شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الشهوات...

الشهوات... "في صقلية يقولون: النفوذ أفضل من الجماع" فماذا عنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الخميس 29 أغسطس 202410:26 ص

لم يكن لمقالي السابق "الشهوات... هل الحكم والسلطة أقوى إغراء من الحب؟"، في رصيف22، ليمرّ من دون التوقف، بشيء من التأنّي، أمام مشاعر شديدة التعقيد، يختلف فيها الحب كعاطفة فردية، عن غواية السلطة وثمارها من الشهوات الأخرى كالأموال والنساء.

الحب غريزة مركّبة، وإذا استطاع إنسان أن يلخّصها في جانب واحد فهو ساذج، أحادي النظرة، فقير البصيرة، باحث عن لذة عارضة، تستهوي فيها هذه المرأة وتلك، وللإمام ابن حزم رأي كتبه في سن الثامنة والعشرين، في كتابه "طوق الحمامة"، يستنكر فيه الحب "من نظرة واحدة"، لا يصدقه، ويعتبره "ضرباً من الشهوة"، ومذهبه في ذلك أن "ما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً".

يوثّق ابن حزم قول أحد أصدقائه، في نهاية جدال: "وأي آفة أعظم من الحب"، لا تنتهي الجملة بعلامة استفهام، جملة تقريرية لا استفهامية، ونسي الصديق، ونسي ابن حزم أيضاً، أن يذكر أن هذه الآفة منحة يختص بها الأسوياء، من استحقها استغنى عن المباهج كافة، الحب تقوى، كالصيام المتفرد عن العبادات والشعائر بأن الله يجزي به، هو وحده يعلم سرّ الصائم من المفطر، الصوم عبادة خاصة جداً، لا يمكن للمرضى بمراقبة الخلق أن يكتشفوها، ولا للحسَدَة القتلة أن يسلبوها، لكن العجَزة عن الحب يستطيعون ادعاء التفوق، ولا يدّعي ذلك إلا العجَزة، تنطلق ألسنتهم بما يتمنونه، وربما يرتكبون جرائم في سبيل التحقق.

الحب غريزة مركّبة، وإذا استطاع إنسان أن يلخّصها في جانب واحد فهو ساذج، أحادي النظرة، فقير البصيرة، باحث عن لذة عارضة، تستهوي فيها هذه المرأة وتلك

الحب روح طليقة تقتلها المؤسسة، يهيم أطرافه، لا يبالون بشيء ولا بأحد، يشبعهم الإحساس بأنهم يمتلكون العالم، ثم تهزمهم أطُر مؤسسية تجعلهم تروساً في آلة اجتماعية جبارة، تُخضعهم لما يخضع له أعضاء المؤسسات. أما السلطة فلم تعد شأناً شخصياً منذ انتهاء حياة أبطال السير الشعبية، وتحوّلهم إلى أساطير في ضمائر شعوبهم، والحكم يرتبط بالمؤسسة وحسابات أركان النظام من السدَنة ورجال الحاشية، وإذا كان رمز السلطة دون السن القانونية شكلوا مجلس وصاية، ولو انفرد أحدهم بالقوة لسارع إلى عزل السلطان وتجريده من صلاحياته، وإن أبقى عليه رمزاً للشرعية، كما فعل الحاجب المنصور بن أبي عامر مع الخليفة هشام المؤيد في قرطبة.

هل ودّ هشام المؤيد لو نعِم بالحب، ونأى عن حُكم لم يمارسه؟ أُجلس على العرش وهو ابن الثانية عشرة، بوصاية أمه صبح البشكنجية، ودعم ابن أبي عامر دعماً يختلط فيه السياسي بالعاطفي، وعاش الخليفة البائس تجارب لم يمرّ بها غيره، فالمنصور أماته بعزله وأبقى على حياته، ثم بعثه القاضي بن عبّاد بعد موته باثنين وعشرين عاماً، فأحضر خلف الحصري الشبيه بهشام المؤيد، وزعم أنه هشام العائد من الاختفاء، وأخذ له البيعة الأموية الهاشمية، وبحضور هشام المزيف إلى إشبيلية اكتسب ابن عباد شرعية ساندت ابنه المعتضد الذي حثّ الخليفة المزيف على التزام الأدب، وألا يصدق نفسه، وهدده بأن القبر بديل للقصر.

بخلافة هشام المؤيد صبياً أفتح قوساً، وببعثه بعد دفنه أغلق قوساً. بين القوسين وقائع ومساخر... خلع طوعي، وخلع إجباري، وإعادة إلى الخلافة، دولة أموية تنهار، ودولة عامرية تنهض وتزول، وملوك الطوائف يتنافسون على التنازل للعدو؛ لينصرهم على إخوتهم.

الأسوياء وحدهم يستطيعون تنمية شهوات بديلة، شخصية جداً، لم تكن لتكتشف لولا محنة تزيل الشهوة السابقة إلى السلطة.

الخليفة المستبد المهدي أجبر الخليفة هشام المؤيد على التنازل؛ فضمن حياته، وفي الشهر الثاني لحكم المهدي أمر بحمل جثة رجل شبيه بهشام، وأعلن وفاته، وأعدّ جنازة لائقة بخليفة سابق، فثار هشام بن سليمان وبايعه أنصاره بالخلافة، وحمل لقب الرشيد، وتوالت الخيانات وقطع الرقاب لخلفاء يحملون ألقاباً، منهم سليمان المستعين الذي دخل العاصمة قرطبة على جثث نحو عشرة آلاف، فهرب المهدي لتدبير احتيال.

ردّ المهدي الخلافة إلى هشام المؤيد، فأخرجه من السجن، وأجلسه فرآه الناس، وأعلن القاضي ابن ذكوان أن الخليفة حيّ، فسخروا منه: "سبحان الله يا قاضي، يموت هشام بالأمس، وتصلي عليه أنت وغيرك، واليوم يعيش، وترجع إليه الخلافة!". وعاد المهدي إلى قرطبة محاطاً بأنصار مسلمين ومسيحيين، وكان هشام المؤيد أول من بايعه. ودارت الحرب بين المهدي والبربر فقتلوا المهدي، وهتفوا بحياة هشام المؤيد وأجلسوه على العرش. وبعودة سليمان المستعين إلى الخلافة، للمرة الثانية، جيء بهشام المؤيد، وقدم إلى سليمان الاعتذار، وخلع نفسه واختفى، فلم يعلموا هل فرّ، أمْ قُتل؟ هنا أعود إلى السؤال: هل ودّ الخليفة لو استغنى بالحب عن الإذلال؟

أي شهوة تنطوي عليها السلطة؟ ربما يزداد البريق في حالات استقرار الدولة ورسوخ أركانها، فما الإغراء في سلطة تهتز، تتحكم فيها مراكز القوى، تمنحها حيناً، وتمنعها متى تشاء؟ ويرتبط بالمنع ذلُّ غياب اليقين، فلا يدري الحاكم الأسير متى يسترد قدرته على الاختيار. الاختيار هو السرّ الأعظم، يمتلكه الإنسان فيحوز العالم، وإذا حددت القوى الخفية، أو الحرس الخاص، للحاكم مكان نومه أو اختفائه فلا اختيار له، وقد يتسلى الحرس بإخضاعه وإهانته، وهو يظن أنهم يبالغون في حمايته، فيتراهنون على أيهم أكثر إرعاباً وإيلاماً: مَن يحني رأس الحاكم؛ فينكمش في دواسة السيارة؟ أمْ مَن يبرك بركبتيه فوق جسده؛ لوقايته من رصاص وهمي؟

الاختيار هو الحرية، تلك حكمة حياة مصورة الفوتوغرافيا الإيطالية ليتيتسيا باتاغليا. في نيسان/أبريل 2022 توفيت ليتيتسيا باتاغليا، عن 87 سنة، بعد ثلاث سنوات من إنجاز الفيلم الوثائقي "Shooting the Mafia" للمخرجة البريطانية كيم لونغينوتو. الفيلم يلقي أضواء على مسيرة ليتيتسيا، ويحظى عنوانه بترجمتين: "تصوير المافيا" و"إطلاق النار على المافيا"، لا أعرف أيهما أكثر دقة، تعنيني دقة وصف ليتيتسيا للشهوات، وقد جرّبت الزواج المبكر والإنجاب، وتخلت عن ذلك كله، وقررت اختيار التصوير، "فالكاميرا غيرت حياتي"، وغامرت بتصوير جرائم للمافيا، فأيقن الناس بحقيقة عصابات ظلت أساطير وكوابيس، وأعضاؤها خفية. آمنت ليتيتسيا بضرورة "أن يكون عملك مقدراً، لكن النجاح أنهكني، وأنا أفضّل الحب".

وثّقت ليتيتسيا جرائم المافيا، ونفوذهم وسيطرتهم على رجال السياسة، وأنهم متوحشون، لا ثمن عندهم للدماء، ولا يرحمون حتى الأطفال، يختلفون عن صورة إنسانية رسمها المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا في ثلاثيته التي بدأها عام 1972 بفيلم "الأب الروحي". لم تبال ليتيتسيا بالتهديد بقتلها، ثم استراحت في تسعينيات القرن العشرين، وتوقفت عن التصوير، وصارت عضوة في البرلمان. وفي الفيلم توجز وصفها لثقافة تثمر الجريمة: "في صقلية يقولون: النفوذ أفضل من الجماع". أما ليتيتسيا ففي إصرارها على التحقق، عاشت عشرين سنة وحيدة، لا تشعر بالحاجة إلى الحب، ثم عرفت روبرتو الذي يحب المتحولين جنسياً، "يحبهم ويحبني"، "كنت في الثامنة والثلاثين حينما وُلد".

الحب روح طليقة تقتلها المؤسسة، يهيم أطرافه، لا يبالون بشيء ولا بأحد، يشبعهم الإحساس بأنهم يمتلكون العالم، ثم تهزمهم أطُر مؤسسية تجعلهم تروساً في آلة اجتماعية جبارة

ماذا لو جرّب جيل أو أجيال في صقلية مشاعر بديلة لموروث يجعل "النفوذ أفضل من الجماع"؟ الأسوياء وحدهم يستطيعون تنمية شهوات بديلة، شخصية جداً، لم تكن لتكتشف لولا محنة تزيل الشهوة السابقة إلى السلطة.

خاض الإمام ابن حزم محنة كبرى، من النشأة في بيت أبيه الوزير، والتنعم بآيات النفوذ، إلى أن استوزره الخليفة الشاعر المستظهر، عام 1018 ميلادي. وانتقم الخليفة التالي الملقب بالمستكفي من رجال سلفه، قتلاً وسجناً، وكان السجن من نصيب ابن حزم، فخرج منه إلى الاعتزال، وكتابة مؤلفات جعلته "أعظم علماء عصره وأخصب الكتاب الذين أخرجتهم إسبانيا"، كما قال المستشرق الهولندي رينهرت دوزي في كتابه "المسلمون في الأندلس".

انتهى حكم المستكفي نهاية مهينة، وقضى بقية أيامه منسياً، ولم يترك أثرا يدل عليه إلا ابنته ولادة، وحدها الدليل على وجود رجل اسمه المستكفي، لا يعرف الكثيرون أنه كان خليفة في الأندلس. لم يكتب المستكفي مذكرات تفسر شهوة السلطة. وكذلك علي عبد الله صالح الرافض للتنازل عن حكم اليمن، لم يحترم حقوق الشعب وأشواقه إلى الحرية، لم يعلن التوبة وهو محروق.

وعمر البشير ارتبط بحكم قضائي ربما لم يسبقه إليه رئيس في التاريخ، بإيداعه في مؤسسة للإصلاح الاجتماعي لمدة عامين، صدر الحكم في 14 كانون الأول/ديسمبر 2019. ولا أعرف هل مات البشير؟ أمْ يتحسّر على شهوة فاتته، ألذّ وأبقى من السلطة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard