عندما اعتلى أحد أقاربي المنبر العزائي لإلقاء ما تيسّر عنده من حب الحسين، لم يكن يعلم بأن كلماته المحايدة ستستفزّ بعض الحاضرين ممن يوظفون هذه المناسبة في تجييش جمهورهم. كانت مشاعره خارج سياق سياستهم وولاءاتهم الحزبية وخطابهم المتباهي.
لم يكن هذا الصبي يوماً كما كانت تطلعاتهم المستقبلية له، عاند استدراجهم له للانتماء إلى "قافلة الشهداء"، فلم يكن من مناصري الموت، ولم تكن عاشوراء بالنسبة له ذكرى للانتقام أو محضراً للصراخ على المنابر.
لم يكن الحسين عند هذا الصبي سوى صورة مختلفة تماماً عن واقع فوضوي يحاصرنا اليوم، واقع يبشّر بأن لسيرة كربلاء والحسين نكهة مختلفة عند أولئك الذين يعايرون العالم بأنهم من أنصار الشهادة والمقاومة والتحرير.
أصبحت عاشوراء من كل سنة قيامة متجدّدة لجيل يولد على الخوف وحديث المؤامرة على الشيعة وأسيادها. جيلٌ كامل تطابقت تسمياته ولو اختلفت بين "حسين وحسن وعلي"، الا أن حامل الاسم هذا سيقدّم نفسه يوماً ما على أنه من سلالة أهل البيت والثائر للقصة التي مرّ عليها الزمن وولّى. هذه القصة التي أعادوا صياغاتها مراراً لتكون نسختها مطابقة مع أهدافهم الدموية في المنطقة، فيأتي سردها الدرامي المكثّف بما يخدم مخططاتهم التي تحاصر الكربلائيين في مجالس عاشوراء، وتجعل من أرواحهم "كبش محرقة" يستطيعون تمريره كلما علت أصوات شيعية معارضة.
ساندتُ عاشوراء، وكنت من الباكيات كل سنة في العاشر من محرم، ولطالما كان لـ"هيهات" وقعها الساحر في نفسي وذاتي. كنت أنتظر وداع الحسين لأخيه العباس لأندمج مع دموع الكربلائيين، وكنت من المستمعات للشعر العراقي، من ندب تلك الواقعة بشراسة المحزون على معشوقه، ووضعها في إطارها السامي والبعيد عن الانتقام والتشويش على ما تحمله من معانٍ عادلة.
استنسخوا للإمام الحسين طريقاً يضللون فيها أنصار الحسين من الشيعة، فحذفوا من أقواله كل ما يثير تمرّد أو استنكار من هم قادرون على مواجهة الظلم داخل الطائفة، وأبقوا على كل الروايات التي من شأنها أن تسيطر على عقول الأجيال وتزيدهم جهلاً بالحقيقة
كنت صغيرة لأعرف بأن هذا التعلّق العاشورائي سيزول مع الوقت، وبأن هذا الارتباط الوثيق سيخفّ وهجه ليتحول إلى غضب عميق تجاه من تحكّم بهذا الطقس بقوة الحواجز عند الطرقات، من جعل من "هيهات منا الذلة" مذلّة لكل من عارض الفكر المتطرف.
لم أعد أبارك تلك المجالس، وتوقّفت عن سماعها عندما رأيتهم يقتلون باسم "الحق"، ويرفعون رايات الحسين، لا حبّاً به، بل هرباً من حقيقتهم التي ارتكبت المجازر. كنت أنتظر عاشوراء كالمتفرّجة على اللاطمين، من أحيوا هذه الذكرى بصدورهم العارية وأصواتهم التي تنادي "ألا من ناصر ينصرني". لم ينصروا الحسين في تلك المعركة، الاّ أن من ناصره اليوم لم يتغذّ من عطش عاشوراء وموكب سبايا نساء كربلاء، فساند النظام الإيراني في قتله للفتيات. تلك الفتاة الإيرانية حين تصدّت لوكر المجرم، فخلعت عن رأسها ولاية فقيهه ورفضت التسليم بعمامة القاتل، فكانت كزينب أخت الحسين، من وقفت في محضر يزيد وقالت له: "فمهلاً مهلاً لا تطَش جهلاً".
"أشبال المهدي" في عاشوراء، تلف رؤوسهم عمامة سيّد جنّدهم بأعمار صغيرة لتصويب بندقيته عبرهم، فتدخل مجالسهم لتجد راية صفراء يحميها "أطفال". تلك الراية الصفراء احتلّت منازلنا وقرانا ووضعت تطرفها الديني فوق كل اعتبار. كنت صغيرة لأتبين بأن عاشوراء في مخيلتي ما هي إلا وهم كوهم الشهادة والتضحية، وكل ما عايشته من انتصارات رجال المقاومة في الجنوب باسم الحسين وأهل بيته.
عند رؤيتي لتلك المصاحف القرآنية بأيدي الكربلائيين وهم يهلّلون "لبيك يا قرآن"، شعرت بما هو أقرب إلى الاختناق، وكأن هذه الحادثة في السويد بفعل شخصها الفردي، عزّزت نفوري من أجواء لطالما آذتني بالشخصي وقمعتني، فكانت سبباً في رحيلي عن كل ما هو مألوف لهذه البيئة.
أجواء تهلّل للعنف، وكأن هذا الكتاب في يدي جمهور عاشوراء يهدّد اختلافك وسلامك وقناعاتك التي تعارض المقدّس الديني، فاستبدلوا سيرة الحسين بالتفاعل مع خبرٍ من السويد كان يجب أن يكون عابراً، كما كانت أخبار الإعدامات في إيران بالنسبة لهم.
إلا أن حرق القرآن استطاع هزّ كيانهم، مقابل صبي في عمر الرابعة عشر يقتل في شوارع إيران برصاص شرطة النظام دون أن يحرّك العالم ساكناً. يحدثوننا عن محاسن أخلاق الحسين، يبهروننا بالحسين "الإنسان"، بهذا البطل الذي آمن بالعدل في الأرض ورفض أن يكون عبداً ليموت وهو حرٌ: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً".
استنسخوا للإمام الحسين طريقاً يضللون فيها أنصار الحسين من الشيعة، فحذفوا من أقواله كل ما يثير تمرّد أو استنكار من هم قادرون على مواجهة الظلم داخل الطائفة، وأبقوا على كل الروايات التي من شأنها أن تسيطر على عقول الأجيال وتزيدهم جهلاً بالحقيقة. الحقيقة التي اغتالت كل المعارضين الشيعة، والحقيقة التي نفت أصوات المتحرّرين من قيود الطائفة.
"ما رأيت الا جميلاً". هذه العبارة كانت لزينب أخت الحسين، وهي ما جعلني دائماً أُسقط الجمال على خسارتي وقدري في عاشوراء. روّضت هذه الواقعة وجعي عبر سنين، أمهلتني وصالحتني مع سواد قلبي
أكتب هذا النص وأنا أبحث عن زاوية عاشورائية واحدة أستطيع الثناء عليها، إلا أن من تآمر على هذا الطقس وتباهى بأن هذه المناسبة حكر لخطابه التحريضي وخيمه العاشورائية المسلحة ورجاله المنظّمين فقط للتعدي على الغرباء من خارج الدائرة الحسينية، فما كان مني الا أن أستعيد بيان بلدية قريتي التي تحذّر فيه السوريين من الخروج من منازلهم بعد الساعة الخامسة عصراً لضرورة الأمن الكربلائي.
اعتدنا هكذا أحكام، لكن المؤسف ليس حال السوريين، بل حال هؤلاء الكربلائيين، من طالبوا الدولة السويدية بالاعتذار من دينهم وهم في أضعف أفعالهم، حيث أنهم لا يستطيعون أن يسيطروا على غيظهم في أهم المناسبات لديهم وأرقاها، والتي تنادي برفع الظلم.
كتبت سابقاً عن هذه المناسبة وقد مرّت سنين، تكلّمت عن تواصلي الروحي بعاشوراء والحزن المرتبط بموت أخي، ما كان يجعل من هذا الطقس مصدراً للتنفيس عن ألمي. أتذكر خاتمته: "ما رأيت الا جميلاً". هذه العبارة كانت لزينب أخت الحسين، وهي ما جعلني دائماً أُسقط الجمال على خسارتي وقدري في عاشوراء. روّضت هذه الواقعة وجعي عبر سنين، أمهلتني وصالحتني مع سواد قلبي. خلال هذا الوقت تخطيت ذلك النص، لأجعل خاتمة هذا النص وهذه السنة: "أبحث عن الجميل في كربلاء ولا أراه"، لتصبح عاشوراء نحر الضمير الحسيني عن الحق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...