شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الشهوات… هل الحكم والسلطة أقوى إغراءً من الحبّ؟

الشهوات… هل الحكم والسلطة أقوى إغراءً من الحبّ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 14 أغسطس 202412:12 م

غضب عراقيون، نجفيون وكربلائيون، مما ظنوه إساءة إلى الإمام الحسن عليه السلام. علقوا بسباب جارح؛ فاللغة لا تحتمل فضيلة المحاورة والجدل العقلاني، ولو كان حادّاً، لغة تقسو، فتغترف من قاموس الشتائم، وتسفّه المختلف. أما السبب فجملة في مقال عنوانه "الكرسي.. سكرة السلطة وشهوتها المزمنة"، في صحيفة "العرب" اللندنية، في 19 نيسان/أبريل 2016، أعليتُ فيه شأن لذّة نوعية هي الحب، تغني عشاق الحياة عن شهوة الحكم والسلطة. قلت إنه فضّل أشواق الجسد على "حكم لم يقاتل في سبيله، وتنازل عنه حقناً للدماء. وعيٌ لا يدركه رجال عجزة يعوّضهم إغراء السلطة عما ينقصهم من القدرة على التمتع بالنساء. من هنا ينشأ الاستبداد".

ظننت الحبَّ أكثر إغراءً وقوةً وتأثيراً من شهوة السلطة، وصحّح أصدقائي هذا المفهوم، ولم أقتنع تماماً، مهما يكن بعضهم متخصصاً في علم النفس. وبقليل من الهدوء وقراءة تراجيديات قديمة وحديثة وجدتهم على حق، ولا أجد تفسيراً لاستبداد شهوة المُلك بحكام رأوا مأساة يمكن تكرارها. ما الإغراء في نهايات صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك، وبقية السلالة المستبدة؟ القذافي حذّر الحكام العرب، في اجتماع قمة تلفزيوني، من مصير صدام حسين. لم يوجه التحذير إلى نفسه، فهو فوق بشري، وفي لحظاته الأخيرة، تحسس الدماء، وتوسل إلى قاتله الجبان: "أنا القائد"؛ اعتراف نادر ومتأخر بأنه إنسان؛ موتة مهينة لسفاح.

لا أجد تفسيراً لاستبداد شهوة المُلك بحكام رأوا مأساة يمكن تكرارها. ما الإغراء في نهايات صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك، وبقية السلالة المستبدة؟ 

تنازل الملك إدوارد الثامن عن العرش، عام 1936، للزواج من مطلقة أمريكية، فبقي في ذاكرة التاريخ أكثر من أخيه الملك جورج السادس الذي خلفه حتى عام 1952، ولا يكاد يذكر إلا باعتباره والد الملكة إليزابيث الثانية. كم يوماً عاش الملك جورج؟ سأتركه، وأذهب إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي جعل قرطبة أعظم مدينة آنذاك، وامتد نفوذها من المغرب الأقصى إلى الشمال الأوروبي. وفي مسلسل "ربيع قرطبة"، لحاتم علي، تلبّست شخصية الناصر، بشموخه وكبريائه، الممثل الكبير خالد تاجا. وكانت "أوروبا الغارقة في الظلام" تطلب صداقة قرطبة، والتحالف معها، ويرسل إليها إمبراطور جرمانيا وقيصرُ بيزنطة الهدايا، كما كتب المؤرخ الإسباني سانتشيث البرنس.

عبد الرحمن نصّب نفسه خليفة. صار للمسلمين ثلاثة خلفاء، بغدادي وفاطمي وأندلسي. كان أول أمير أموي في الأندلس يمنح نفسه لقباً هو الناصر لدين الله. بادرة سمحت له، كما كتب ليفي بروفنسال في كتابه "تاريخ إسبانيا الإسلامية"، "بأن يحيط طابع السمو الملكي بهالة من القوة، والتي رفعته إلى درجة الهيمنة الروحية، ناهيك عن الدنيوية... أول الخلفاء الأمويين في الأندلس تاريخاً واستحقاقاً".

غلاف كتاب "تاريخ إسبانيا الإسلامية"

وفي كتاب "دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة" يسجل الطاهر أحمد مكي أن الناصر ورث إمارة تحكمها الفوضى وتمزقها الفتن والحروب الأهلية، وجعلها خلافة "لها من السلطان والقوة، والغنى والثروة، والترف والحضارة، وللعلم والثقافة، ومن المهابة والخوف عند جيرانها، ما لم تبلغه يوماً قبله ولا من بعد".

تضمّن كتاب الطاهر مكي فصلاً للمؤرخ الإسباني سانتشيث البرنس ذكر فيه أن الناصر، الذي حكم بين عامي 912 و961 ميلادي، عاش 73 سنة، منها 49 سنة في حكم الأندلس، وأنه "ترك مذكرة مثيرة، كتبها بخط يده، سجل فيها أيام سروره وصفوِه وهي لا تزيد عن 14 يوماً على امتداد حياته".

غلاف كتاب "دراسات عن ابن حزم"

مساكين الملوك، ضحايا شهوة السلطة، تدفعهم مقولة "المُلك عقيم" إلى التضحية بأبنائهم، لو نافسوهم على الحكم. يظل الإمام علي استثناء، قال عن معاوية: "والله ما هو بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس". استغنى الإمام الحسن، وجاء الإمام الحسين مثالياً في سياق دامٍ. حيّره التوفيق بين الإصلاح وخشية الدم، فقيل له: "أتريد الحكم وتخشى الدم؟". لم يكن الإمام الشهيد يريد المُلك.

أما الذين قتلوا أبناءهم، لخوفهم على الكرسي، فكثيرون. عبد الرحمن الناصر سجن ابنه عبد الله، ثم أمر بإعدامه "أمام عيني الخليفة. فما كانت حياة الابن تعني في الحقيقة شيئاً كبيراً في تلك الفترة... فكلّ جريمة ضد أمن الدولة، أيّاً كانت على سبيل الزعم وأيّاً كان مدبرها، لا كفارة لها إلا الدم. وقليلون جداً من الأمويين في إسبانيا الذين لم يلطخوا ذكراهم بجرائم مماثلة، والتي لم تكن تذهل أحداً في تلك الفترة"، كما قال ليفي بروفنسال. بهذه التهمة قتل عبد الرحمن الداخل ابن أخيه وأبناء عمومته، وقتل المنصورُ بن أبي عامر ابنه عبد الله. والمعتضد بن عباد قتل ابنه إسماعيل وليّ العهد.

مساكين الملوك، ضحايا شهوة السلطة، تدفعهم مقولة "المُلك عقيم" إلى التضحية بأبنائهم، لو نافسوهم على الحكم! 

من المنصور إلى المعتضد لم يقتصر القتل على الابن. ما أكثر الدماء في الأندلس. كثيراً ما تشهد الدول، بعد القبضة القوية، انفجارات لا يسيطر عليها خلفٌ يفتقدون عبقرية الدكتاتور المؤسس.

في سن الرابعة والستين، عام 1002 ميلادي، مات المنصور بن أبي عامر، الديكتاتور العبقري، ولم يرث أبناؤه حسنَ تدبيره. صعد بذكائه، حتى صار حاجب الخليفة هشام المؤيد، ولقب نفسه بالمنصور، واستبد بالحكم، وحجب الخليفة، وأبقى على الشكل الشرعي للخلافة. وفي كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" ذكر محمد عبد الله عنان أن المنصور كان عبقرية فذة، تمثل ذروة النبوغ الشعبي، والطموح الفردي".

وذكر المستشرق الهولندي رينهرت دوزي في كتابه "المسلمون في الأندلس"، (الجزء الثاني، ترجمة حسن حبشي) أن المنصور رجل فذّ من نواحٍ عدة، وكانت النصارى "ترجف لذكر اسمه"، وفي زمنه بلغت الأندلس "من القوة درجة لم تتهيأ لها أبداً من قبل حتى ولا زمن عبد الرحمن الناصر". وسجل أن وسائل استيلائه على السلطة "قد تجرمه وتدينه إلا أنه يجب الاعتراف بشرف سيرته ونبل خطته حينما استتب له الأمر، ولو كان القدر أتاح له أن يولد في مهاد الملوكية لما أسرف الناس في لومه إلى هذا الحد على ما اقترفه من الأعمال، ولربما عدّوه إذ ذاك أحد الأمراء العظام الذين يبجلهم التاريخ".

غلاف كتاب "المسلمون في الأندلس"

بعد المنصور تولى الحجابةَ (رئاسة الوزراء) ابنُه عبد الملك الملقب بالمظفر، حتى عام 1008. وخلفه أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول، وهو دون العشرين، يفتقد حكمة أبيه وأخيه، وارتكب حماقة الطمع في أن يصير وليّاً لعهد الخليفة هشام المؤيد، فأغضب الأمويين وأهل قرطبة، يذعنون لتجميد دور الخليفة، ويرفضون خليفة من خارج البيت الأموي.

ثار محمد بن هشام، حفيد الناصر، واستولى على قصر الخلافة، وضمن لهشام المؤيد حياته بشرط أن يقيل شنجول، وأن يتنازل عن حقه في الخلافة. وأعلن محمد بن هشام نفسه خليفة، وحمل لقب المهدي، وتخلى الناس عن شنجول، وقُبض عليه، وضُرب عنقه في الرابع من آذار/مارس 1009، وصُلِب.

غرق المهدي في الفساد والدماء، فأطلق عليه الناس لقب السكير. وفي الشهر الثاني لحكمه أمر بحمل جثة رجل شبيه بهشام المؤيد، الأسير المخلوع، وأعلن وفاته، ودفنه بما يليق بخليفة سابق. وتمادى المهدي فسجن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فثار هشام بن سليمان وجمع الآلاف من المقاتلين، وبويع بالخلافة وحمل لقب الرشيد، فسارع المهدى إلى إخراج سليمان من السجن. ولم يقنع هشام الرشيد، وأرسل إلى المهدي يطالبه بالتنازل عن الخلافة. وتحايل المهدي، وثارت الفوضى، وأُسِر هشام الرشيد وأبوه سليمان، وأمر المهدي بقطع رأسيهما.

توالت إطاحة رؤوس الخلفاء والطامعين في الخلافة. وعلى الغدر والخيانة تعاون الحاقدون والمشتاقون، وتدفّقت الدماء من الأعناق فأغرقت الساحات. بعد قتل المهدي لهشام وأبيه ثار البربر، وبحثوا عن حفيد لعبد الرحمن الناصر، لتأكيد شرعية تمردهم على المهدي، واختاروا سليمان بن الحكم، وهو ابن أخ لهشام الرشيد، واتخذ لقب المستعين. ذهب البربر إلى كونت قشتالة، لينصرهم على المهدي، فوجدوا رسل المهدي هناك يقدمون العطايا، ويعدون الكونت بالتنازل عن قلاع وحصون، إذا ساعدهم على هزيمة سليمان المستعين. لكن سليمان دخل العاصمة قرطبة، بعد قتال راح ضحيته نحو عشرة آلاف. وهرب المهدي.

من المنصور إلى المعتضد لم يقتصر القتل على الابن. ما أكثر الدماء في الأندلس. كثيراً ما تشهد الدول، بعد القبضة القوية، انفجارات لا يسيطر عليها خلفٌ يفتقدون عبقرية الدكتاتور المؤسس

عاد المهدي إلى قرطبة محاطاً بأنصار مسلمين ومسيحيين، وبايعه هشام المؤيد، وكان المهدي قد أعلن موته. وهرب سليمان المستعين. واستمرت الحرب بين البربر والمهدي الذي ضاق الناس بجرائمه، فأخرجوا هشامَ المؤيد وأعادوه إلى الخلافة، وقتلوا المهدي أمامه، وطافوا برأس المهدي في الشوارع. وأرسل حاجب هشام رأس المهدي إلى سليمان المستعين، وطالبه بالدخول في طاعة الخليفة. تمسك البربر بخلافة سليمان المستعين، وانتصروا على أهل قرطبة؛ فدخلها المستعين وحمل لقبا ثانيا هو الظافر بحول الله. وجاءوا بهشام المؤيد، واعتذر لسيلمان، وخلع نفسه من الخلافة.

قويت شوكة البربر أنصار سليمان المستعين، فطمع زعيمهم علي بن حمود في الخلافة، وبيده قتل المستعينَ وأخاه وأباه، وأعلن نفسه خليفة وتلقب بالناصر لدين الله. وتعالت دعوة التمرد والمناداة بخليفة من أحفاد عبد الرحمن الناصر، فكان الخليفة عبد الرحمن المرتضى. وتم التخلص من علي بن حمود فقتلوه في الحمام. وبعد معركة طاحنة هرب المرتضى ولاحقوه بالقتل. ودخل القاسم بن حمود قرطبة، ونادي لنفسه بالخلافة وتلقب بالمأمون. ونافسه يحيى بن أخيه، وتلقب بالمعتلي. ثم عادت الخلافة للبيت الأموي، عام 1018 ميلادي، بولاية عبد الرحمن المستظهر، وكان أديباً شاعراً، واختار الإمامَ ابن حزم وزيراً. واستمرت ولايته سبعة وأربعين يوماً. وثاروا عليه، فتجرد من ثيابه وهرب، واختبأ في موقد حمام، وسُبيت نساؤه.

تعبتُ والله من الدماء، أريد التوقف عند الخليفة التالي، محمد الملقب بالمستكفي. بويع في كانون الثاني/يناير 1024، وأمر بالبحث عن ابن عمه المستظهر، وجاءوا به من مخبئه في الحمام وقتلوه، فتهلل وجه المستكفي، كما أمر بخنق ابن عمه محمد العراقي، وسجن ابن حزم، واضطهد البارزين من الساسة القدامى والمفكرين. وفي العام التالي، دارت عليه الدائرة، وهرب في ثياب النساء بين امرأتين. نهاية تخلو من الكرامة. ولم يبق للمستكفي ذكر إلا أنه والد الشاعرة ولادة.

الحكم؟ بئس الشهوة، رحم الله الإمام الحسن ورحمنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image