"مع أن الصحف التي عاصرت بروز اسميْ ريا وسكينة لم تقصر في إشباع فضول المصريين في معرفة أنبائهما، بل خصصت لكلّ منهما زاوية يومية ثابتة في مكان بارز لتلك الأنباء على امتداد شهرين كاملين، إلا أنها لم تقصر كذلك في نشر الوقائع المغلوطة والناقصة أو المختلطة".
بهذه الكلمات يصف صلاح عيسى في مقدمة كتابه "رجال ريّا وسكينة" كيف تمّ تداول صورة الشقيقتين على مرّ العصور من دون رؤية حقيقية للدوافع التي أوصلتهما لهذه الهاوية.
ريّا و سكينة تُعدّان من أشهر القتلة في الوطن العربي، وليس في مصر فقط، إن لم تكونا الأشهر على الإطلاق، حيث ذاع صيتهما بعدما ثبت تورطهما في مقتل ست عشرة امرأة لغرض سرقة مصوغاتهن الذهبية في الفترة بين 1919و1920، وهي الفترة التي شهدت الاحتلال البريطاني لمصر، وتبعاته السلبية على المجتمع. وتناقلت الأجيال ووسائل الإعلام والسينما صور السفاحتين عبر العقود. وعلى سبيل المثال وصفهما الكاتب عباس محمود العقاد عام 1921 بأنهما من أصحاب النفوس الميتة.
يستنكر عيسى على علماء الأنساب وقصاصي الأثر عدمَ اهتمامهم بالبحث في تاريخ الشقيقتين، ويحاول أن يقدّم في كتابه السيرة الحقيقية لريّا وسكينة، ومن أحاط بهما من رجال ونساء وظروف سياسية واقتصادية، مستنداً إلى وثائق تاريخية، وليس إلى مرويات الخيال الشعبي بكلّ كراهيته التي غطت على سيرة الشقيقتين.
أغلب الظن أنهما ولدتا بالفلح أقصى جنوب الصعيد بالقرب من أسوان، ويحيط الغموض بتاريخ ميلادهما، وتنتمي الشقيقتان لقبيلة بني همام. ويتوافق خط سير هجرة أسرة ريا وسكينة من أسوان مع هجرة القبيلة بشكل عام لأسباب متعددة، أبرزها كسر عزلة جنوب الصعيد في عهد محمد علي، وهروب أهل الصعيد من بطش الجوع حيناً، وأهوال التجنيد الإجباري للعمل في "السخرة" (العمل القسري) والأعمال البدنية الشاقة أحياناً أخرى. ولم تكن الحياة في المدن أيضاً بالأمر الهين لقلة الأجور وضيق العيش، إلا أنها أكثر رخاءً لمن لا يملكون أرضاً زراعية، مقارنةً بالعمل في المدن وأعمال السخرة.
ويتجاوز الكاتب صلاح عيسى ضحالةَ المعلومات المتوفرة عن ريا وسكينة، حيث لا شهادةَ ميلاد، ولا بطاقة تحقيق شخصية، ولا تقصياً لشجرة أنسابهما، خاصةً مع عدم حضور أيٍّ من أقاربهما، سواءً من الكلح بالجنوب أو بني سويف مسقط رأس الأم، لتحقيقات النيابة، خلافاً لباقي المتهمين.
تواطأ الجميع بسبب الإحساس العميق بالعار إلى تحويل ريا وسكينة إلى رمز أسطوري للشرّ، لا صلة له بدوافع ما فعلتاه، وأغمضوا عيونهم عن كلّ ما عدا ذلك؛ فقد كانوا بحاجة إلى رمزٍ للشيطان، فوجدوه
ولكن الكاتب يفترض أن هذه العائلة من البدو الرّحّل، التي عُرفت بصراعها مع السلطة خلال العصر المملوكي، وليس من الفلاحين. فقد أظهرت الشقيقتان جرأة وكسراً لكلِّ قواعد العادات والتقاليد الخاصة بأهل القرى في الفترة التي سبقت لجوءهم للقتل والإجرام. كما أن أهل البادية يُعرف عنهم الجرأة والترحال في هذه الفترة الزمنية، مقارنةً بأهل المدن.
فضلاً عن ذلك، فإن ريا التي احترفت إدارة بيوت الجنس لم تكن تسلم نفسها للرجال، بل تستأجر من تفعل ذلك، وكانت تستعلي على من تبيع جسدها له. وشقيقتها سكينة التي عُرفت بكثرة علاقاتها الرجالية كانت تدخل في علاقة مع من تتخيره وتنفق عليه. وموقف الشقيقتين يدلّ على احتفاظهما ببقايا من عادات وتقاليد البادية ذات الأنفة والاستعلاء.
بداية التغريبة والمأساة
بعد هجرة الأسرة في بداية طفولة الشقيقتين من أسوان إلى سوهاج، ثم بني سويف، والتنقل بين حجرات ضيقة في حوارٍ وأزقة أضيق منها تفوح منها رائحة العفن والفقر، وتضيئها مصابيح الصفيح الصدئة، حُطّ الرحال في كفر الزيات التي تحولت لمدينة صناعية تستقطب الباحثين عن لقمة العيش بفضل موقعها المتوسط بين القاهرة والإسكندرية، والتقاء خط المواصلات عندها، وشاعت فيها محالج القطن ومصانع الزيوت.
بالتأمل في كتاب صلاح عيسي يتضح لنا معاناة السفاحتين بكونهما بشراً تحملان خيرَ بني آدم وخطاياه، فريا كانت مخلصة لحسب الله حد النخاع، ودخلت السجن بدلاً منه، بل إنها صبرت على عدم إنفاقه على الأسرة
هناك تزوجت ريا من حسب الله القادم من الصعيد أيضاً، حيث عرف أبناء كلّ محافظة صعيدية بالإقامة في منطقة معينة بكفر الزيات. وحاولت الأسرة تذوقَ الخبز الحلال من العمل في مقهى صغير يسدّ رمق عمال محالج القطن المصريين بأكواب ضئيلة من الشاي والباذنجان والطماطم المحشوة بالثوم يغلفه خبز يتشابه في قسوته مع مرارة آكليه.
وما بين العمل في محالج القطن الموسمية لمدة أربعة أشهر براتبٍ لا يغني من الجوع، وبيع الخضار والبيض الفاسد، وبين غول التشرد والجوع، اضطر أفراد العصابة للسرقة والحبس وتغيير السكن. وخلال هذه الفترة أظهرت سكينة تعدد علاقاتها بالإضافة لامتهان الجنس لفترة من الزمن، وتزوجت عدة مرات استقرت أخيرتُها مع عبد العال، وهو شاب جنوبي يصغر زوجته بالعمر مثل حسب الله، قادم من الصعيد أملاً في العيش الكريم.
ترخيص أماكن امتهان الجنس في مصر قبيل الحرب العالمية الأولى
بعد محاولات فاشلة للتعايش، انزلقت العصابة لهاويةِ العمل في نشاط الجنس، كمنقذ أخير من أنياب الجوع. وشاع هذا النشاط بفعل ظروف الحرب العالمية الأولى وما قبلها، وانقسم لمنازل فتيات الليل المصرَّح لهنّ رسمياً بممارسة النشاط ومنازل السرّ، وتسامحت الشرطة حتى مع هذه المنازل، ربما لانشغالها بظروف الحرب أو معرفتها بمدى قسوة ظروف العاملين بها. وجاء اختيار حسب الله للنوع الثاني من المنازل، للمحافظة على ما تبقى من ماء وجهه، وتمسكاً بآخر قطرة من قيم الحياء الصعيدية، وحرصت ريّا على إخبار الجميع بجهلِ زوجها بالأمر.
انضمّ لمنازل سرِّ العصابةُ، ولحمايتها، عرابي الصومعي، شاب عشريني لم يأخذ من "الفتوة" سوى اسمها، فهو لم يرث "الفتوة" عن والده، ولم ينتزع المهنة بقوة نبوته، ولم يشترك في حماية منطقته السكنية، ولم يكن هناك تنسيق بينه وبين الشرطة كأحد "الفتوات" المتعارف عليهم، بل كان دخيلاً على المهنة، حريصاً على عدم الاشتباك مع الأقوياء، ولا يستعرض قوته سوى على الضعفاء، ومع هذا كان اسمه كـ"حامي دار السرّ" كفيلاً بإبعاد تدخل الجيران المعارضين لما يحدث في الداخل، ورادعاً لمن يتمنع عن دفع ثمن خدماته من الزبائن.
وفي وقت لاحق ساهمت الصدفة في انضمام بلطجي آخر للعصابة، أكثر فتكاً من عرابي، وبسجل إجرامي يقترب من خمس عشرة سابقة، هو عبد الرازق. وخلال عام واحد قتلت العصابة ست عشرة امرأة طمعاً في مصوغاتهن الذهبية. ويرجع للضحية الأخيرة (فردوس) الفضل في فتح باقي بلاغات اختفاء الضحايا. وحلُّ القضية بالكامل من النيابة جاء بعد شهور من إنكار العصابة، والاستماتة في تلفيق تهم للأبرياء، ومحاولات التمويه والتحوير.
عصفت الظروف بريا وسكينة، وطحنتهما القساوة، ولم تترك لهما بارقة أمل، ومع ذلك، تلك الظروف لا تبرر ما قامتا به من استباحة حياة نساء أخريات لا حول لهن ولا قوة. ولكن أيضاً من الإجحاف تناول تاريخهما دون أخذ تلك الظروف بعين الاعتبار
ويربط عيسى بين التفكير في قتل الضحايا وانضمام عبد الرازق للعصابة بما عُرف عنه من عنف وفظاظة في التعامل مع النساء، وامتهان أجسادهن، ومزاجه السادي في التعامل مع عاملات الجنس، والتلذذ برفضه إعطاءهن أجرتهن.
التغريبة والعمل في السلطة... أمران جمعا رجال ريّا وسكينة
الأمر الذي جمع رجال كلٍّ من ريا وسكينة بما فيهم عبد العال وحسب الله، والفتوه عرابي، هو تغريبتهم وقدومهم من الصعيد للإسكندرية أملأ في حياة أفضل، بالإضافة للعمل لدى السلطات الأجنبية لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الأولي.
ولم يكن تجنيد سكان الإسكندرية إجبارياً، مع أنه لا يختلف أيضاً عن الإجبار. فتهافت الرجال للانضمام للتطوع كآخر مهرب من الموت جوعاً، حيث أجر العامل هناك 8 قروش، إضافة إلى ملابس نظيفة تُغسل بشكل دوري، وكسوة مجاناً، وكان يتذوق المحرومون لأول مره المربى والبقسماط واللحم، وبالتالي يرفض المتطوعُ منهم التأقلمَ مرهً أخرى مع الفقر بعد عودته، ويلهث خلف رغباته، ولو بالقتل، ولا بد أن المتطوعين بالسلطة تعرضوا هناك لمؤثرات أخرى هزت بوصلتهم الأخلاقية.
هل كانت السفاحتان الأكثر شهرة في التاريخ بهذه الصورة المرعبة؟
يقول عيسى: "ذلك أن إحساساً عميقاً بالعار مما ارتكبته ريا وسكينة كان يغلل رؤيتهما للوقائع. وهكذا تواطأ الجميع بالصمت أو بالجهل أو بسبب الإحساس العميق بالعار إلى تحويل ريا وسكينة إلى رمز أسطوري للشر، لا صلة له بدوافع ما فعلتاه، وأغمضوا عيونهم عن كل ما عدا ذلك؛ فقد كانوا بحاجة إلى رمزٍ للشيطان، فوجدوه، وإلى صورة تجسد الشرَّ المطلق الطليق، فطبعوا عشرات الآلاف من صورتيهما، وأخذوا يتبادلونها، وينسجون حولها قصصاً وأساطير مرعبة، جعلتهما في النهاية قرينتين لتلك الشخصيات المرعبة".
سكينة التي عرفت بمعاقرتها للخمر وكثرة علاقاتها الرجالية وتعددها في هذه العلاقات تحملت الإنفاق على أسرتها لأعوام كاملة، خاصة في فترة حبس ريا بدلاً من زوجها
وبالتأمل في كتاب صلاح عيسي يتضح لنا معاناة السفاحتين كونهما بشراً تحملان خيرَ بني آدم وخطاياه؛ فريّا كانت مخلصة لحسب الله حدّ النخاع، ودخلت السجنَ بدلاً منه فقط، بل إنها صبرت على عدم إنفاقه على الأسرة، ولم تطالبه بواجباته، وتخلت له عن حقوقها حتى النهاية، وحتى بعد لجوئهم للعمل في قتل النساء كان زوجها يأخذ نصيبها من أموال الصيغة المباعة.
وفي أوج اللحظات العصيبة أثناء التحقيقات كانت حريصة على إلقاء التُّهم على أشخاص آخرين بعيدين عنها وعن زوجها وشقيقتها سكينة، وإذا تم التضييق عليها أكثر في التحقيقات، ضحت بسكينة، ولم تتخلَّ عن حسب الله، أو تُورّطه في التحقيقات التي استمرت لشهور قبل أن تنكشف الحقيقة الكاملة للنيابة، ويعترف المتهمون بأنفسهم.
فضلاً عن ذكاء ريا الذي برز في عدة مواقف، بدءاً من إقناع ذوات العُسر من النساء للعمل في الجنس، مروراً باصطياد الضحايا اللواتي لم يكن ليسأل أهلُهن عنهن، إلا أن بعض البلاغات من أهالي القتيلات دحضت توقعاتها. ناهيك عن قدرتها الفائقة على تمويه النيابة، وتلفيق تهم للأبرياء، وربما لو أتيحت لها ظروف أفضل لكان بإمكانها أن تستغل إمكانياتها العقلية في شيء مغاير للعمل في الجنس والإجرام.
بينما سكينة التي عرفت بمعاقرتها للخمر، وكثرة علاقاتها الرجالية، وتعددها في هذه العلاقات، تحملت الإنفاق على أسرتها لأعوام كاملة، خاصة في فترة حبس ريا بدلاً من زوجها، عندما ضُبطت المسروقات في منزلها، وفي الأعوام التي تلتها، في وقت تنصل فيه رجلا الأسرة أبو العلا وحسب الله من هذه المسؤولية.
عصفت الظروف بالسفاحتين، وطحنتهما القساوة، ولم تترك لهما بارقة أمل، ومع ذلك، تلك الظروف لا تبرر ما قامتا به من استباحة حياة نساء أخريات لا حول لهن ولا قوة. ولكن، أيضاً من الإجحاف تناول تاريخهما دون أخذ تلك الظروف بعين الاعتبار، ونختلف مع توقعات الكاتب، بكون عبد الرازق كان السبب في انتهاج العصابة لخطّ الإجرام، ومع كونه أشعل شرارة التفكير الأولى في هذه الطريقة، ومن الصعوبة أن يقنع فرد خمسة أفراد آخرين بالقتل، بل والاستمرار فيه مراراً وتكراراً، دون أن تكون دوافع ومؤهلات الشخصية المهيأة لذلك اختمرت بالفعل، ولا تنتظر سوى دفعه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع