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس لأحمد حجي، الذي استشهد في جبهة القناة عام 1972، أول يوميات جندي عربي نظامي في الحرب، وتكتسب هذه اليوميات أهمية بالغة من داخلها بصفتها يوميات، أي انطلاقاً من وعي الكاتب بأجناسية الكتابة رغم تكوينه العلمي، ومن قيمة المادة التي قدمتها، إن كان ذلك على الصعيد الوثائقي التاريخي لحرب الاستنزاف، أو الجانب الإنساني للجندي المصري، أو مستوى الوعي في المعركة، إلى جانب القيمة الأدبية للعمل الذي يدخله ضمن يوميات الأدباء.
بدأ أحمد حجي تسجيل يومياته من يوم الأربعاء 2 نيسان/أبريل 1969، وأنهاها يوم الأحد 16 آب/أغسطس 1970. وتعبر هذه الفترة أحلك فترة سياسية ونفسية مر بها العرب بعد هزيمة 1967، أو ما يسمونها بنكسة 1967، والتي تسميها إسرائيل بـ"حرب الأيام الستة" وهي الهزيمة التي تكبدتها الجيوش العربية في مواجهة القوات الإسرائيلية. وكانت تمثل الجهة العربية كل من العراق ومصر وسوريا والأردن وآلاف المتطوعين العرب.
أول يوميات لجندي عربي نظامي في الحرب... "مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس" لأحمد حجي، الذي استشهد في جبهة القناة عام 1972
ودارت الحرب بين 5 و10 حزيران/يونيو 1967، وكانت نهايتها وخيمة على الدول العربية، فأدت إلى احتلال كل من سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، إلى جانب خسائر بشرية كبيرة وصلت إلى خمس وعشرين ألف جندي، وتدمير فظيع للعداد الحربي للعرب المشاركين في الحرب، وخاصة الطيران المصري، وأدى ذلك إلى تغير كامل في خارطة الشرق الأوسط عبر حملات التهجير والاستيطان.
يتحدث بعض المؤرخين عن حرب بالوكالة عبر الحلفاء جرت في هذه الحرب، كان طرفاها الاتحاد السوفياتي الداعم للعرب وأمريكا الداعمة لإسرائيل. وانجر عن تلك الهزيمة حملات هجرة وتهجير لليهود العرب نحو إسرائيل وأوروبا وأمريكا، كما انجر عن هذه الحرب سقوط العرب في مشاعر سوداوية من اليأس والخيبة والهزيمة والشك في كفاءة القيادات العسكرية وإخلاصها، بسبب فقدان العائلات لأبنائها في حرب غير متكافئة، دُفعوا إليها دفعاً عبر إعلام حربي غير صادق، كان ينقل لهم أخباراً عن انتصارات وهمية.
قدّم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قبل انتهاء الحرب بثلاثة أيام، استقالته التي كلّف محمد حسنين هيكل بكتابتها والتي يقول فيها: "إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحّى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر". وأمام دهاء محمد حسنين هيكل وأسلوبه الذكي الذي امتصّ غضب الجماهير من القائد، خرج الشعب المصري ينادي ببقاء الرئيس في منصبه، إثر سماعه خطاب الزعيم الذي بثته الإذاعة المصرية مساء 9 حزيران/يونيو1967، لتتواصل الحرب تحت مسمى آخر "حرب الاستنزاف"، وهي عملية عسكرية كان يشنها الجيش المصري بغية استرجاع الأراضي التي احتلتها إسرائيل، وإعادة الثقة للجندي المصري وإعادة بناء الجيش، وكانت الاشتباكات تجري حول قناة السويس. كان ذلك بين آذار/مارس 1968 وآب/أغسطس 1970، وهي الفترة التي غطتها يوميات أحمد حجي.
بعد أسابيع قليلة، وتحديداً يوم 28 أيلول/سبتمبر 1970، يموت عبد الناصر ويبدأ عصر سياسي جديد مع الرئيس أنور السادات، الذي كان عبد الناصر قد عينه نائباً له في كانون الأول/ديسمبر 1969.
وعي الكتابة بجنسها
يصدّر الكاتب يومياته ببيان بتاريخ 5 نيسان/أبريل 1969، يذكر فيه قراره تسجيل يومياته بالجبهة، وهو ما يعني أن اليوميات كتبت مع سبق إضمار، وتصديرها بهذا البيان يعكس وعياً من الكاتب بعوالم هذا الجنس من الكتابة.
"أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحاً، لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز الحركة. وبذلك تكون هذه المذكرات هي حديث الرصاص الذي يجب أن تتكلم به قضية شعبنا"
يقول: "منذ أن وصلت إلى جبهة القتال في الخط الأمامي، تلح علي ذاكرتي أن أسجّل ما يحدث وما يجري في مواجهتنا للعدوّ الصهيوني، وأقول حقيقة بأن الذي أكتبه وما يجري به قلمي ليس إلا النزر اليسير. وإذا لم توفيني منيتي أو يدركني الموت فسوف أقصّ على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم. أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحاً، لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز الحركة. وبذلك تكون هذه المذكرات هي حديث الرصاص الذي يجب أن تتكلم به قضية شعبنا".
حدد الكاتب من خلال هذا البيان، الذي يرتقي إلى ما يسميه المنظّر الفرنسي فيليب لوجون بـ"الميثاق السيرذاتي"، حاجته لتسجيل اليوميات وأهدافه وهو تقديم شهادة للشعب عن حقيقة المعركة، وخاصة نقل ما سماه بـ"مأساة المقاومة" و"بطولات الجنود"، ومن ثم فهو ينطلق من حقيقة ميدانية كان قد أشار لها في صفحة التقديم، عندما قال: "كانت مهمة إعادة بناء الجبهة المصرية على الضفة الغربية لقناة السويس بعد هزيمة 1967، عملاً أشبه بالمستحيل، ومن هنا كان إنجاز هذه العملية شيئاً أشبه بالمعجزة. كانت هذه العملية تتم في ظروف قتالية غير متكافئة".
ليس هناك جنود سيئون إلا وفوقهم قادة أسوأ
تبدو اليوميات بنفس روائي تنطلق من لحظة طلب المجنّد الالتحاق بالجبهة طوعاً، فاسمه كان في قائمة أخرى بعيداً عن خط النار، ولكنه طلب الالتحاق بالجبهة، وفي أثناء اليوميات يكشف لنا الكاتب أمرين متعلقين باليوميات، أولها أنه مطّلع على يوميات سابقة، بل يحمل معه في الجبهة يوميات الثائر تشي غيفارا، واليومية ذاتها تكشف تركيبته النفسية والأيديولوجية، فهو يحمل روح ثائر، وهو يحاول أن يتماهى مع تشيء جيفارا. فغيفارا كان أيضا طبيباً مثله، وألتحق طوعاً بجبهات القتال، والفرق بينهما فقط أن أحمد حجي في جيش نظامي وعدوه معلوم ومحدد، بينما تشي غيفارا يخوض حروب عصابات، والعدو بالنسبة إليه عدو أيديولوجي وليس عدواً، بذاته لذلك كان يتنقل بين أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
غيفارا في قناة السويس
خصص أحمد حجي يومية الأربعاء 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1969، كاملة لأرنستو تشي غيفارا وحضوره في حياتهم اليومية، عبر هيئته وشعره ولحيته التي يقلدها بعض الجنود، وعبر تهافتهم على قراءة يومياته وحفظ عبارات له رفعوها إلى مستوى الشعارات.
الاشتراكي هو آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يموت
يكتب حجي: "مع الرصاص، وكلما اشتد القتال بيننا وبين العدو، كلما ازداد تعلّق الجنود وحبهم للزعيم الثوري الراحل أرنستو غيفارا... في بعض الملاجئ، تجد الجنود يعلّقون صوراً لهوشي منه ولغيفارا بلحيته الطليقة وشعر رأسه الكثيف والسيجار في طرف فمه، أو لياسر عرفات وعلى رأسه عقاله العربي، وفي أماكن أخرى يعلق بعضهم لافتات كتبت بخط اليد تحمل كلمات غيفارا، التي تقول: ليس هناك جنود سيئون إلا وفوقهم قادة أسوأ، وشعار آخر يعتز به الجنود ويعلقونه في أكثر من مكان: الاشتراكي هو آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يموت".
لم يكن غيفارا عند الجنود، كما ينقل حجي مجرد ثائر، بل هم مفتونون به وبالحديث عنه، فسيرته والقصص التي تروى عنه هي موضوع سمرهم كل ليلة وحديث نهارهم، والحافز الذي يدعوهم للصمود أكثر. كان غيفارا القدوة، لذلك كانوا يتساءلون أحياناً: "لو أن غيفارا مازال حياً... هل كان سيأتي لمساعدتنا؟"، فتأتيه الإجابة سريعة: "طبعاً. غيفارا يحارب العدوان الأمريكي في أي مكان".
كانوا يناقشون كتاباته كما يتحدثون عن سيرته، ويعتبرون كتاباته جزءاً من سلاحه الذي يرهب به العدو، لذلك كان الجنود يطلبون قراءة كتاب "مذكرات بوليفيا". يكتب حجي: "كنت أحمل كتاب مذكرات غيفارا في بوليفيا، وكان كل من يراه معي من زملائي المقاتلين يتعلق به، ويريد أن يقرأ، حتى أصبحت مشكلة، كان حلها أن نقرأها حسب أقدمية الطلب. قال لي واحد منهم: إن كتابات غيفارا وأفكاره مثل الرصاص الذي نطلقه على العدو... إنها تدمره أيضاً".
كان الحزن أكبر من أي شيء. وتركز في خاطري سؤال: أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين، أيمكن لهذا الوطن أن ينهض. إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالماً بأكمله
اعتبر حجي أن ذلك الولع بتشي غيفارا هو بمثابة التحية التي يقدّمها الجنود المصريون للثائر العالمي في الذكرى الثانية لاستشهاده.
تعكس مقاطع كثيرة من اليوميات المستوى الثقافي والمعرفي للجندي المصري في حرب الاستنزاف، حيث يكشف حجي أنهم كلهم من الطلبة تقريباً، أولئك الذين غرفوا من العلم قسطاً مهمّاً، وكان ذلك خياراً استراتيجياً لكي يتمكن الجنود في أقل فترة زمنية من التدرّب على السلاح الروسي الجديد.
عندما عاد حجي بيومياته، منع النظام نشرها، ويرجع البعض منع النظام المصري صدور هذه اليوميات وقتها، أن حجي كان يتحدّث عن الخبراء الروس في قناة السويس وفي الميدان، وهذا ما لا يعترف به النظام المصري وقتها. وقد أورد حجي حواراً له مع أحد خبراء السلاح الروس، ونقل عنه ملاحظات قاسية للنظام عندما اتهمه بطريقة غير مباشرة بالتقصير والفساد.
يسجّل حجي يوم 15 ماي 1969: "ارتديت معطفي العسكري ولبست الخوذة الحديدية فوق رأسي، وعندما هممت بالخروج إلى البحيرة، اقتربت عربة عسكرية من المبنى الذي نحتله. وقفت في مكاني. نزل الخبير الروسي من العربة واقترب منا ليحيينا. ذهبت لأتجوّل معه، لم أفهم كلماته الروسية، ولكني كنت أفهم من حركات يديه وقسمات وجهه ما يريد. قلت له بالإنجليزية: هل ترى أن النصر سوف يكون حليفنا في المعركة الحالية؟
بقدر ما نقل الجندي أحمد حجي طوال يومياته بطولات الجنود في المعركة، فإنه مرر أيضاً ضمن اليوميات نفسها قصصاً لمعاناة الجنود النفسية وانعكاساتها عليهم وعلى أبدانهم
أجاب: بعض النظام وبعض المسؤولية تكون معركة تحطيم الإمبريالية على أيديكم.
قررت الذهاب إلى بحيرة المنزلة. أجلت نظري في الفضاء اللامتناهي والذي يلتحم بمياه البحيرة في صفاء عجيب، لا يشعر به طيور البحيرة وهي تعلو وتهبط فوق سطح الماء، جلست والألم يعتصرني كلما فكرت في مأساة بلادي، فقد كان فكري يتمزق وأنا أفكر في الشعب الذي يدفع بلا حساب من أجل معركة ضخمة، لقد أحسست أنني أضع حياتي في مخاطرة أحسها بلحمي ودمي، وأحس أن شعبنا يعيش هو الآخر نفس المخاطرة. إنها لعبة الخداع المستمرة للشعب حول تفاهة العدو".
يواصل حجي في ذات اليومية وصف واقع المعارك غير المتكافئة بين القوتين، وكيف انهالت عليهم القنابل والقذائف من كل صوب، بعد أن سحقت جندي أصر على مواجهتها برشاشه في عمل دونكيشوتي.
كان السلاح الروسي لم يوزع بعد على فرقة حجي، بل كان في مكان آخر، بينما تواصل فرقة حجي القتال بأسلحة قديمة.
يسجل الكاتب في أول يومية أنه عندما طلب من الجندي المسؤول أن يسجل اسمه في قائمة الذاهبين إلى الجبهة رد عليه بإشفاق: "أنت غاوي قرف"، ولكن أمام إصراره سجّله. ذلك القرف هو الذي سيعرفه بعد ذلك في الجبهة، عندما يكتشف أن القوات المتحاربة غير متكافئة.
من أكثر القصص الحزينة التي ينقلها أحمد حجي عن واقع الجنود في المعركة وحالتهم وعدم مبالاة النظام بهم، قصة ذلك الجندي العائد إلى الجبهة من إجازة قصيرة إلى أهله، ولأنه لا يملك ثمن التذكرة، قفز فوق القطار، وظل هناك طوال الرحلة، حتى ارتطم رأسه بأحد الجسور، فشج ومات
سير وقصص الأبطال المنسيين والاضطراب النفسي للجنود
كان حجي يعي جيداً أن هؤلاء الشباب المرميين على خط النار منسيون، وسيقع نسيانهم أكثر عندما يسقطون في المعركة كغيرهم، وشعر بأنه مسؤول عنهم كما لو كانوا أمانة في رقبته، فجعل من يومياته كتابهم الخاص الذي يروي بطولاتهم وأحزانهم وحتى لحظات استشهادهم.
لم يكتف حجي بسرد بطولات الجنود، بل نقل لنا هشاشتهم كبشر، فنقل غضبهم وبكاءهم وضعفهم وبؤسهم وثورتهم على رؤسائهم وأزماتهم النفسية، وقد أضفى النفس القصصي على يومياته شيئاً من الدراما المتحركة التي تبنى مع كل يومية، كيومية جندي واحد يبكي ويفرح وينتصر ويفشل ويستشهد، ويعود ساخطاً على واقع الحرب غير المتكافئة التي زُجّ فيها، ومشاعر الوطنية التي يعلو وتهبط منسوبها مع متغيرات التجربة والوعي بها.
بقدر ما نقل حجي طوال اليوميات بطولات الجنود في المعركة، فإنه مرر أيضاً ضمن اليوميات نفسها قصصاً لمعاناة الجنود النفسية وانعكاساتها عليهم وعلى أبدانهم، ولعل قصة الجندي الذي عانى من احتباس البول مثال على ذلك، وربما كانت من الذرائع التي دفعت أيضاً بنظام الرقابة منع تلك اليوميات، واستمرار منعها لسنوات طويلة بعد الحرب.
يسجّل حجي في يومية الأربعاء 16 نيسان/أبريل 1969: "منذ الصباح الباكر وهذا الجندي لا يبتعد عني، فالألم يعتصره ويعتصرني أيضاً من أجله، فقد احتبس عنده البول منذ يومين. ماذا سنفعل له؟ الإسعافات التي تحت يدي لا يمكن أن تؤدي له شيئاً. طلب إحدى العربات، وفي الصندوق ألقيت بجسدي إلى جواره وأسندت رأسي على ظهر مقصورة السائق.
انطلقت العربة تخترق الأراضي المزروعة والتي تهدم ما يقابلها من بيوت طينية مهجورة، كان لا بد من الإسراع لإسعاف هذا الجندي، وكان السائق يعرف هذا جيداً. العربة تتلوّى بين حقول القمح والجندي هو الآخر يتلوّى من الألم المبرح الذي يزداد شدة كلما توغلنا في الطريق. كنت أشيح البصر بعيداً عنه، فيقع على الحقول الصفراء والأراضي البور، فأحس بانقباضة شديدة، لقد كانت الكارثة قاسية على هذا الشعب، فهي تلتهم قوته بنفس القسوة التي تلتهم بها أبناءه".
"مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس" يوميات جندي جنّده النظام "الإنساني جداً" لمعالجة الجرحى من الجنود، ونسي أن الطبيب الشاب قد تخرج من قسم الطب البيطري، فهل بعد ذلك من سوريالية؟
لم ينقل لنا هذا المقطع من اليومية بؤس حالة الجندي من احتباس البول النفسي فقط، وهي أعراض تواجه الانسان أثناء مواجهته لأهوال أو مخاوف أو صدمات، وهي حالة متأتية أحياناً من حالة هيستيرية، بل وصف لنا بؤس الحياة وأثر الهزيمة على الفلاحين البسطاء، فيصفها بالكارثة خلافاً للنظام الذي يصفها بمجرد نكسة.
كما دوّن حجي بطولات بعض الفلاحين والذين رفضوا ترك أراضيهم رغم تمركز الجيش فيها وتدميرها، فظل عم بيومي مثلاً، يعيد زراعة الأرض ويقاوم واقع القحط والتهجير الذي فرض على زملائه من الفلاحين. ولم ينس حجي الحديث عن شجاعة الطفل المصري هناك، والذي كان رسولاً بين الجنود والجبهة، ينقل لهم أخبار الجهة الأخرى دون خوف، وكانت تلك محفزات أخرى للجندي المصري لكي يواصل القتال من أجلهم.
من أكثر القصص الحزينة التي ينقلها أحمد حجي عن واقع الجنود في المعركة وحالتهم وعدم مبالاة النظام بهم، قصة ذلك الجندي العائد إلى الجبهة من إجازة قصيرة إلى أهله، ولأنه لا يملك ثمن التذكرة، قفز فوق القطار، وظل هناك طوال الرحلة، حتى ارتطم رأسه بأحد الجسور، فشج ومات، وظل ينزف حتى انتبه الكاتب إلى قطرات دم تسقط على ذراعه التي كانت على حافة الشباك، ليكتشف الجنود العائدون زميلهم الذي نجا من القتال ضد إسرائيل مقتولاً بشكل عبثي بسبب ثمن تذكرة قطار.
يسجل الكاتب: "كانت رأس الجندي مهشمة إثر اصطدام قوي مع جسم صلب، وكان قد فارق الحياة تماماً، ولم يكن هناك على سطح القطار كله غيره. كانت ملابسه كلها غارقة في الدماء. حملناه إلى المحطة وسلمناه إلى الشرطة العسكرية التي بدأت في جرد محتويات ملابسه، في محاولة لتعرف على شخصيته، وأخذ أحد جنود الشرطة العسكرية يسجّل هذه المحتويات: منديل، علبة سجائر بها ثلاث سجائر، سبعة عشر قرشاً، بطاقة عسكرية، ختم، برقية. وعندما رأيت البرقية في يد جندي الشرطة العسكرية طلبت منه أن يطلعني عليها، وقرأت: احضر حالاً. والدك توفي.
مددت البرقية للجندي وذهبت ألقي نظرة على ذلك الغارق في دمائه، وصفّر القطار، وعدت إلى مقعدي أسمع حديث الناس عما حدث، ولا أجد معنى لأي كلمة تقال، ولم أعد أرى، رغم عيني المفتوحتين، لا الأشجار ولا البيوت التي تطل عليها نافذة القطار، فقد كان الحزن أكبر من أي شيء. وتركز في خاطري سؤال: أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين، أيمكن لهذا الوطن أن ينهض. إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالماً بأكمله".
طعّم حجي، ككل كتّاب اليوميات الكبار، يومياته بالرسائل التي كان يرسلها أو يتلقاها في جبهة القتال، من الأهل أو الأصدقاء أو شباب آخرين يعلمون بمكانهم، في الجبهة تصبح الرسالة الجسر الوحيد الذي يربط الجنود بالعالم الخارجي وعالم الموت بعالم الحياة، لتتحول الردود على تلك الخطابات الدليل الوحيد أنهم مازالوا على قيد الحياة في ذلك الجحيم. وتحملهم تلك الرسائل مسؤولية جديدة باعتبارهم أناساً استثنائيين، اصطفتهم شجاعتهم وقدرهم ليحملوا آمال الملايين من الناس البسطاء والفقراء الذين يحلمون بالحرية وبالحياة المحترمة، إلا أن صوتهم حجب لسنين بإصرار النظام على منع اليوميات من النشر حتى سنة 1988.
قدم أحمد حجي يوميات غاية في الدقة والتنوع والأدبية، ويبدو أن شخصية المثقف العضوي الذي يناضل ما قبل الحرب في محو الأمية ونشر الثقافة مدفوعاً بانتمائه اليساري الثقافي، وانخراطه في الكتابة عبر ما ينشره من مقالات في مجلة الطليعة، كلها ساهمت في بناء شخصيته الثقافية في الحرب، وحررته من شخصية الجندي النظامي السطحية، لتعبر به نحو شخصية الرائي والشاهد والمفكّر والمعلّق على الأحداث من داخل التجربة الجماعية.
يقول الكاتب عمار المأمون مقدّماً "دفتر ملاحظات فيتغنشتاين في الحرب": "الجندي محط الجهود الأيدولوجية بشكلها الفج (لباس رسمي، شعارات، شكل موحد، نظام داخلي، هرمية قاسية...الخ)، هو جزء من جهاز الدولة المسؤول عن قتال الأعداء وحماية المواطنين"، غير أن الجندي في هذه اليوميات المصرية جندي منشق بخطابه عن خطاب الجندي النظامي، جندي قطع مع واجب التحفظ والسرية وسجّل يومياته في المعركة ونقل مشاعر الناس وزملائه وقصصهم بلا خوف من مرؤوسيه، إنه جندي في نظر النظام خان جزءاً وظيفته، ولكنه خانها من أجل كسب إنسانيته ونقل الحقيقة. لذلك ظل راضياً على فعله حتى نهاية اليوميات، ومصراً على كشف "لعبة الخداع المستمرة للشعب حول تفاهة قوى العدو" التي مارسها النظام، ذات النظام الذي مارس سلطته، بعد ذلك، في حظر ذلك الخطاب المضاد بمنع النشر.
"مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس" يوميات جندي جنّده النظام "الإنساني جداً" لمعالجة الجرحى من الجنود، ونسي أن الطبيب الشاب قد تخرج من قسم الطب البيطري، فهل بعد ذلك من سوريالية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع