"كانت زيارة الطبيبة النسائية بالنسبة لوالدتي 'خط أحمر' حين كنت فتاة عذراء، اعتقاداً منها أن الفحوص التي تقوم بها الطبيبة النسائية أيّاً كانت، قد تسلبني عذريتي"، هذا ما تقوله رينا (اسم مستعار، 19 عاماً) من محافظة النجف وسط العراق، لرصيف22، عن معاناتها مع أهلها ومنعهم إياها من زيارة الطبيبة النسائية منذ سنوات وأثر ذلك عليها وقد تزوجت حديثاً.
تحكي رينا: "في الخامسة عشرة من عمري، كنت أعاني من عدم انتظام الدورة الشهرية، ومنعني أهلي من زيارة الطبيبة النسائية، وهذا جعلني أعاني تأخر الدورة الشهرية الخاصة بي لمدة قد تصل لأربعة شهور أحياناً قبل أن تفاجئني بنزيف شديد وكتل من الدم المتجلط باللون البني الغامق".
توضح الشابة العراقية أن "بعض العوائل العراقية تمنع الفتيات من زيارة الطبيبة النسائية اعتقاداً أن زيارتها للعيادة قد تعرّفها على الأمراض النسائية، أو قد تستمع إلى 'حديث النساء المتزوجات' في العيادة، وهو ما يعد أمراً معيباً، إذ يجب ألا يتم التطرق لتلك المواضيع أمام الفتيات العذراوات".
هذا ما جعل رينا تلجأ إلى سلمي، شقيقتها الكبرى المتزوجة، التي تزور عيادة الطبيبة النسائية بشكل دوري، لاصطحابها إلى الطبيبة معها دون علم الأسرة. "كان إقناع شقيقتي مهمة صعبة، وفي البداية رفضت الفكرة خوفاً من أن يتسلل الموضوع إلى والدتي، أو توشي بنا إحدى زوجات أشقائي"، تقول رينا، متابعةً "بصعوبة أقنعت شقيقتي أنني بحالة سيئة، فوافقت أن تأخذني معها في أقرب موعد زيارة لها مع طبيبتها، شرط أن نُخفي الأمر عن والدتي".
"رينا في العيادة"
خلال زيارتها للعيادة النسائية، في صالة الانتظار المكتظة بالنساء، جلست رينا وشقيقتها في حالة قلق شديد، خشية أن تصادفا أحداً من معارفهما من بين مراجعات الطبيبة، كأن تكون قريبة أو جاره لهما من بين المريضات أو مرافقاتهن. في هذه الأثناء، وجهت إحداهن سؤالاً للأختين: "هذه البنية شنو ميصير عدها أطفال (تسأل لو تأخر حمل رينا)؟ لو حديثة الزواج ومريضة؟".
أجابت سلمى بتلعثم: "لا، لا لا هذه أختي، وهي غير متزوجة. جئت بها للطبيبة للكشف عن سبب عدم انتظام دورتها الشهرية". وكان الرد من المرأة السائلة: "يتم اصطحاب العذراوات للعيادات النسائية هذه الأيام، إنها موضة جديدة!".
"كانت زيارة الطبيبة النسائية بالنسبة لوالدتي 'خط أحمر' حين كنت فتاة عذراء، اعتقاداً منها أن الفحوص التي تقوم بها الطبيبة النسائية أيّاً كانت، قد تسلبني عذريتي"... فتيات ونساء عراقيات يواجهن أوجاعهن في صمت بذريعة أن الطبيبات النسائية "يلعبن بالبنية"
تتابع رينا سرد قصتها قائلةً "دخلت على الطبيبة وشرحت الأعراض التي اختبرها، وبعد إجراء الفحوص اللازمة تبين إصابتي بتليّفات الرحم وتكيّسات المبايض".
وصفت الطبيبة عدة أدوية لرينا، من ضمنها دواء منظم للدورة الشهرية، إلا أن شقيقتها حذرتها من تناول الدواء أمام والدتها أو أحد من الأهل. "هذا يستخدم أيضاً لمنع الحمل، وإذا رأته والدتي ستفهم شيئاً آخر، وسنكون في ورطة"، أخبرتها سلمى آنذاك.
استمرت رينا على الأدوية لبضعة أشهر، حتى انتظمت دورتها وخفّت الأوجاع، إلا أنها كانت تعلم أنها لم تعالج حالة الرحم والمبايض لديها بشكل جذري، إذ لم تتمكن من زيارة الطبيبة مرة أخرى.
تبعات ممتدة
بعد أن تزوجت رينا، تأخر حملها بضعة أشهر، ولدى بحثها عن الأسباب الطبية لذلك أدركت أن حرمانها من زيارة الطبيبة النسائية كان وراء ذلك.
تروي: "بعد أشهر من الزواج، استغربت عائلة زوجي عدم حملي، وهو ما دفع والدة زوجي إلى أن تصحبني إلى الطبيبة النسائية الخاصة بعائلتها. كانت الصدمة أن شخّصت حالتي أنني بحاجة إلى عملية جراحية من أجل إزالة تليفات الرحم التي تضاعف حجمها، وعلاج عدم انتظام الهرمونات عندي".
وتختم: "قالت الطبيبة إن فترة علاجي قد تستمر سنتين أو أكثر بحسب استجابة حالتي. وقد كلّفني هذا الأمر الكثير من الألم النفسي والمادي".
خرافات لا تفنى
وعن التمسّك بحرمان الفتيات والنساء غير المتزوجات من عيادة الطبيبة النسائية، تقول الجدة أم فيصل (70 عاماً)، من الديوانية، لرصيف22: "من مسؤوليتنا الحفاظ على 'شرف' البنت من صغرها إلى أن يتم تسليمها إلى زوجها".
تعتبر أم فيصل أن واجبها هو تعليم حفيداتها من أولادها السبعة، و"مراقبتهن"، شارحةً "نتابع البنية (الفتاة البكر)، وكل تحرّكاتها تحت أنظارنا. فمثلاً إذا دخلت للحمام وتأخّرت يلزم طرق الباب عليها ونكرر التحذيرات حول كيفية رش الماء أثناء تنظيف 'المنطقة الحساسة' أن لا تقرب خرطوم الماء لأن الغشاء (تقصد 'غشاء البكارة') رقيق وقد ينفتح. حتّى تنظيف هذه المنطقة من الشعر، نحرص أن يكون بالمقص وتحت إشراف أمهاتهن لأن 'الحلاوة' قد تؤثر على الغشاء".
وترفض أم فيصل زيارة الفتيات غير المتزوجات للطبيبة النسائية تماماً قائلةً: "أبد ممنوع منعاً باتاً"، تكرّرها وتشدد عليها، مبررةً ذلك بالتعبير عن اعتقادها بأن الفتاة غير المتزوجة تكون "فُلّة" أي "نظيفة من الأمراض"، مدعيةً أن تأخر الدورة الشهرية يمكن علاجه بشراب الميرمية، العُشبة التي يمكن جلبها من قبل العطّارين.
وتزعم الجدة أم فيصل أن الطبيبات النسائية "يلعبن بالبنية"، في إشارة إلى احتمال خدش ما يُعرف بـ"غشاء البكارة" خلال الفحص، ما قد يدمّر حياتها أو يهدد حياتها من قبل ذويها. كما تحذّر الجدة العراقية من اصطحاب الفتيات إلى العيادات النسائية قائلةً إن زيارة هذه الأماكن قد تولّد داخل الفتاة غير المتزوجة نفوراً من الزواج بالتعرّف على الأمراض النسائية وكيف يتم فحص ومشاهدة الآلات الطبية التي تستخدمها الطبيبة. "هذه الأجواء تولّد رعباً من الزواج عند الفتيات"، بحسبها.
وتختم أم فيصل بالقول إن "'شرف' العائلة والقبيلة مرتبط ببكارة فتياتها ومن واجبنا حمايته. فإن تعرّضت الفتاة لأي حادث أو خدش في هذه المنطقة سوف ندفع ثمن ذلك سنوات من سمعتنا. حماية الفتاة من أولويات الجدة والأم".
تجدر الإشارة إلى أن ما كررته الجدة العراقية هو خرافات شائعة حول الصحة الجنسية للنساء والفتيات، وقد أثبت العلم عدم صحتها مراراً وتكراراً لكن البعض يتمسّك بهذه الخرافات كذرائع للتحكم في النساء وقمع حريتهن.
"عندما يتعلق الأمر بالفتيات العذراوات، تجب موافقة ولي الأمر لإجراء الفحوص مهما كانت بساطتها. بغض النظر إن كانت المريضة قاصرةً أم بالغة راشدة. أما في حالة النساء المتزوجات، فيتطلب الأمر موافقة الزوج، خصوصاً في قرار إجراء العمليات الجراحية على مختلف أنواعها"
موافقة ولي الأمر "الذكر" شرط "الفحص"
حالة رينا ليست الوحيدة، بل هي واحدة من عشرات الحالات التي تصادف طبيبة النسائية سنوياً كما تقول لرصيف22 الطبيبة فاطمة محمد، أخصائية طب وجراحة عامة، إذ تؤكد أنها قابلت العديد من الحالات في أثناء خدمتها في عدة مستشفيات في مناطق مختلفة من العراق حيث يقرر الأهل مصير علاج النساء والفتيات لا الأطباء.
تقول: "عندما يتعلق الأمر بالفتيات العذراوات، تجب موافقة ولي الأمر لإجراء الفحوص مهما كانت بساطتها. بغض النظر إن كانت المريضة قاصراً أم بالغة راشدة. أما في حالة النساء المتزوجات، فيتطلب الأمر موافقة الزوج، خصوصاً في قرار إجراء العمليات الجراحية على مختلف أنواعها".
وعن أسباب وجوب موافقة ولي الأمر الذكر أو الزوج، تضيف الطبيبة العراقية: "نعيش وسط مجتمع عشائري، وللأسف من السهولة التعرض للكوادر الطبية والاعتداء عليها وتكسير المستشفيات فوق رؤوسنا نحن الأطباء، خاصةً عندما يتعلق الأمر بأجساد النساء التي تعتبر 'شرف وعرض' العشيرة في نظر ذويهن".
وتتذكر محمد: "في إحدى المرات زارتنا سيدة في الثالثة والخمسين من عمرها في أحد مستشفيات بغداد، وكانت تعاني نزيفاً متقطعاً، وبعد أن شخّصت حالتها عرفت أن الطمث قد انقطع عنها منذ عامين، لذا وجود نزيف متقطع قد يشير إلى وجود أورام في الرحم، وللتأكد من التشخيص، كان يجب أن نعمل خزعة داخل الرحم".
تقول محمد إنه ولكون المريضة كانت عذراء، تعذّر إجراء الفحص دون موافقة رجل من عائلتها إذ "لا يمكن للطبيب إجراء فحوص من هذا النوع للعذراوات"، حسب قولها.
الطبيبة العراقية جوان ميرزا، المقيمة في فنلندا، تؤكد ما تقوله مواطنتها محمد، وتقول لرصيف22: "أثناء ممارستي للطب في فنلندا، زارتني العديد من المريضات العراقيات برفقة أولياء أمورهن. لاحظت أن السلطة العائلية الذكورية كانت تتحكّم بشكل كبير في قرارات المريضة حتّى في ما يتعلق بصحة السيدة أو الفتاة وعلاجها، خصوصاً إذا كانت المريضة عذراء".
تروي ميرزا عن حالة مريضة لديها كان عمرها 20 عاماً وكانت تعاني آلاماً شديدة في البطن، وزيادة في الوزن، ونمواً كثيفاً للشعر في مناطق مثل الإبط والعانة. تقول إنه بعد إجراء سونار عبر البطن، تم اكتشاف وجود مشاكل وأكياس تحتاج إلى تشخيص دقيق عن طريق الفحص الداخلي بالكاميرا. ومع ذلك، رفضت والدتها إجراء الفحص بسبب أن ابنتها عذراء. مع إصرار الأم على موقفها، ورغم تكرار زيارات الفتاة للطبيبة ازداد وضع المريضة سوءاً وحذّرت الطبيبة من أن تأخر أو عدم علاج هذه الحالات قد يترتب عليه تفاقم الحالة الصحية وتطورها إلى أمراض تناسلية خطيرة تصل إلى حد "العقم" علاوة على الآلام المستمرة الشديدة.
تعتبر ميرزا أن هذه الحوادث تتكرر بشكل شائع في المجتمع العراقي حيث تُعتبر العادات والتقاليد جزءاً لا يتجزأ من المجتمع العراقي وأفراده بغض النظر عن الموقع الجغرافي.
"العائلات غالباً ما ترفض إدخال الفتيات العازبات إلى صالة العمليات لأسباب غير مقنعة، خشية أن تلصق بهن وصمة أنهن يعانين مشاكل في الخصوبة، مما قد يؤثر في فرصهن في الزواج. في المجتمع العراقي، تُفضل عائلات ألا يتزوج ابنها من فتاة تعاني مشكلات صحية في الجهاز التناسلي، وهذه التفكير خاطىء للأسف، ويظلم النساء كثيراً"، وفقاً لميرزا.
وتختم الطبيبة بأن الأمر لا يقتصر على العمليات الجراحية فقط، بل يشمل أيضاً بعض العلاجات مثل حبوب تنظيم الدورة الشهرية، التي تُستخدم لأغراض أخرى مثل منع الحمل. لذا، تحرص على كتابة وصفة طبية لا ترتبط بمنع الحمل لتجنيب المريضة الدخول في مشاكل مع ذويها.
"من حق أي فتاة أن تفهم الأمراض النسائية الشائعة، خصوصاً في ظل نقص الثقافة الجنسية والخوف و'العيب' الذي يحيط بموضوعات مثل غياب الدورة الشهرية لدى الفتيات غير المتزوجات في العراق. ولكن وزارة التربية تمنع إدراج هذه الموضوعات ضمن مناهجها"
الثقافة الجنسية مرفوضة في العراق
في سياق متصل، تقول إخلاص جاسم الناشطة والمدافعة عن حقوق الإنسان والتي تعمل مدرّسة في إحدى مدارس العاصمة بغداد، إنها خلال عملها صادفت طالبات يعانين حكة في منطقة المهبل أو خشونة في الصوت مع نمو شعر في منطقة الذقن، أو طالبات "يتلوّين" من الألم خلال الحصة في الصف في أثناء فترة الحيض، مبرزةً أنه لا يوجد من يساعد الفتيات ويثقفهن بشأن ذلك حيث لا تتوفر طبيبة في مدارس العراق، فيلجأن لها لقربها منهن.
تشير جاسم إلى تجربتها مع والدة إحدى الطالبات التي استمرت لأشهر عدة، إذ كانت الطالبة تعاني حكة شديدة، وتخفيها بالجلوس في مكان بعيد في الفصل. بعد محاولة فتح الحوار معها، أخبرتها الطالبة بأنها تعاني حكة، وتحسساً في المهبل، وأن والدتها تعنّفها بسبب ذلك. وعند التواصل مع والدتها، رفضت الأم زيارة ابنتها للطبيبة النسائية بسبب اعتراض جدّة الطالبة من جهة الأب، لكن بإصرار من جاسم، أقنعت الأم أخيراً بأخذ ابنتها لزيارة الطبيبة النسائية.
وتؤكد جاسم "ضرورة تعليم الثقافة الجنسية في المدارس"، مشيرةً إلى أن "من حق أي فتاة أن تفهم الأمراض النسائية الشائعة، خصوصاً في ظل نقص الثقافة الجنسية والخوف و'العيب' الذي يحيط بموضوعات مثل غياب الدورة الشهرية لدى الفتيات غير المتزوجات في العراق. ولكن وزارة التربية تمنع إدراج هذه الموضوعات ضمن مناهجها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يوملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 4 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 6 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...