في آخر 10 سنوات، تفجّرت عالمیاً حالة هوس بالأعمال الدرامية والوثائقية التي تنتمي إلى نوعية الجريمة الواقعية (True crime)، وتصاعدت على إثرها الإنتاجات المبحرة في قصص القتل المتسلسل على منصات المشاهدة الأمريكية. يتّسق هذا النهج مع الإحصاءات المشيرة إلى أن الولايات المتحدة تأتي في المركز الأول من حيث عدد القتلة المتسلسلين بفارق كبير عن باقي دول العالم. لكن هذا لا يعني أن هذه الجرائم صنيعة الثقافة الغربية، ولا صلة لعالمنا العربي بها.
فإذا أجرينا بحثاً سريعاً حول أشهر السفّاحين العرب، سنجد قوائم تعود بعض الأسماء الواردة فيها إلى زمن بعيد، مثل المصريتَين "ريا وسكينة"، واللبناني "فيكتور عواد"، والجزائري "بومهزار"، حتى أن بعض هؤلاء وصلت حكايتهم إلى شاشات السينما والتلفزيون في قوالب سردية تمزج بين الحقيقي والمتخيل. ومع ذلك، فإن مدننا العربية التي لم تنجُ من هذه الجرائم المفجعة، لا تراها سوى استثناء، بشكل يثير التساؤل: هل هذا إدراك لحجمها الطبيعي أم غضّ طرف عن الحقيقة؟
تتلمس السلسلة الوثائقية "عقول مظلمة"، المعنية بالقتلة المتسلسلين العرب والمتاحة حالياً على نتفليكس، مشاعر الهلع والدهشة من هذه الأفعال الوحشية، بصورة تجعل بدايات حلقاتها عبارةً عن تنويعات مختلفة لجملة: "مررنا بمصائب، لكن لم نرَ مثل هذه الجريمة قط"، حيث جاب صنّاع السلسلة 6 دول عربية: تونس ولبنان والعراق ومصر والأردن والمغرب، لتقصّي حكايات سفّاحين أرعبوا المجتمعات المحلية، في مسعى إنتاجي يُعدّ الأول من نوعه في المنطقة.
ملامح القتلة المتسلسلين العرب
أسباب عدة تفسر الشغف في مشاهدة الوثائقيات والقصص الدرامية عن القتلة المتسلسلين، منها ما يبدو بديهياً، مثل الفضول والرغبة في فهم دوافع القاتل والسياقات التي قادته إلى ارتكاب جرائمه، بالإضافة إلى تحقيق المتعة والإثارة الناجمتين عن متابعة التحقيقات والربط بين الأدلة والشهادات. ومنها ما يحمل تحليلات أعمق كانجذابنا نحو الشر ومحاولة اكتشاف جوهرنا الحقيقي وقيمنا من خلال ما نشاهده. وقد حرص صنّاع "عقول مظلمة" على تقديم عمل يوازن بين عناصر الجذب المختلفة، وإن تفاوتت النتائج بين حلقة وأخرى.
تتلمس السلسلة الوثائقية "عقول مظلمة"، المعنية بالقتلة المتسلسلين العرب والمتاحة حالياً على نتفليكس، مشاعر الهلع والدهشة من الأفعال الوحشية
تُفتتح الحلقات برصدٍ لطبيعة الأماكن التي حدثت فيها الجرائم مع إشارات عابرة إلى الظروف العامة التي شكلت واقع البلاد من دون تعمق في تفاصيلها، حيث الأحداث تنطلق من الثمانينيات وتمتد إلى العقد الحالي، لتحكي عن سفاحين تجمعهم صلات أسرية، هما "الأخوان تانيليان" في بيروت مدينة الجمال والتناقضات، اللذان أحالا ليلها إلى كابوس بقتلهما سائقي الأجرة والركاب، و"الزوجان بلال وسوزان" المدانان بارتكاب عدد من جرائم القتل في مدينة الزرقاء الأردنية وسط تحولات كبرى عاشها المجتمع.
تتناول السلسلة أيضاً سير سفّاحين كان لكل منهم أفعاله التي أفزعت محيطه وأرّقت الرأي العام. ففي حلقة "ناصر الدامرجي"، نرى هدوء مدينة نابل التونسية الذي تبدد بفعل جرائمه الوحشية في حق الأطفال، وفي حلقة "لؤي الطائي"، نستشعر ذعر سكان مدينة كركوك العراقية، بعدما اكتشفوا أن من يداوي جراحهم يقتل بدم بارد المصابين من رجال الأمن بتكليف من تنظيمات إرهابية. كذلك تكشف حلقتا سفّاح الجيزة "قذافي فراج"، وسفاح مديونة "عبد العزيز التجاري"، بشاعة ما اقترفاه من عمليات قتل متسلسلة بدافع الطمع.
يرسم العمل الوثائقي بورتريهات لملامح هؤلاء السفاحين، مستنداً إلى مواد أرشيفية وأخرى مصوّرة حصرياً، بجانب لقاءات مع المقرّبين ومقابلات ثرية مع أطباء نفسيين وأخصائيين في علم الجريمة، حيث يرصد مجموعةً من السمات التي تحضر غالباً في الوثائقيات العالمية مثل الهدوء والثبات الانفعالي، فضلاً عن مظاهر التدين التي ترقّ لها مجتمعاتنا العربية. كما يتيح الفرصة أمام المتخصصين لتحليل الاضطرابات والاعتلالات الشخصية التي يعاني منها القتلة المتسلسلون، وعلى رأسها السيكوباتية التي تعزز من مشاعر الاستحقاق لدى صاحبها وتغيّب عنه الإحساس بالذنب أو التعاطف تجاه الآخرين. كذلك ترصد الحلقات أنماط القتل والاختلافات بين القتلة الاندفاعيين والمنظمين، وتتعرض أحياناً لدلالات أسلوب القتل وما يقوله عن الجاني.
"كل المكونات التي تخلق من المجرم مجرماً، أساسها العائلة"، عبارة تأتي على لسان الطبيب يسري الدالي، في حلقة "ناصر الدامرجي" الذي وُلد في السجن لأب رفض الاعتراف به، ونُسب إلى زوج أم أدخله الإصلاحية. يبحث الوثائقي على مدار حلقاته في البيئات التي نشأ فيها السفاحون، ويشير في أكثر من موضع إلى أن القتلة المتسلسلين هم ضحايا طفولتهم، مع التأكيد على أن ذلك لا يبرر أفعالهم أو يعفيهم من المسؤولية. لكن تظهر فجوات واضحة بين ما تعرضه الحلقات عن ماضي كل منهم؛ فما نعرفه عن طفولة سفاحي نابل ومديونة، يختلف عما قيل بصورة مقتضبة عن "قذافي فراج"، الذي قُدّمت حكايته في إطار درامي العام الماضي ضمن أحداث مسلسل "سفاح الجيزة"، وعمد صنّاعه إلى الربط بين جرائمه وظروفه الأسرية.
نحاول كمشاهدين أن نلتقط الدوافع التي قادت القتلة إلى اقتراف ما لا يمكن استيعابه، ونفتش عن عوامل مشتركة، بخلاف الطفولة، يتلاقى فيها السفاحون، حيث تشير الأحاديث في مختلف الحلقات إلى أن الجاني ينحدر من عائلة فقيرة، مثلما هو الحال مع "الأخوين تانيليان" و"لؤي الطائي"، لكن يبدو ذلك سبباً فرعياً في أغلب الحالات. فالأخوان، على سبيل المثال، ينسجان قصصاً حول أسباب قتلهما سائقي الأجرة، فيما يُرجع الأطباءُ الأمرَ إلى أن شقيقهما الصغير، المفضل لدى والدتهما، كان سائق أجرة. أما الطبيب الذي بلغ عدد ضحاياه 43 شخصاً، فكان يرى في أفعاله الإجرامية جهاداً في سبيل الدين والوطن. بمعنى أدقّ، تقدّم لنا هذه الحلقات نماذج لعقول خبيثة يصعب فهم جرائمها بشكل واضح أو ردها إلى مسببات منطقية.
محاولات التصحيح وتعثّر التنفيذ
مع التدفق الهائل لإنتاجات الجريمة الواقعية، يُبدي متخصصون في النقد السينمائي والطب النفسي تحفظاتهم على أساليب تناول قصص القتلة المتسلسلين، حيث تمنح المعالجات الفنية سمات جذابةً للقاتل، في حين أنها تهمّش قصص الضحايا. يثير ذلك نقاشات موسعةً حول المسؤولية الواقعة على عاتق المنتجين عند التعامل مع مثل هذه المواضيع الشائكة، والاعتبارات التي يُنصح بمراعاتها لصناعة محتوى متّزن. تحاول سلسلة "عقول مظلمة" أن تطبّق هذه النصائح على مدار الحلقات، ساعيةً إلى تفادي الأخطاء، إلا أنها تتعثر أحياناً عند التنفيذ.
قرر صنّاع السلسلة الالتزام ببناء سردي محدد؛ حيث نتعرف بدايةً على تفاصيل عدد من الجرائم بصورة تمزج بين الشهادات المصورة والمشاهد التمثيلية، قبل الانتقال إلى الكشف عن هوية القاتل. يساعد هذا البناء على شحذ الشحنة العاطفية ضد السفاح، ويتيح مساحةً لتأمل الحقائق ومحاولة استيعابها بدلاً من التورط في حب الجاني، وهو الأمر الذي وقعت فيه وثائقيات وأعمال درامية مختلفة. فقد تعرضت مسلسلات مثل الوثائقي "محادثات مع قاتل: أشرطة تيد باندي"، والروائي "دامر"، لانتقادات تصفهما بتلميع صورة القاتل واستدرار التعاطف معه. يتجنّب "عقول مظلمة" هذا المسار، لكن في المقابل يقدّم مشاهد تمثيليةً متواضعةً، ويعتمد أحياناً على ممثلين يختلفون في الهيئة الخارجية عن الجناة الحقيقيين، ما يسبب نوعاً من التشتت في أثناء متابعة بعض الحلقات ويخلق حالة من الفصل بين الجرائم التي يُعاد تجسيدها أمامنا وصورة القاتل.
في الوقت نفسه، تتيح لنا السلسلة أن ننصت إلى حكايات الضحايا، ونتلمس وقع غيابهم على ذويهم، وندرك كيف هزت تلك الجرائم كيان عائلات بأكملها مغيّرةً مجرى حياتها إلى الأبد. تتداخل هذه المقاطع المؤثرة مع مقابلات لإعلاميين وناشطين مدنيين مُلمّين بتفاصيل الحوادث ونتائج التحقيقات إلا أنهم ليسوا على صلة بالقضايا نفسها، مما يثري السرد ويعطيه عمقاً. لكن تتباين قدرات هؤلاء الضيوف على قصّ الوقائع بصورة شيّقة ومحفّزة على المتابعة. على سبيل المثال، تحدّث الصحافي رياض طوق، في قضية "الأخوين تانيليان"، بأسلوب معلوماتي جذاب وعفوي، فيما مال الصحافي محمد بزورك، إلى الإفراط في استخدام الجمل المنمّقة بأداء تلفزيوني كلاسيكي في قضية "لؤي الطائي".
يلعب إيقاع السرد دوراً مهماً في تعزيز جرعة الإثارة التي يبحث عنها مشاهد هذه النوعية من الوثائقيات، كما ذكرنا. لكن سلسلة "عقول مظلمة" تهدر الكثير من زمن حلقاتها في مقدمات طويلة نسبياً حول هول الجرائم، وعبارات متقاربة عن طبيعة القاتل، ولقطات بصرية مكررة. فقد كانت بحاجة إلى مزيد من التكثيف في عرض الوقائع حتى تحافظ على حيوية هذا العمل المهم.
تساؤلات وفرصة ضائعة
في سلسلة تتناول ملابسات الجرائم وعمليات البحث والتقصي وإجراءات القبض على السفّاحين ومحاكماتهم، كان لا مفرّ من الاشتباك مع نظم العدالة في بلادنا. وقد لفت صنّاع "عقول مظلمة" إلى بطء قوات الأمن في الربط بين الجرائم، مما سمح للقاتل بالإفلات بفعلته أكثر من مرة، كذلك طرحوا تساؤلات جريئةً منها ما أثير في قضية "الأخوين تانيليان"، حول جدوى عقوبة الإعدام، وهل هي رادعة أم تمنح الجاني الراحة؟ ومنها ما نوقش في قضية "لؤي الطائي"، حول ما يحدث داخل المحاكمات في ظل حرمان الإعلام من حضور الجلسات.
قرر صنّاع السلسلة الالتزام ببناء سردي محدد؛ حيث نتعرف بدايةً على تفاصيل عدد من الجرائم بصورة تمزج بين الشهادات المصورة والمشاهد التمثيلية، قبل الانتقال إلى الكشف عن هوية القاتل
ومع ذلك، لم يرغب صنّاع السلسلة في التصادم بصورة واضحة حينما سنحت الفرصة في قصة الزوجين "بلال وسوزان". حيث تشير تحقيقات المباحث الأردنية إلى أنهما تعاونا في سرقة وقتل 12 ضحيةً، فيما يؤكد محاميهما أنهما مسؤولان فقط عن جريمة واحدة، وأن باقي الجرائم تم الاعتراف بها بطريقة غير قانونية تحت الإكراه والتعذيب.
قبل 4 سنوات، قدّمت قناة "الجزيرة وثائقية"، فيلماً عن الواقعة، تحت عنوان "الزوجان القاتلان"، يُغذّي الشكوك حول تلفيق القضايا لهما. حيث اعتمد البناء السردي، من البداية، على عرض تصريحات المحامي في مواجهة أقوال رجال الأمن، وأدمج فيها تعليقات الصحافية رنا الحسيني، التي تولّت متابعة القضية إعلامياً، وكانت متعجبةً من طريقة رجال الأمن في الكشف عن الجرائم وسير المحاكمات. كما أشار العمل إلى الانتقادات التي وجهتها منظمة العفو الدولية إلى القضاء آنذاك، لوجود شبهةِ خطأٍ في إحدى القضايا التي أدين فيها الزوجان.
أما حلقة "عقول مظلمة" التي تعرض حكايتهما، فقد سارت على النهج المتّبع نفسه في باقي الحلقات، حيث تنطلق بالحديث عن الجرائم، مع تلميحات سريعة إلى أن الأدوات المستخدمة في القتل متباينة ولا يوجد ربط بين الحوادث، لكن كلمات المتخصصين تتبعها بتفسيرات علمية لهذه الظواهر تدحض أي شكوك قد تراود المشاهد. ثم في منتصف الحلقة، يظهر المحامي فجأةً ليحدّثنا عنهما وعن ماضيهما وينبّه إلى احتمال براءتهما من غالبية الجرائم، من دون أن يتراجع حضور الأصوات المؤكدة على إدانتهما. وفي النهاية، يُكتب على الشاشة أن القضية لا تزال تشكل جدلاً لدى الناس، ولن نعرف الحقيقة أبداً.
يبدو هذا خياراً آمناً؛ لم يغفل التفاصيل الشائكة المحيطة بالقضية ولم ينحز إلى وجهة نظر على حساب الأخرى، فضلاً عن أنه يتجنب التشابه مع طرح الفيلم الوثائقي السابق. ومع ذلك، ربما كان من المفيد أن يولي خطاب الحلقة اهتماماً أكبر لفرضية أن الأمن قد يلفق اتهامات لحل مثل هذه الجرائم، خصوصاً أن الإدانات الخطأ تُعدّ من الموضوعات المهمة التي تناقشها وثائقيات الجريمة الواقعية مثل سلسلة "أبرياء خلف القضبان" أو The Innocence Files.
في النهاية، يقدّم صنّاع "عقول مظلمة"، حلقات تستحق المشاهدة والتحليل من منظورات متعددة. فقد تتشابه الجرائم مع ما نشاهده في أعمال عالمية، لكن لا يمكن فصلها عن المجتمعات التي عايشتها. لذلك، ننتظر المزيد من الإنتاجات المتعمقة والقادرة على كشف ما نرغب في مواراته بعيداً عن الأنظار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع