"فريق الصقور يرحب بكم"، كانت هذه الجملة التي كتبتها ورفاقي في الحارة قبل حوالى 30 عاماً لنعلن عن قبولنا التحدي من أي فريق يرغب بمنافستنا. كانت تلك الجدران مساحتنا للتعبير عن رغبتنا في البحث عن الندية في لعب كرة القدم والخروج من دائرة الاكتفاء باللعب فيما بيننا. حينها كانت الجدران في مدينة الحسكة مساحة للدعاية والإعلان والشعارات السياسية.
عندما دخلت العاصمة دمشق كطالب في قسم الصحافة قبل نحو 22 عاماً، كانت جمل مثل "فتح بلاليع"، أو "لا تبول هنا يا حيوان"، هي الجمل الجديدة التي أضيفت إلى ذاكرتي عما يمكن كتابته على الجدران.
الجدران دفاتر المجانين
لكن الحرب السورية غيرت كثيراً من المفاهيم، وصرنا نسمع بـ "البخاخين"، ومفردها "بخاخ"، والمقصود هنا أشخاصاً نسمع عنهم دون أن نعرف من هم، يقومون بكتابة شعارات سياسية معارضة، ما كان يدفعنا للتساؤل حول مقدار شجاعتهم، وهل القناعات السياسية كافية لتصل بهم إلى حد المغامرة وكتابة مثل هذه الشعارات؟
إنما، ليست الشعارات السياسية وحدها هي التي احتلت جدران دمشق بديلاً لمساحات التعبير الأخرى، فالعشاق لهم جدرانهم أيضاً.
في كثير من المشاهدات، تعبر الكتابة على الجدران عن نوع من التحدي بين عاشق مجهول الهوية لمحبوبته التي تظل هي الأخرى مجهولة الهوية.
الحرب السورية غيّرت كل شيء، فظهرت فئة اسمها "البخاخين"، والمقصود هنا أشخاصاً لا أحد يعرف من هم، يقومون بكتابة شعارات سياسية معارضة على الجدران.
غالباً ما نرسم الكثير من الخيالات حول قصص العشق التي نتجت عنها مثل هذه الجمل، خاصة إذا كانت مكتوبة على جدران المدارس الثانوية الخاصة بالفتيات، إذ تبدو الصورة هناك مرتبطة باثنين من المراهقين وحبهما، لكنها أيضاً تلقى ردات فعل مبالغ فيها باعتبار أن الحب في مثل هذا السن يعد نوعاً من انعدام الأخلاق والطيش.
علاء الخطيب والعالم في خطر
الصحافي السوري علاء الخطيب، أحد الذين يهتمون بتصوير العبارات التي تكتب على الجدران كونها "تثير شهية التوثيق لديه". يقول لرصيف22: "الكتابة على الجدران تعد نوستالجيا جميلة، تعيد التذكير بالكثير من القصص الطريفة. هناك عبارات غريبة أحياناً مثل (فلان الفلاني والعالم في خطر). ولو سألتني شخصياً ما الذي أفضل أن أكتبه، فإني سأختار أولاً جداراً في حينا في مدينة طرطوس، وسأكتب عليه (علاء الخطيب والعالم في خطر)".
ويضيف: "ليس كل من يكتبون على الجدران من المراهقين؛ هم ينتمون إلى أعمار مختلفة، فالكتابة ليست بالضرورة للتعبير عن الحب أو حالة من الغرام، فقد تكون تعبيراً عن الذات بما يشبه الوشم، وكأننا هنا أمام شخص فضّل أن يقوم بوشم جملة ما على جدار ليقرأها المارون بدلاً من أن يكون الوشم على جسده".
ليست الشعارات السياسية وحدها التي تحتل جدران دمشق بديلاً لمساحات التعبير الأخرى، فالعشاق لهم جدرانهم أيضاً، والتي كثيراً ما تتحدث جملها عن نوع من التحدي بين عاشق مجهول الهوية لمحبوبته التي تظل هي الأخرى مجهولة الهوية
يعتبر علاء أنه من الخطأ النظر إلى ظاهرة الكتابة على الجدران على أنها ظاهرة مسيئة، بل يجب أن يُنظر إليها على أنها واحدة من مساحات التعبير المحببة. فالجدران يمكن أن تخرج من كونها "دفاتر المجانين" إلى أن تصبح "دفاتر السوريين".
تقوم بعض المؤسسات الحكومية والخاصة، وبعض الأفراد، بتجميل جدران دمشق بالكثير من الجمل التي تتغنى بالعاصمة السورية. وقد يتفق أن يكون جدار إحدى المؤسسات التعليمية مخصصاً لكتابة جمل من الأدب العربي لا ترتبط بدمشق، كما هو حال جدار أحد مباني حزب البعث في منطقة المزة، والذي لا يبعد كثيراً عن مدرسة "نهلة زيدان"، التي حولت جدرانها إلى لوحة دخلت في العام 2014 موسوعة غينيس على أنها "أكبر لوحة فنية مصنوعة من النفايات وبقايا سلع مستعملة في حي المزة بدمشق".
البخاخون
مع بداية الحرب السورية، انتشرت ظاهرة "البخاخين"، وهو لقب يطلق على الأشخاص الذين يستخدمون عبوات الدهان المضغوطة بالهواء للكتابة على الجدران عبارات ذات طابع سياسي ضد النظام.
وفي هذا الصدد، يقول الصحافي والباحث السياسي رواد بلان لرصيف22: "الجداريات بكل أشكالها تعد وسيلة تعبير مدنية عن مختلف القضايا بما فيها السياسية، حيث تشكل فرصة للتفاعل مع عدد كبير من الأشخاص، سواء بشكل مباشر أو رمزي. فهي حالة توثيقية لمرحلة أو قضية، وغالباً ما تكون حالة تمرد تدفع للتغيير، وبكل تأكيد هي بمكان ما مساحة للتعبير للمهمشين والمقموعين، بعيداً عن المحتوى الذي يرتبط بمستوى الوعي والأفكار التي يتم التعبير عنها. فقد شكلت الجداريات في بعض التجارب لوحات فنية ارتبطت بمراحل مفصلية من تاريخ حركة المجتمعات".
ويضيف "في بداية الأزمة كان البخاخ بالنسبة للمناهضين للسلطة حالة بطولية وثورية تنتقم لهم عبر إزعاج السلطات، بينما كان الطرف الآخر يرى فيها تهديداً مقلقاً ونيلاً من الرموز، وحتى تهديداً لوجود البعض. أما السواد الأعظم فكان يخشى تلك الأفعال خوفاً من تبعاتها، محاولين تحييد أنفسهم عن أي خطر".
يصف البعض الجداريات بأنها أقرب إلى حالة توثيقية ومساحة تعبير للمهمشين والمقموعين، لا سيما في المراحل المفصلية من تاريخ حركة المجتمعات.
وينفي الباحث والكاتب السياسي معرفته بأشخاص نفذوا عمليات البخ، أو وجود معلومات تفيد بأن من مارسوا هذا الفعل في بدايات الحرب السورية قد تقاضوا أجراً مالياً عنه.
الجداريات التي قالت كل شيء
على الرغم من وجود نوع من التوافق لدى الكثيرين على كون البخ من خلال الكتابة على الجدران (لا الرسم)، يعد من مساحات التعبير البديلة لدى مختلف الشعوب، إلا أنها تعتبر مخالفة للقانون في الكثير من الدول، على اعتبارها تعدياً على الملكيات العامة والشخصية من جهة، أو تحريضاً على تعطيل "النظام العام" للدول.
لا تخلو الكتابة على الجدران في المواقف السياسية من خطاب كراهية في بعض الأحيان، فالأمر مرهون بمدى وعي البخاخ. كما أن الكتابة على الجدران لأهداف ذات طابع سياسي قد لا تكون مصيبة في كل الأحوال، وقد تكون من بين أدوات الإرهاب كما حدث في المناطق التي سيطر عليها "داعش" في سوريا، والمناطق التي تسيطر عليها "جبهة النصرة" في شمال غرب البلاد.
علم النفس: "لا يمكن اعتبار أن الكتابة على الجدران، أياً كان المكتوب، ناجمة عن خلل نفسي، وحتى العبارات النافرة أو الرسوم الخادشة للحياء العام هي من أدوات الاستفزاز التي يمارسها الأشخاص لغايات مختلفة"
لا يعتقد الطبيب النفسي رفيف مهنا بوجود دافع نفسي منعزل عن بقية الدوافع للكتابة على الجدران، بل هناك دافع موجود في الحياة مرتبط بالعديد من القضايا النفسية والروحية والجسدية والغريزية. والكتابة على الجدران مرتبطة بمجموعة من الدوافع والقضايا، فأصل الكتابة بدأ من العلاقة مع الطبيعة على سبيل ترك الأثر والتواصل. كما أن الكتابة لها علاقة بالرسم من خلال آلية استخدام القلم بحركة مشابهة للرسم، وجزء أساسي من أهمية الكتابة مرتبط بكونها تفريغاً للأفكار وتوضيحها والذهاب نحو الدقة أكثر. لذلك هناك الكثير من الدوافع التي تقف وراء الكتابة على الجدران.
لا يمكن اعتبار أن الكتابة على الجدران، أياً كان المكتوب، ناجمة عن خلل نفسي، وحتى العبارات النافرة أو الرسوم الخادشة للحياء العام هي من أدوات الاستفزاز التي يمارسها شخص ما لغايات مختلفة. والكتابة أو الرسم على الجدران في دول مثل البرازيل أخذت مساحة تصل لحد "جدران أحياء كاملة"، وتحولت اليوم إلى ما يشبه المعارض. بالتالي، فالقضية لا ترتبط بالعلل النفسية.
بينما تعتبر أستاذة علم النفس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، رفيف الساجر، أن العامل الأساسي لاتخاذ الجدران من قبل البعض كمساحة للتعبير عن المشاعر هو الكبت وعدم القدرة على التعبير العاطفي والجنسي تجاه الآخر. وحتى الشخصيات التي تذهب نحو كتابة الشعر، فإن ذلك يكون ناتجاً عن وجودها في مجتمع لا يقبل بالشعر. والحال نفسه ينطبق على من يكتب عبارات نافرة مجتمعياً، وبالتالي هي حالة من التفريغ والتمرد على المجتمع الذي يكبت حرية التعبير عند الفرد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع