الجدل حول طقوس عاشوراء، لا ينقطع ولا ينتهي. هو جدل يتجدد كل عام، بمناسبة ومن دون مناسبة، فالطقوس العاشورائية هذه محط جدل سنّي شيعي، وشيعي شيعي. تختلف الروايات الشيعية في نشأتها؛ فمنهم من يعيد بدايتها مباشرةً إلى واقعة كربلاء ومقتل الحسين بن علي، على يد جيش يزيد بن معاوية، ويؤكد أن نساء آل الحسين هنّ من ابتدأنها حزناً على الضحايا، ومنهم من ينسبها إلى بداية نشأة الدويلات الشيعية وأبرزها دولة البويهيين، ودولة الصفويين، إذ حملتا معهما إحياءات رسميةً لهذه المناسبة وهذه الطقوس، في فارس والعراق، بالإضافة إلى دولة الفاطميين في مصر، والحمدانيين في حلب.
أول الطقوس تاريخياً… العهد البويهي
شكّلت واقعة كربلاء ذاكرة الطائفة الشيعية، وأعطت الجماعة ماضياً مشتركاً ورسّخته في التاريخ، كما وُلدت معها سلسلة من الطقوس التي تشكل خصوصية العقيدة الشيعية الإمامية. وكانت إقامة الشعائر بمناسبة استشهاد الحسين، تتخذ أشكالاً متعددةً حوالي بداية القرن العشرين، نتجت من تطوّر تقاليد قديمة كانت منتشرةً لدى المسلمين من مختلف الطوائف. وتم إحياء هذه التقاليد منذ عهد الصفويين (1501-1722م)، وأضيفت إليها أعمال الشبيه، أي تمثيل الفاجعة على صورة موكب.
وبذلك تصبح الشعائر الكبرى التي تطورت عبر العصور لدى الشيعة بمناسبة ذكرى عاشوراء، أربعةً: مجالس العزاء أو التعزية، وزيارة قبر الحسين لا سيما في العاشر من محرم وفي الأربعين، والمواكب الحسينية، وأعمال الشبيه، وقد تُرافق المجالس والمواكب أعمال مختلفة من أذى النفس، تتراوح بين ضرب الصدر باليد، أو ما يُسمّى باللطم، وضرب الظهر بالسوط، أو ما يسمّى بالتطبير.
وكان انتشار هذه الشعائر يزيد أو ينقص، وتتعدد صوره وتختلف بحسب اختلاف المناطق في العالم الشيعي، وذلك بحسب ما ذكرت المستشرقة الفرنسية صابرينا ميرڤان، في كتابها "حركة الإصلاح الشيعي علماء جبل عامل وأدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية استقلال لبنان".
يتجدد الجدل حول طقوس عاشوراء كل عام، جدل سنّي شيعي، وشيعي شيعي. إذ تختلف روايات نشأتها؛ فمنهم من يعيد بدايتها مباشرةً إلى واقعة كربلاء ومقتل الحسين بن علي، ومنهم من ينسبها إلى بداية نشأة الدويلات الشيعية وأبرزها دولة البويهيين، ودولة الصفويين
وتروي المستشرقة الفرنسية، أن "مجالس العزاء أول ما ظهر من هذه الشعائر، فقد أعادتها بعض السنن إلى يوم الفاجعة نفسه، إذ بدأت بها نساء آل الحسين قبل اقتيادهنّ إلى دمشق. ثم توبعت هذه المجالس في العهد الأموي، سرّاً في البيوت، ثم أقيمت في العهد العباسي علناً، فقد أقيمت في القرن العاشر الميلادي في أماكن في بغداد وحلب والقاهرة يجتمع فيها الناس خصيصاً لإقامة هذه المجالس التي سُمّيت بالحسينيات؛ وكانوا يبكون فيها وينتحبون وينشدون المراثي ويقرأون المقاتل. وقد أصبحت مجالس العزاء تقام بعد ذلك طوال الأيام العشرة الأولى من شهر محرم".
أما زيارة قبر الحسين وقبور شهداء كربلاء، فكانت شائعةً في القرون الإسلامية الوسطى، والدليل على ذلك أن الخليفة العباسي المتوكل (تـ861م)، أراد أن يضع لها حدّاً سنة 850م، فهدم قبر الحسين. بعد ذلك تعاظم أمر هذه الزيارات شيئاً فشيئاً، لا سيما في عهد الصفويين. أما المواكب الحسينية، فإن المؤرخ ابن الأثير (1233م)، فيعيد تاريخها إلى سنة 963م، ويقول إن معزّ الدولة، أول البويهيين، قد أعلن الحداد على الحسين في يوم عاشوراء من تلك السنة، ومنذ ذلك الحين بدأ الشيعة بالطواف في شوارع بغداد في مواكب كانت سبباً للصدام مع السنّة.
وبالانتقال إلى أعمال التشبيه، فقد بدأ بها الصفويون بعد ذلك بكثير، في القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك بحسب ما جاء في كتاب ميرفان سابق الذكر، حيث تروي أن "أعمال التشبيه تُنسب في التقليد الشعبي الفارسي إلى الشاه إسماعيل، أول الصفويين، بهدف نشر المذهب الاثني عشري في بلاد فارس؛ وكان الشاه عباس بعده يحثّ على إقامة هذه الاحتفالات. ثم جاء القاجاريون بعدهم فتابعوا نهجهم؛ وأقاموا ورعوا، بدلاً من المشاهد الموزّعة، مسرحيةً فعليةً تُمثَّل على خشبة المسرح، إلا أن ذلك اقتصر حينها على بلاد فارس".
وتضيف: "أما الشعائر التي تقوم على أذى النفس، والتي كانت معروفةً قديماً في العقائد السائدة في الشرق الأوسط، فإنها لم ترافق شعائر عاشوراء إلا في زمن متأخر. ويؤكد إسحاق نقاش، بالبرهان المقنع، أن شيعة شمال إيران أوّل من بدأ بممارسة التطبير، وقد شهد على ذلك رحّالة عثماني، إذ يذكر أنه رأى سنة 1640م، هذه الشعائر الدامية؛ وقد أتت من القوقاز وأذربيجان، ولم تصل إلى داخل إيران وإلى البلاد العربية إلا في القرن التاسع عشر".
المستشرقة الفرنسية عادت أيضاً لنقل ما سجّله عدد كبير من الرحالة حول مشاهداتهم الدقيقة لإقامة شعائر عاشوراء في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم في إيران، "حيث كان الاحتفال بذكرى موقعة كربلاء ينتشر بلا عناء في عهدي الصفويين والقاجاريين، وكانت الحماسة تصل إلى أقصاها في اليوم العاشر، يوم عاشوراء، حين تسيل دماء اللاطمين في حمأة الموكب. وفي ما خلا مجالس العزاء وأعمال الشبيه والزيارة، كانت تسير المواكب الحسينية، وكان بعض المشاركين فيها يؤدون الشعائر القائمة على أذى النفس تكفيراً عن ذنوبهم، وهم من وصفهم الكونت دوغوبينو، سنة 1866، بالبرابرة الذين يسوطون أنفسهم بسلاسل الحديد ويغرزون الإبر في أجسادهم. وجاء أوجين أوبين، بعده بأربعين سنةً، فأظهرت روايته شعائر أخرى في أذى النفس، إذ كان التوّابون يلطمون صدورهم بإيقاع متكرر قوي، أو يجرحون رؤوسهم قبل أن يسيروا في الموكب، ويضربون على الجرح حتى تسيل الدماء".
وترى ميرفان، في كتابها، أن أعمال التشبيه التي بدأها الصفويون أحرزت نجاحاً باهراً، وكان تكاثر الروايات حول مصرع الحسين وما يرافقه من طقوس مختلفة، شاهداً على حيوية هذا المسرح الديني الذي انتشر في المدن وفي الريف، ثم نُظّم ودُعم من حكومات الملوك القاجاريين في المدن الكبرى، واستعملوه في تثبيت حكمهم، وكانوا بتنظيمهم هذا الاحتفال يتمكّنون من السيطرة على الشعب والتأثير عليه.
وتضيف أنه "بعد عهد ناصر الدین شاه، انقلبت أداة الترويج هذه، أي تمثيل فاجعة كربلاء، على الحكام واستعملها المعارضون وأنصار الدستور في ترويج أفكارهم، فما كان من رضا شاه بهلوي، إلا أن منع إقامتها سنة 1935، ولكنه لم يستطع محوها، إذ أصبحت تقام في الأرياف".
الصفويون والتشيّع الجديد
هذه التغيرات التاريخية المفصلية على طقوس عاشوراء، كان هدف الصفويين منها، كسب الطاعة غير المباشرة، عن طريق السيطرة على الشيعة باسم ثورة الحسين والمظلومية بهدف خلق أيديولوجيا تخدم مصالحهم ونفوذهم، إذ يرى المستشرق والدكتور في الفلسفة الإسلامية كولن تيرنر، في كتابه "التشيع والتحول في العصر الصفوي"، أن "الصفويين أرادوا أن يبدعوا فكراً شيعيّاً جديداً، تناقلته الأجيال باعتباره فكراً أصيلاً"، حيث يروي في كتابه "كيف قامت الدولة الصفوية بدايةً من دخول إسماعيل القائد الصفوي، تبريز سنة 1502م، وتنصيب نفسه شاهاً، واعتماده التشيع مذهباً رسميّاً للبلاد حيث يكشف عن خطّة إستراتيجيّة في بسط النّفوذ وتحقيق الهيمنة السّياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة".
بحسب مستشرقة فرنسية فقد ظهرت مجالس العزاء أول مرة يوم الفاجعة نفسه، وبدأتها نساء آل الحسين قبل اقتيادهنّ إلى دمشق. ثم استمرت سراً في العهد الأموي، وعلناً في العهد العباسي
ويواجه الباحث أقوال نور الله الشوشتري، الذي "بذل قصارى جهده لإثبات أنّ إيران كانت إماميةً بمعظمها قبل الصفويين، والحال أنّ إيران كانت في معظمها سنّيةً صوفيةً، حتّى أنّ إسماعيل عجز بعد فتحه، عن العثور على أيّ مدوّنة عن المبادىء العامة للإمامية ما عدا مخطوطة يتيمة في الفقه كانت في مكتبة نائية".
وركّز كولن تيرنر، على دور الشيخ علي الكركي العاملي، في نشر المذهب الإمامي في إيران في عصر إسماعيل الصفوي، وتحصّل الكركي على امتيازات وعقارات بسبب ولائه المطلق للصفويين، كما قمع التسنّن وفرض التشهير المذهبي بالخلفاء الراشدين الأوائل، كما جاء في الكتاب.
كما اختار كولن تيرنر، أن يهتمّ في الفصل الرابع بمحمّد باقر المجلسي، صاحب كتاب "بحار الأنوار" الذي يُعدّ من أساسيات التقليد الشيعي، وهو من أبرز فقهاء الإمامية في آخر العصر الصفوي، ومؤسس الأرثوذكسية الجديدة، حيث اهتمّ الصفويون بالعجيب والغريب من الروايات، وأدخلوا تقاليد اللطم والتطبير، وشجّعوا على سبّ الخلفاء والصحابة وزوجات الرسول، وكفّروا أهل السنّة وأرباب التصوّف.
وزارة الشعائر الحسينية
في المقابل، يرى الدكتور والمفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي"، أن "الطقوس العاشورائية الحالية ناتجة عن الارتباط بين الصفوية والمسيحية، حيث تضامن الاثنان لمواجهة الإمبراطورية الإسلامية العظمى التي شكلت خطراً جدياً على أوروبا، وفي هذا الإطار عمد الشاه الصفوي، إلى استرضاء المسيحيين من خلال دعوتهم للهجرة إلى إيران، وشيّد لهم 'جلفا' مدينة مستقلة قرب العاصمة ومنحهم الحماية التامة والحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم الدينية".
ومن جهته، يرى شريعتي أن "رجال الدين الصفويين سعوا إلى تجميل صورة بعض الشخصيات المسيحية وإقحامها في المشاهد التمثيلية التي تقام إحياءً لذكرى عاشوراء، من ذلك أن رجلاً كرواتياً يحضر أحد هذه المشاهد فيتأثر فيقتحم المكان ببدلته الأنيقة ويهاجم معسكر يزيد وأنصاره ويواسي الحاضرين بأجمل مواساة، بحيث ما أن يراه الناظر حتى يتيقن بأن كلب هذا المسيحي الإفرنجي أطهر من 'السنّة' الذين قتلوا الحسين".
وبحسب ما ورد في كتابه، فإن "الصفويين استحدثوا منصباً وزارياً جديداً باسم وزير الشعائر الحسينية، حيث ذهب الوزير إلى أوروبا الشرقية وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعةً حول المراسيم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتّبعة، بما في ذلك أنماط الديكورات التي كانت تُزيَّن بها الكنائس في تلك المناسبات واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران".
"ومن هذه المراسم أيضاً طريقة تمثيل حياة شهداء الحركة المسيحية الأوائل وإظهار مظلوميتهم وطريقة قتلهم بواسطة حكّام الجور كل ذلك تحت عنوان Passions، حيث أصبحت جزءاً من الهوية الشيعية، كما أن مراسيم اللطم والزنجيل والتطبير وحمل الأقفال ما زالت تمارس سنوياً في ذكرى استشهاد المسيح في منطقة Lourder، وهذه المراسيم دخيلة على المذهب كما أن هنا ممارسات أُدخلت على عاشوراء مماثلة لطقوس الرجال السبعة mysteres 7 (الميراكل Miracles)، التي تعتمد علة تشييع رمزي لنعش عيسى مصلوباً وهبوطه وعروجه ونحو ذلك".
"أما النوائح التي تؤدّى بشكل جماعي فهي تجسيد دقيق لمراسيم مشابهة تؤدّى في الكنائس ويطلَق عليها اسم 'كر'، كما أن الستائر ذات اللون الأسود التي توشَّح بها أبواب وأعمدة المساجد والتكايا والحسينيات هي مرآة عاكسة بالضبط لستائر الكنيسة".
البداية من لبنان
كان لا بدّ من وضع بداية تمهيدية لشيوع طقوس عاشوراء عند الشيعة، وذلك لسرد بداية هذه الطقوس في جبل عامل، الذي كان مركز شيوعها الأساسي، حتى وصلت إلى عهدنا الحالي، حيث مرّت المناطق الشيعية المختلفة بمراحل زمنية محددة بحسب العلاقات والأنظمة الاجتماعية السائدة فيها، وتنوعت وتبدلت أماكن إقامة الشعائر الحسينية من "التكيات" و"الحسينيات"، بالإضافة إلى البيوت والمساجد والمقامات والمقابر. كتب السيّد محسن الأمين في "خطط جبل عامل"، أن "الحسينيات بمثابة تكيات منسوبة إلى الإمام الحسين، لأنها تُبنى لإقامة مراسم عزائه فيها، وأن أصلها جاء من الإيرانيين والهنود الذين بنوها في بلادهم وفي العراق أيضاً. وأورد أن الحسينية لم تكن معروفةً سابقاً في جبل عامل، فالتجمعات تقام في المساجد وهي أفضل".
ومن جهته، يرى شريعتي أن "رجال الدين الصفويين سعوا إلى تجميل صورة بعض الشخصيات المسيحية وإقحامها في المشاهد التمثيلية التي تقام إحياءً لذكرى عاشوراء،
يؤيد هذا الكلام الشيخ ياسر عودة، خلال حديثه إلى رصيف22، إذ يرى أن "الحسينيات بدأت عند الشيعة في العهد الصفوي، والمؤسس لها هم الفاطميون قبل الصفويين، وهم أصحاب فكرة إنشاء المراقد لتكريس الفكر الديني الذي يريدونه ولترويج السياحة".
جاء في "خطط جبل عامل" أن الحسينيات بمثابة تكيات منسوبة إلى الإمام الحسين، وأن أصلها جاء من الإيرانيين والهنود الذين بنوها في بلادهم وفي العراق أيضاً، وأن الحسينية لم تكن معروفةً سابقاً في جبل عامل، لأن التجمعات كانت تقام في المساجد
ويقول عودة: "هناك فارق زمني كبير بين العهدين البويهي والصفوي، ففي عهد الصفويين أُدخل على الدين الكثير من المفاهيم وأكثرها أحاديث لعن الصحابة المنسوبة إلى أهل البيت. العقل البويهي أنتج الكثير من القضايا التي شوّهت التشيّع ومنها الشتم واللعن".
الاضطهاد وبداية عاشوراء في لبنان
وبالعودة إلى جبل عامل (أي مناطق جنوب لبنان)، أولى الشهادات المكتوبة التي وصلتنا حول احتفالات عاشوراء فيه، أتت من جون ورتابيه، سنة 1860. فهو يصف في بضعة أسطر مقتضبة، ما كان يجري من احتفالات في ذلك الحين: يقضي المتاولة الأيام العشرة الأولى من شهر محرم في حداد وبكاء، على ذكرى مقتل الحسين، ويقرأون في هذه الأيام روايةً طويلةً مؤثرةً ويكفّون عن العمل. ويسمّونها الأيام العشرة، وكانت إقامة الشعائر في تلك الحقبة مقتصرةً إذاً على مجالس العزاء. وما ينقله التاريخ الشفهي عنها، أنها كانت تقام في السرّ. فالروايات المتناقَلة إلى اليوم، تقول إن العامليين كانوا يقيمون هذه المجالس في بيوتهم لكي يختفوا عن أنظار العثمانيين، الذين منعوا إقامتها في العلن، بحسب ما نقلت المستشرقة الفرنسية في كتابها "حركة الإصلاح الشيعي علماء جبل عامل و أدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية استقلال لبنان".
تروي ميرفان: "كان الجنود يقومون بدوريات لرصد ما قد يقوم به الشيعة من احتفالات دينية؛ وكان الناس يوقفون أولاداً في الأزقّة يراقبون مرورهم فينذرون المجتمعين. فإذا ما دخل الجنود عليهم، وجدوهم يشربون الشاي أو يقرأون القرآن".
ووثّقت ميرفان حول تاريخ هذه الشعائر، نقلاً عن السيد محسن الأمين في سيرته، "أن المجالس كانت تقام في عهد طفولته، أي في ما يعود إلى العقد الثامن من القرن التاسع عشر. وكان يُقرأ في أثناء الليالي العشر الأولى من محرم، في كتاب ضخم مؤلّفه من البحرين واسمه المجالس، وفيه عشرة فصول طويلة، كل فصل مخصص لمجلس".
ويلاحظ الأمين أن في هذا الكتاب تشويهاً للتاريخ، وأحاديث مكذوبةً أشبه بالأساطير. ومع ذلك فإنه كان مقدّراً عند الناس في جبل عامل. حتى أنه يقول: "والسعادة العظمى لمن يحظى بهذا الكتاب أو يملكه، ولم تكن هذه المجالس تخضع لنظام احتفالي فقد كان المشاركون فيها يدخّنون ويتحادثون كما لو أنهم كانوا في مقهى حول الراوي. كذلك فإنها لم تكن مطردةً ولا منظمةً. أما في اليوم العاشر، يوم مقتل الحسين، فإن هذه العادة تُكسر ويُقرأ في مقتل أبي مخنف (تـ774م)، وهو من المؤرخين الأوائل في تاريخ الإسلام، ثم يُتلى دعاء زيارة قبر الحسين، فإن لم يكن بالإمكان زيارة كربلاء يوم عاشوراء فإن تلاوة هذا الدعاء على غير قبره واجبة. ثم كان يؤتى بالطعام إلى المساجد وفي الغالب يكون من الهريسة، وهي طعام خاص بيوم عاشوراء مؤلّف من القمح واللحم يوزّع على الفقراء".
وفي عام 1880، بعد عودته من العراق، جاء الشيخ موسى شرارة، بتغييرات كثيرة على هذه العادات، كانت بحسب ما يقول محسن الأمين: "مبدأ الإصلاح لمجالس العزاء"، وأول ما قام به من عمل، هو أنه بدّل الكتب المستعملة في المجالس، فاستبدلها بكتاب أتى به من العراق، كان قد جمع نصوصه أحد قرّاء التعزية، فنسخ منه العديد من النسخ ووُزّعت في جبل عامل. ومع أن في هذا الكتاب الجديد في رأي محسن الأمين، جملةً من الأكاذيب، وتزويراً للتاريخ الصحيح، فإنه كان أصلح مما كان قبله ومجالسه أكثر تنظيماً. واستبدل موسى شرارة مقتل أبي مخنف، بمقتل ابن طاووس، اتّباعاً لما كان سائداً في العراق وإيران، واتّبعه الناس في ذلك، بحسب ميرفان.
يرى علي شريعتي أن الطقوس العاشورائية الحالية ناتجة عن الارتباط بين الصفوية والمسيحية، إذ تضامن الاثنان لمواجهة الإمبراطورية الإسلامية العظمى التي شكلت خطراً جدياً على أوروبا
ولم يكتفِ موسى شرارة، بتوطيد قراءة المجالس في الأيام العشرة الأولى من محرم احتفالاً بذكرى فاجعة كربلاء، بل أسس لغيرها على مثالها على مدار السنة. فأقام مجالس أسبوعيةً في بيته، بالإضافة إلى ذلك، أدخل عادات جديدةً في الدفن، فأقام مجالس الفاتحة عن أرواح العلماء والشخصيات الكبرى تُقرأ فيها المرائي. وقد شجّع رجال الدين والأدباء على نظم المراثي لقراءتها في هذه المناسبات. وقد اتّبعه الشعراء في ذلك وانتشر هذا التقليد في جبل عامل. كذلك فإنه منع النساء من السير وراء الجنازة، وسنّ لأهل بلدته بنت جبيل، عادة عمل الطعام عن روح الميت ثلاثة أيام.
وتؤكد المستشرقة الفرنسية: "وبذلك يكون موسى شرارة قد قام بتنظيم مجالس العزاء وإحيائها" (وهي اللفظة التي يستعملها محسن الأمين)، فبات القارئ يتلو نص رواية المعركة في كربلاء واستشهاد الحسين على الجماعة، فينوحون ويبكون على ما حلّ بأهل البيت، كما أنه وسّع نطاق الشعائر المتصلة بالاحتفال باستشهاد الحسين، ولم يكن بالإمكان اعتبار هذا الإصلاح القائم على إدخال عناصر خارجية جديدة، من باب البدع القبيحة، بل من باب البدع الحسنة، ولا سيما أن من أدخلها مجتهد مشهود له بالعلم والاستقامة".
تحريض تجّار إيرانيين على المواكب
ترى المستشرقة الفرنسية خلال توثيقها حركة الإصلاح الشيعية في كتابها، أن "مجالس العزاء التي أدخلها موسى شرارة طُعّمت بالتمثيليات المسرحية وبالمواكب الحسينية على الطريقة الإيرانية، بتحريض من إيرانيين كانوا قد استقروا في جبل عامل من فترة وجيزة. وبالفعل، نزلت في جبل عامل خلال القرن التاسع عشر جماعة من الإيرانيين معظمهم من التجار، وقد تأقلموا شيئاً فشيئاً، ولم يكونوا تياراً من الهجرة ذا أهمية كبرى، بل حالات من الأسر المنفردة، وكان من بينهم ميرزا يمارس الطب التقليدي وكان يُعدّ واحداً من أدباء النبطية المقربين من أحمد رضا وسليمان ظاهر. وكان ابنه بهيج، أول من درس الطب من العامليين في الجامعة الأمريكية في بيروت. وقد كان للأب والابن دور في إدخال هذه الشعائر على مرحلتين، بفارق يناهز العشرين سنةً".
وتوثّق عن السيد محسن الأمين: "يذكر محسن الأمين المرحلة الأولى منهما، وقد حدثت بعد عودة حسن يوسف مكي من العراق، أي نحو سنة 1895. فقد قام بعض الإيرانيين في ذكرى عاشوراء بممارسة الشعائر على الطريقة الإيرانية، ولاسيما منها 'الشبيه' أي تمثيل الفاجعة. وقد منع حسن يوسف مكي استعادتها ثانيةً لحكمه بأنها خارجة على الشرع، مستعيناً على ذلك بالقائمقام في صيدا. إلا أن الإيرانيين تدخّلوا لدى والي بيروت، فأمر القائمقام بالسماح لهم بإقامة هذه الشعائر، أي تمثيل الفاجعة وإقامة الشعائر المتعلقة بأذى النفس. وهكذا استطاع الإيرانيون أن يدخلوا هذه الشعائر إلى النبطية، وما لبث العامليون أن قلّدوهم في إقامتها، وقد تعاظم عددهم، فانتشرت المواكب واستقطبت الجماهير من القرى
المجاورة، ويختم محسن الأمين عرضه بمقارنة هذه المواكب، وكان يُطلق عليها اسم المواكب الحسينية، بحلقات الذكر الصوفية، مما يعني أنه كان يشجب هذين العملين على حد سواء".
و"تأصّل" هذا التطعيم الشعائري في النبطية، وكانت الشعائر تقام فيها على الطريقة الإيرانية، وباللغة الإيرانية. بعد وفاة حسن يوسف مكي، سنة 1906، خلفه عبد الحسين صادق، على الرياسة الدينية في النبطية، فترك الحرية للناس في إقامة هذه الشعائر، بل شجّع على إقامتها وشارك في إعادة تصميمها على أن من العلماء من كان يعارضها، فكان بعضهم يبدون مقاومةً لهذه الشعائر الجديدة، بحسب ميرفان التي تؤكد في كتابها أن "المرحلة الثانية من هذا التطعيم الشعائري بدأت سنة 1919، على أغلب الظن، وكان الفتى بهيج میرزا قد أنهى دراسته في الطب، وعاد إلى النبطية حيث كان أحد صانعي عودة هذه الشعائر الإيرانية".
ثورة "التنزيه"
لم يقف السيد محسن الأمين، صامتاً من هذه الطقوس التي نشرها الإيرانيون في جبل عامل "جنوب لبنان"، فقد ألّف رسالة "ثورة التنزيه" في شهر محرم سنة 1346هـ، كثورة إصلاحية لعاشوراء مما دخلها من طقوس ومنها الصياح والزعيق بالأصوات المنكرة القبيحة، وكل ما هو دخيل عليها. وقد ذكر السيّد الأمين تسعة إشكالات على الشعائر الحسينية، هي: "الكذب بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها وعدم وجودها في خبر ولا نقلها في كتاب، التلحين بالغناء الذي قام الإجماع على تأييده، إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها، استعمال آلات اللهو كالطبل والزمر والصنوج النحاسية، تشبيه الرجال بالنساء في وقت التمثيل، إركاب النساء الهوادج مكشفات الوجوه وتشبيههنّ ببنات الرسول، الصياح والزعيق بالأصوات المنكرة القبيحة، وكلّ ما يوجب الهتك والشنعة مما لا يدخل تحت الحصر".
ثورة الأمين أحدثت ردود أفعال وصلت إلى الاعتداءات الجسدية على مناصري هذه الثورة، حيث جاء في الجزء الأول من "رسالة التنزيه": "يذكر الشيخ محمد الحسون الذي جمع وحقق رسالة التنزيه بأجزائها الثلاثة أنه ما أن وصلت الرسالة إلى النجف الأشرف حتى انقسم الكتّاب فيها إلى معارضين، وهم الأكثر، ومؤيدين وهم القلة القليلة، حتى أتت ردود الأفعال من مراجع دينية ومختلف طبقات المجتمع حتى تضمنها السبّ واللعن".
دور الصحف في الثورة
ولم تقف الصحف موقف المحايد من هذه الثورة بحسب ما ورد في "رسالة التنزيه": "فكانت الشرارة الأولى لهذه الحركة الإصلاحية، حيث قامت صحيفتا 'الأوقات العراقية' و'العهد الجديد' البيروتية، بنشر آراء السيد محمد مهدي الموسوي البصري والسيد محسن الأمين، والمؤيدون للسيّد الأمين لجأوا إلى الصحف أكثر من المخالفين له، لأنهم القلة القليلة، وقد سُدّت الأبواب في وجوههم، فكتبوا فيها حتى أن البعض منهم كتب بأسماء مستعارة كـ'حبيب بن مظاهر' و'أبي فراس'".
رفض السيد محسن الأمين الطقوس التي نشرها الإيرانيون في جبل عامل جنوب لبنان، فألّف رسالة "ثورة التنزيه" 1346هـ، كثورة إصلاحية لعاشوراء مما دخلها من طقوس كالصياح والزعيق بالأصوات المنكرة القبيحة، وكل ما هو دخيل عليها
ويقول جامع الرسالة الشيخ محمد حسون، إنه "كان أيضاً لصحيفة 'ديوائن ميسج'، التي كانت تصدر باللغة الإنكليزية في الهند، دور كبير وقد كتب صاحبها 'محمد علي سالمين' مقالات عديدةً مؤيدةً للسيد الأمين، وترجم بعضها إلى العربية، وصحيفة 'الهاتف'، وإن كانت صدرت متأخّرةً عن زمان الفتوى، إلا أن صاحبها الأستاذ جعفر الخليلي، كان له دور فعّال في مناصرة السيد الأمين".
شيعة صفويون وشيعة علويون!
"لم تقتصر ردة الفعل على الشتائم واللعن والاضطهاد بل انقسم الناس إلى طائفتين؛ 'علويين' و'أمويين'، وعُني بالأمويين أتباع السيّد محسن الأمين، وكانوا قلةً قليلةً لا يُعتدّ بها، وأكثرهم كانوا متسترين خوفاً من الأذى"، كما جاء في الرسالة.
ومن الصحافة إلى الشعر الذي كان له دور كبير، صيغت أبيات ردّاً على ما كان ينشده لاطمو الصدور وضاربو الرؤوس وهم يجولون في شوارع النبطية، مما لقنهم إياه مهاجمو الحركة الإصلاحية، حيث أوردت منها الرسالة:
"لعن الله أناساً
حرموا ندب الحسين".
فكان الردّ الشعري:
"عدّ الله أناساً قولهم كذب ومـيـن
ألصقوا بالدين مما قد أتــــوه كــل شــين
أظهروا للدين حباً وهو حب الدرهمين".
وتسرد الرسالة في تلك الحقبة أنه "كان للمجالس العاشورائية في النبطية دور كبير في هذه الجدلية، حيث راح سقاة الماء يجولون في مأتم الحسين يوم عاشوراء ينادون مردّدين: 'لعن الله الأمين - ماء'، بينما كان نداؤهم من قبل يتلخص في ترديدهم القول: 'لعن الله حرملة - ماء'، فأبدلوا حرملة بـ'الأمين' نكايةً وشتماً".
ومن الشعراء الخطباء الذين كان لهم دور بارز في هذه الأحداث، الشاعر الكبير والخطيب المفوّه السيد صالح الحلي (تـ1359هـ)، الذي وقف موقفاً معارضاً بل معادياً ومعانداً للسيد الأمين، ومما قاله فيه بحسب ما جاء في الجزء الأول من "رسالة التنزيه": "يا راكباً أما مررت بـ'جلّق' فأبصق بوجه 'أمينها' المتزندق".
الأمين إلى دمشق ومنع الطقوس في مقام السيدة زينب
هذه الحرب لم تقتصر على جبل عامل، بل انتقلت إلى دمشق مقر إقامة السيد محسن الأمين، حيث ورد في الجزء الثالث من رسالة التنزيه، أن "دعوة الأمين تطورت من سنة وصوله إلى دمشق في أواخر شعبان من سنة 1319هـ. يقول المؤرخون: لم يمضِ خمسة أشهر على وصوله إلى دمشق وكان قد عرف ما يجري في هذا اليوم في مقام السيدة زينب بضاحية دمشق من لطم الصدور وإدماء الرؤوس فقاطع وجمعاً من مؤيديه هذه الطقوس واكتفى بإقامة حفل تتلى فيه السيرة الحسينية بدمشق".
وفي السنة الثالثة، عزم على منع الاحتفالات بصورتها المزرية الدامية مستعيناً على ذلك بجمهور الدمشقيين المؤيدين له الذين انطلقوا إلى مقام السيدة زينب يخبرون القادمين من الخارج بأن لا احتفالات بعد اليوم على ما كانت تجري عليه، وأن عليهم العودة إلى بلدانهم، فكان الأفراد القادمون يمتثلون لذلك، وهم يرون الشدّة في هذا الكلام والتصميم على تنفيذه بكل وسيلة، بحسب ما جاء في الجزء الثالث من الرسالة.
هذا الجدل لا يزال مستمراً حتى وقتنا الحالي، إذ يرى الشيخ حسن حمادة العاملي، في حديثه إلى رصيف22، أن "موضوع عاشوراء حزن وبكاء على الحسين (ع)، فأول من بكى عليه هو النبي محمد (ص)، وهذا بإجماع جميع المسلمين فكلهم يقول إنه لما وُلد الإمام الحسين (ع)، نعاه رسول الله (ص)، وقبّله في نحره، فسألته السيدة فاطمة الزهراء (ع): لماذا قبّلته في نحره؟ فأجاب النبي (ص): لأنه يُقتل مذبوحاً".
ويضيف: "طبعاً نحن نتحدث عن إقامة العزاء بحيث لا نشوّه الدين أو المذهب، أمّا بخصوص التطبير والنواح فبرأيه يختلف عن موضوع البكاء؛ فإن فقدت عزيزاً أو سمعت بمظلومية شخص ما بطبيعتي أحزن عليه، فما بالك بالإمام الحسين وما جرى عليه في كربلاء؟".
ويتابع: "أنا لا أطبّر، لكنّها مسألة فقهية مختلف عليها بين المراجع في المذهب الجعفري، فمنهم من يقول مستحبّ وآخرون يحرّمون ولا أستطيع أن أعطي رأيي في هذا الموضوع، فأنا لست بفقيه"، مشيراً إلى أن "هناك أموراً أدخلت على الدين من حيث التمثيل واللحن بالقصائد، لكن لا يمكن أن أعمّم بأنها جميعها دخيلة، وفي حال كان هناك شخص ما يشوّه الدين لا يمكن أن نلزمه للمذهب، أما إدخال الموسيقى أي الغناء في القصائد الحسينية ففي حال كان اللحن محرماً، فلا يجوز، أما اللطميات المتعارفة فلا إشكال فيها".
وحول التمثيل في عاشوراء، برأيه هو "موجود وهناك مسلسل عن معاوية. كيف أقبل بهذا الأمر ولا أقبل بتمثيل ما جرى مع الحسين (ع) لتجسيد مظلوميته"، في حين اعتبر أن "الحسينية هي مكان ليجتمع الناس على ذكر أهل البيت (ع)، وإحياء أمرهم والمراد منها إقامة مجالس الحسين (ع)، وفي حال كان هذا المكان تعليمياً وتنويرياً فأين المشكلة؟ وإن كانت بدعة فهي بدعة حسنة ولكن يجب أن تصل رسالة أهل البيت، ولكل مفهوم معنى، وأشك أن يكون السيد محسن الأمين قد نهى عن البكاء على الحسين عليه السلام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه