شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"خليل شعت عالم ذرة"... ماذا يكتب الفلسطينيون على الجدران؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 9 نوفمبر 202211:37 ص

ما بين التعبير عن اليأس والأمل، الحب والكره، الغضب والتحدي، ظلّت الكتابة على الجدران، إحدى وسائل الفلسطيني البارزة في التعبير عن نفسه منذ تحوّل بيته الواسع في البلاد إلى مساحة ضيّقة في مخيم، فقد اعتمد عليها طوال السنوات الماضية حتى تحوّلت إلى عادة يومية تشبه متابعة نشرة الأخبار، أو كتابة الواجب المدرسي. ولم يكتف بذلك، بل طوّرها إلى أن باتت لها أشكال وأنماط مختلفة يمكننا أن نطلق عليها لقب "أدب الجدران" بعيداً عن الذين ينظرون إليها على أنّها غير ذلك، فبالنّظر للآفاق التي وصلت إليها حديثاً، وعفويتها وجماليتها، نرى أنّها من اللائق أن نطلق عليها مصطلح "أدب" بشكل ما، فقد توازت مع الأدب بصورة ما، وهي التعبير عن مكنونات الإنسان وتفاصيل حياته ومخاوفه، وهذا بالفعل ما قام به الفلسطيني بكتابته على الجدران، التي لطالما أزعجت جنود الاحتلال فلاحقت كلّ من يكتب على جدار.

الكتابة على الجدران كنوع من الأمل/اليأس

في الوقت الذي فقد الفلسطيني كلّ ما يملك مادياً ومعنوياً، ولم يكن لديه القدرة على إيصال صوته للعالم، وجد في الكتابة على الجدران وسيلة مناسبة لتنمية أمله في العودة، لهذا لا تخلو جدران أي مخيم فلسطيني سواء المخيمات الموجودة داخل فلسطين أو خارجها من الكتابات، ولطالما كانت هذه الكتابات بمثابة تذكرة العودة إلى البلاد المفقودة، فنجد أنّ الفلسطينيين كتبوا أسماء القرى والمدن التي هجّروا منها على جدران البيوت المتواضعة في المخيم، ورسموا خريطة فلسطين كاملةً كما هي في ذاكرتهم، ووجهوا الرسائل للمقاومين، وبعثوا الكثير من الكلمات التي صبّرتهم على وجع العيش في مخيّم بعيداً عن رحابة البلاد.

"خليل شعت عالم ذرة" التي يمكن لأي زائر لمدينة خانيونس في قطاع غزة أن يراها مكتوبة على الكثير من الجدران. وتعود هذه الجملة إلى رجل ضربه جنود الاحتلال الإسرائيلي على رأسه بعدما وضعته الظروف في مكان اشتباك، فأصبح مؤمناً بكونه عالم ذرّة

لهذا إنّ المتأمل في كتابات الجدران داخل المخيمات الفلسطينية، منذ بدأت وأصبحت عادة مع الوقت؛ يجد أنها كانت بارقة أمل يستغيث بها الفلسطينيون بشكل دائم، ويظهر هذا جلياً في جمل كتبت وتحولت إلى شعارات تردد في المناسبات والجلسات مثل: "عائدون إلى فلسطين" و "عاشت فلسطين عربية حرة" و"إلى آخر نبض في عروقي سأقاوم" و"حق العودة مقدس" وغيرها الكثير من الكتابات التي توحي بالأمل الكبير لدى الفلسطينيين في مخيمات الشتات.

ومع اعتبار الجدران شاشة عرض يطّلع عليها الجميع، تمّ اللجوء إليها من قبل البعض برسائل غريبة ومدهشة في الوقت ذاته. يظهر هذا جليّاً في جملة "خليل شعت عالم ذرة" التي يمكن لأي زائر لمدينة خانيونس في قطاع غزة أن يراها مكتوبة على الكثير من الجدران. وتعود هذه الجملة إلى رجل ضربه جنود الاحتلال الإسرائيلي على رأسه، فأصبح مؤمناً بكونه عالم ذرّة، علاوةً على ادعائه معرفة أسرار المفاعلات النووية.

مجابهة آلة الموت بالكتابة

"فن الطبقات المحرومة والفقيرة" مصطلح أطلق على الكتابات التي انتشرت في شوارع نيويورك بين 1966 و 1989، وقد ارتبطت هذه الكتابات بحركة "الهيب هوب"، وبالعودة للوراء قليلاً، نجد أنّ الكتابة على الجدران ظهرت في شوارع باريس قبل ذلك، وتحديداً خلال أحداث العام 1968، إذ استخدمها الشبان الثائرون ضد النظام السياسي والاجتماعي. أما في فلسطين، فقد كانت ذروة الانتشار لكتابات الجدران في فترة الانتفاضة الأولى وما قبلها، حيث شهدت هذه الفترة حظراً للتجوال، مع تقييد الفلسطينيين في التعبير بمختلف أشكاله، ما جعل الكتابة على الجدران وسيلة تم من خلالها تجاوز الرقابة الإسرائيلية التي واجهت الفلسطينيين بالحبس والتعذيب.

وكان اللجوء لهذه الكتابات بمثابة النافذة التي يطلّ منها الفلسطينيون على الحرية، فأوصلوا من خلالها الرسائل السياسية، وقاوموا الرصاص الذي لم يتوقف عن اختراق أجسادهم طوال فترة الانتفاضة، وعلى الرّغم من أنّ غالبية هذه الكتابات كانت باللغة العربية المحكية والفصحى، إلا أنّ جزءاً منها كان باللغة الإنجليزية، وكان الهدف منها إيصال ما يعانيه السكان الفلسطينيون للوفود الدولية التي كانت تزور فلسطين من وقت لآخر، فقد كانت هذه الكتابات بمثابة رسائل أمل ومقاومة. وعلى الرغم من قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي باعتقال من يقوم بهذه الكتابات، لما فيها من رسائل صمود وتحدٍ واضحة لآلة الحرب المستمرة، إلا أنّ الفلسطينيين لم يتوقفوا عن استخدامها.

 كانت ذروة الانتشار لكتابات الجدران في فترة الانتفاضة الأولى وما قبلها، حيث شهدت هذه الفترة حظراً للتجوال، مع تقييد الفلسطينيين في التعبير بمختلف أشكاله، ما جعل الكتابة على الجدران وسيلة تم من خلالها تجاوز الرقابة الإسرائيلية التي واجهت الفلسطينيين بالحبس والتعذيب

ومع تأمّل كتابات الانتفاضة الأولى، نجد تنوعاً في اتجاهاتها والأطراف الموجّهة لها أيضاً، كما أنّ جزءاً منها رافقته رسومات كرسمة حنظلة وخريطة فلسطين وغيرها من الرسومات التعبيرية الأخرى، ومن الأمثلة على كتابات تلك الفترة: " الدولة وحق العودة إستراتيجيات ثورية لا يمكن المساس بها أو المساومة عليها" في رسالة واضحة للقيادات السياسية وغيرها من الأشخاص المتنفذين بالمشهد الفلسطيني، و"لا لمؤتمر بيع الأرض" في رسالة على رفض اللجوء لخيارات أخرى غير المقاومة، و"في ذكرى استشهاد الخواجا سنجعل الأرض تحترق تحت أقدام الصهاينة" في دلالة على استمرار المقاومة وتحدي آلة الحرب التي لا تتوقف عن إراقة الدماء الفلسطينية.

الكتابة بصفتها صرخة متفجرة

في خضم أحداث الانتفاضة الثانية التي لم تخلُ أحداثها من الكتابة على الجدران أيضاً، شرع الاحتلال الإسرائيلي في بناء جدار الفصل العنصري سنة 2002 ويصل طوله إلى ثمانية أمتار، ليعزل به الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 والقدس عن باقي أجزاء فلسطين، مما أدى لإعاقة تحرّكات الفلسطينيين من وإلى هذه المناطق، وتسبب في ابتعاد الكثير منهم عن أراضيه سواء الزراعية أو غيرها. شكّل ذلك حواجز نفسية ومكانية وزمانية في حياة الفلسطينيين، ومع عدم قدرتهم على منع إقامة هذا الجدار، باشروا محاربته وتوجيه الصّفعات له بالكتابات التي باتت مع الوقت سمة مرتبطة فيه بشكل دائم.

فقد رسم الشبان الفلسطينيون على الجدار علم فلسطين وأشجار الزيتون ومفاتيح العودة بالإضافة إلى الكوفية الفلسطينيّة التي تعدّ رمزاً وطنياً، ولم يخلُ الأمر من رسم لشخصيات فلسطينية عديدة مثل أبو عمار وليلى خالد ومروان البرغوثي. علاوةً على كتابتهم للكثير من الكلمات التي لطالما كانت بمثابة الصّرخة التي ستقضّ هذا الجدار يوماً ما، ومن هذه الجمل والكلمات: "لنسقط جدار الفصل العنصري" في رغبة عارمة لدى الفلسطينيين للتخلص من هذا الجدار الذي شوّه واقعهم اليومي. "القدس" في تعبير على التمسّك بعاصمة فلسطين الدائمة والأبدية. "سلام" في تعبير على رغبة الشّعب الفلسطيني في السلام بعيداً عن الموت المتكرر. "Not Only Floyd Iyad Hallaq Too" في رسالة موجّهة للمجتمع الدّولي والزائرين للمناطق الفلسطينية، بعد استشهاد الشاب الفلسطيني المصاب بالتوحد "إياد الحلاق" برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي.

من يمتلك حق الكتابة على الجدران في فلسطين؟

"للجميع الحق في الكتابة على الجدران" هذه الجملة التي يمكن الرّد فيها على سؤالنا. ولكن، مفهوم "الجميع" يمكن القول إنّه كان مقولباً بشكل ما، فعلى سبيل المثال، في فترة الانتفاضة الأولى والثانية، كان المفهوم يدلّ على الشباب الملثمين الذين يدورون بين شوارع المدن وأزقّة المخيّمات ليكتبوا على الجدران بعيداً عن أعين جيش الاحتلال ورصاصه، وهذا ليكتبوا ويرسموا الشعارات الوطنية ويعلنوا الإضرابات وينعوا الشهداء ويكشفوا عن المتعاونين مع جيش الاحتلال. ثمّ مع مرور الوقت وبناء جدار الفصل، تحوّل مفهوم "الجميع" ليدلّ على الأطفال الذين منعوا من الوصول إلى مدارسهم على جهة الجدار الأخرى، والفلاحين الذين انتزعت منهم أراضيهم، والفنانين الذين رأوا في الجدار لوحةً مجانية تسع كلّ ما يريدون قوله، بالإضافة إلى المقاومين من مختلف الفصائل الفلسطينية.

بعد دخول السلطة الوطنية الفلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية في العام 1994، يمكن القول إنّ مفهوم "الجميع" بات يعبّر عن السلطة الفلسطينية، التي شرعت في تبييض الجدران لتزيل عنها ملامح الفصائلية، لتشهد الفترة التالية تنوّعاً كبيراً في المواضيع التي باتت تشملها كتابات الجدران، حيث إنّها أخذت منحى جديداً يتعلّق بحياة الفلسطينيين الاجتماعيّة، ومناسباتهم اليوميّة المتمثّلة في الزواج والحجّ، بالإضافة لتحوّل الجدران للوحات إعلانية لأصحاب الشركات والمتاجر والمحلات. كما أنّ مؤسسات المجتمع المدني اعتمدت عليها، فقد قامت بالعديد من المبادرات التي استهدفت الجدران من أجل التوعية وتحسين السلوكيات السيئة في المجتمع الفلسطينيّ، بالإضافة إلى كتابة اقتباسات لكتّاب فلسطينيين من أجل تعزيز ثقافة الشارع الفلسطيني.

الجدران في فلسطين، تضحك أحياناً

على الرّغم من التعامل مع الجدران على أنها وسيلة يتم من خلالها إيصال الكثير من الرسائل الجدّية، سواء الموجهة للاحتلال، أو للوفود الأجنبية، أو لعامة الناس؛ إلا أنّ الأمر لم يكن هكذا بشكل دائم، حيث إنّ هناك الكثير من الكتابات التي تعتبر فكاهية/غير جدية، والتي يقوم المراهقون من خلالها بالتعبير عن مشاعرهم لحبيباتهم اللواتي يعبرن الشوارع والأزقة، يظهر هذا كلمات الحب التي غالباً ما يتم إرفاقها برسمة للقلب، مع كتابة أول حرف من اسم الحبيب والمحبوب، وفي بعض الأحيان يتجاوز الأمر التلويح، حتى بتنا نرى الأسماء مكتملة ومكتوبة باللغة العربية بشكل صريح وواضح.

كما أنّ هناك الكثير من الكتابات الأخرى التي توشي بخروج كتابات الجدران في فلسطين عن جديتها في بعض الأحيان، وتحولها إلى كتابات هزلية مرتبطة بالحياة اليومية للسّكان، والتحولات التي تحدث فيها على اختلاف أعمارهم. ويمكن وصف هذه الكتابات -على الرغم من القليل من الجدية التي تظهر في بعضها – بأنّها كتابات ليست جادة مقارنةً بالكتابات الأخرى، ولكنّ هذا لا يجعلها شاذة أو غريبة أو غير مرغوب فيها، لأنها مرتبطة بمشاعر السّكان بصورة ما. ومن هذه الكتابات: "عيونك أزكى من طنجرة الدوالي" و "بكرهك بكل خلايا جسمي" و "لعيونك أسهر أعوام".

كتب الفلسطيني كلمة "فلسطين" ضخمةً ومزيّنة بخريطة فلسطين على حائط المخيّم أملاً في العودة، وكتب على جدار الفصل العنصري رسائل لحبيبته على جانب الجدار الآخر، وكتب متوعداً المتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى والثانية. كما استخدم الفلسطيني الجدران في نعي الشهداء، وفي استقبال الجرحى والأسرى، وفي التهنئة بالمناسبات سواء كانت أفراحاً أو أتراحاً. ولم يتوقّف الأمر هنا، بل امتد ليشمل الكتابات الهزلية التي تعبّر بشكل ما على عبثية الحياة المقيّدة التي يعيشها الفلسطينيون في كلّ بقعة حول العالم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image