في إحدى الحلقات الاستثنائية المذهلة التي قدمها برنامج "ستون دقيقة" الأمريكي الشهير، اعتمد البرنامج على قصة صحافية قادمة من عالم صحافة الحوادث.
كانت هناك مقابلة مع قاتل متسلسل حقيقي، ملامحه في الحلقة تشبه الملامح التي يرسمها كتاب الأعمال الأدبية القائمة على الجريمة والتي تهتم بعالم القتلة المتسلسلين الذين تشهد الصحافة نفسها أن لهم انتشاراً واسعاً في الولايات المتحدة. القاتل في الحلقة كان شاحب الوجه، نحيف الجسد، صامت في كل السياقات، ولا يمكن توقّعه. وربما لا يمكن التأكد تماماً إذا كان استمد شخصيته الظاهرية من هذه الأعمال الأدبية والسينمائية التي قدمت شخصية القاتل المتسلسل قديماً، أم أن العكس تماماً هو ما حدث، لتصبح تلك الصفات هي التصميم الاساسي الذي يلعب عليه كتاب الادب الشعبي والدراما كلما كتبوا عن قاتل متسلسل.
والقاتل المتسلسل هو إنسان يقتل الآخرين من دون سبب متعلق بشخوصهم أو لعداوة أو مصلحية شخصية معهم. وعادة ما ينتقي القاتل المتسلسل الذي يطلق عليه في العربية لقب "السفاح" ضحاياه وفقاً لنهج معين، بناء على الجنس أو الموصفات الشكلية أو الاجتماعية.
لا يوجد ما هو أكثر شراً من ذلك بالطبع. يقول السفاح الذي استضافه برنامج 60 دقيقة نصيحته التي تبدو انطلاقة جيدة هنا والآن، يترك الجميع مذهولاً من إصراره على القتل، على كل هذا الشر، يقول: "اسمعوا، ما لا يعقل ليس هو الشر بل العكس تماماً، ما لا يعقل هو الخير، فقط".
اللون الصحافي: صحافة الحوادث، قُتِل الآن في مصر بدم بارد، تماماً كما فعل بطل مسلسل "سفاح الجيزة"، فأثناء كتابة المسلسل تم الاعتماد أكثر على الحذف من القصة الحقيقية لا الإضافة، من شدة اكتمالها، لأن الصحافة التي تابعت القصة رصدتها من كل جانب وصنعت منها قصصاً واقعية وخيالية أكثر مما يمكن حصره
من صفحة الحوادث إلى الشاشة
عدد الأفلام التي اقتبست قصصها عن منشورات صحافة الحوادث تعز على الحصر، وكذلك الأعمال الأدبية التي بدأت من خبر أو جريمة أو سلسلة جرائم تتبعتها الصحف ولفتت الكتاب فانتهت إلى أعمال أدبية بعضها خالد، وعلى رأسها في عالمنا العربي رائعة نجيب محفوظ "اللص والكلاب" التي مثلت في ذاتها خطوة سردية جديدة في مسيرة كاتب نوبل.
وبالتأكيد يتذكر أغلبنا درة ما كتبه صلاح عيسي عندما ذهب إلى دار الوثائق ليقضي زمناً بين أرشيف الصحف ليكتب قصة "رجال ريا وسكينة" التي أراها ويراها كثيرون غيري هي الأفضل في مسيرته، عمل فني فذ، يعتمد على الحقيقة ليصنع منها حكاية مؤرّقة ومثيرة ولا يمكن الهروب منها قبل النهاية: كيف كان يعيش هؤلاء بعد كل قتل بدم بارد، وإلى أي مدى تكشف تلك الجرائم المسلسلة مجتمعها.
كل هذا الخيال يولد في إطار من متابعات الصحف التي تلاحقه يومياً، إلا أن ذلك اللون الصحافي: صحافة الحوادث، قُتِل الآن في مصر بدم بارد، تماماً كما فعل بطل مسلسل "سفاح الجيزة"، الذي أخبرني مشرف ورشة كتابته محمد صلاح العزب؛ أنه أثناء كتابة المسلسل اعتمد أكثر على الحذف من القصة الحقيقية لا الإضافة، ذلك من شدة اكتمالها، لأن الصحافة التي تابعت القصة رصدتها من كل جانب وصنعت منها قصصاً واقعية وخيالية أكثر مما يمكن حصره. هذه هي صحافة الحوادث التي شهدت ازدهاراً كبيراً في مصر حتى نهايات العقد الأول من الألفية الحالية، قبل ان تتراجع وتكاد تموت مع موات الصحافة المصرية.
سياقات ضائعة
كنت أفكر من خلال كل هذا التاريخ المبني على هذا اللون الصحافي كيف أصبحت اللحظة الحالية ثقافياً مجرد عرض جانبي لا يشغل سوى الغارقين فيه، من دون تأثير كبير على الشارع حولهم؟
باتت معظم الاعمال الفنية المقدمة على الشاشات المصرية في السنوات القليلة الفائتة تعتمد على "حواديت" منزوعة السياقات السياسية والاقتصادية والإجتماعية، باهتة التأثير في أغلبها، يكتبها ويقدمها صناعها لدواعي أكل العيش، نقاشاتها مبتورة.
ومن عامٍ لآخر يظهر عمل فني تظهر من خلاله تلك المأساة، ويبدو مسلسل "سفاح الجيزة" واحداً من هذه الأعمال؛ إذ يطرح إلى جانب سياقه الفني الذي لن يفوتنا تناوله وتحليله، سؤالاً مؤسساً وطويلاً: ما الذي تعنيه صجافة الحوادث؟ وأين ذهبت أساساً؟ ولماذا تمثّل شيئاً أصيلاً ثقافياً ومجتمعياً، يخسر المجتمع ثقافته مع تجاهلها؟
بدا المسلسل متماسك كتابياً بشكل كبير، أنضج أعمال كاتبه محمد صلاح عزب في تجربته الأولى في العمل على مسلسل قصير، موضوع واقعي اعتمد عليه خيال الصناّع بشكل رائع، لكنه لم يخلو ككل شيء من بعض العيوب التي نحاول التساؤل حولها
أين ذهبت صحافة الحوادث؟
محمد صلاح العزب مسؤول الورشة والكاتب الأساسي للمسلسل، هو صحافي في الأساس، وهو أيضاً روائي وسيناريست مصري، يكتب للسينما والتلفزيون منذ العام 2003، وله العديد من الأعمال الأدبية المنشورة منذ بداية الألفية أبرزها "سرير الرجل الإيطالي و سيدي براني وسرداب طويل يجبرك سقفه على الإنحناء".
إلا أن أعماله الدرامية والسينمائية والأدبية العديدة لم يكن بينها ما هو شبيه بمسلسله الأخير "سفاح الجيزة"، الذي بات أشهر أعماله حتى الآن وأنضجها فنياً، قصته المستلهمة صحافياً من قضية قاتل متسلسل منحته الصحف لقب "سفاح الجيزة"، لذلك كان المسلسل والكاتب نموذجين مثاليين للحديث عن السؤال المُتَجَاهَل: أين ذهبت صحافة الحوادث؟
أحداث مسلسل "سفاح الجيزة" امتلأت بها الصحف قبل وقت قريب، قصة قذافي فراج، سفاح الجيزة الذي ارتكب سلسلة جرائم من الجيزة للإسكندرية، من 2015 حتى2017، ولم يترك أى أدلة خلفه تكشف هويته لسنوات، ينتحل شخصيات مختلفة، ويخدع الجميع، يغوص المسلسل في الجانب النفسي للقاتل وشخصيته المعقدة وطريقة تفكيره ودوافعه وأسلوبه في التخطيط للجرائم؛ المهندس رضا محمد والمحامي كريم عبد اللطيف، وصاحب الشركة محمد نصر، أسماء عدة استخدمها، حتى الآن لديه أربعة أحكام بالإعدام، ويبدو مغرياً بما يكفي للكتابه عنه أدبياً وسينمائياً، أو الكتابة من وحي قصته كما فعل المسلسل.
تدور أحداث المسلسل في إطار عدد من الجرائم الغامضة، والدوافع التي امتلكها جابر (أحمد فهمي) الذي وُصف لاحقاً بأنه قاتل متسلسل، بعد أن تسبب في ذعر بمحيط سكنه لسنوات وقتل للأقارب والأصدقاء والأحبّة. بدا المسلسل متماسك كتابياً بشكل كبير، أنضج أعمال كاتبه محمد صلاح عزب في تجربته الأولى في العمل على مسلسل قصير، موضوع واقعي اعتمد عليه خيال الصناّع بشكل رائع، لكنه لم يخلو ككل شيء من بعض العيوب التي نحاول التساؤل حولها.
يقول محمد صلاح العزب لرصيف22 إن العمل بدأ من شركة الإنتاج والممثل أحمد فهمي، هما من قاما بتكليف المؤلف بالعمل على المسلسل، وخلال العمل تغيّر على المسلسل ثلاثة مخرجين: أحمد علاء الديب الذي صنع قبل سنوات تحفته في فيلم "بدل فاقد" وتراجع مستواه بعدها في عدة أفلام، لكنه قادم من عالم بصري قوي يقدّم الجريمة جيداً، والمخرج الشاب محمود شكري الذي وضع أغلب اللمسات التي خرج بها المسلسل أساساً من موسيقى إلى بعض الإضافات البصرية التي لفتت أنظار الناس، قبل أن يتم استبعاده ليذهب العمل إلى هادي الباجوري.
هل فعلاً العدل فوق الجميع يا أستاذة بدرية؟
غالباً تراجع الديب كان لأسباب تقنية، إذ أصبح من المتعارف عليه في الوسط الفني أنه مخرج صاحب مطالب تقنية غير قليلة، أما المخرج الشاب محمود شكري فلا توجد معلومة مؤكدة حول سبب استبعاده وإن كانت التكهنات والشائعات تذهب إلى تخوف من المجازفة معه في المسلسل الذي كان ليمثل عمله الأول بعد سنوات من النجاح في عالم الإعلانات.
القصة مورِّطة وذكية ومثيرة ولا ينقصها سوى الإخراج الملهم لصناعة عمل مخلّد، إلا أن تواضع إمكانيات المخرج الذي قدمها جعل منها قصة ناجحة فقط، عادية، تعتمد عموماً على الكتابة الجيدة للشخصيات، وتختار عدداً من الممثلين المحدودي الموهبة، كما تقدم أحمد فهمي في أضعف أدواره
لكن سخرية القدر تدحض تلك الشائعات مع تسليم هذا العمل المهم الذكي إلى مخرج متواضع لا يشهد له أي عمل سابق على الجودة أو الاستثناء سينمائياً؛ رجل الإعلانات هادي الباجوري.
تبدو تلك التفصيلة مهمة للعمل لا لاستعراض العضلات والمفاضلة، كانت القصة في الغالب تبيع ذاتها، مورِّطة وذكية ومثيرة ولا ينقصها سوى الإخراج الملهم لصناعة عمل مخلّد، إلا أن تواضع إمكانيات المخرج الذي قدمها جعل منها قصة ناجحة فقط، عادية، تعتمد عموماً على الكتابة الجيدة للشخصيات، وتختار عدداً من الممثلين المحدودي الموهبة، كما تقدم أحمد فهمي في أضعف أدواره، وباسم سمرة خارج المنافسة كالمعتاد من دون إضافة من المخرج أو غيره.
يبدأ المسلسل من ذروة قوته البصرية والتأسيسية: رجل يقف في المطبخ، هادئاً ومتماسكاً، شديد الإتقان في تقطيع مكونات صينية البطاطس مع عرق الفلتو الكامل التي يطبخها، سيشهد هذا الإتقان المطبخي بعد ذلك على هندسية اختياراته وتخطيطه في استقطاب ضحاياه بوجهه المسالم وعدم نسيانه إكرام العمّال الذين ينقلون الثلاجة، دون أن يعلموا أنها تحمل جثة زوجته؛ ضحيته الأولى في قائمة ستطول لاحقاً، وستؤهل لأحداث متلاحقة يمكن مشاهدتها لندرك جيداً سؤال حقيقي يخص السفاح الظاهري جابر والباطني الأعمق في والدته أم جابر (حنان يوسف).
فيما بعد ستطور الأحداث وتتشعب، تصبح أوسع من إدراك مخرج الإعلانات التي يصنعها دون أن يعطيها أي أعماق، مكشوفة ومغرية طبعاً للجدال على مواقع التواصل لكن دون إغراء لمشاهدتها مرة أخرى، يقول محمد العزب: في النهاية كانت تجربة متماسكة، لا تحمل أي مط مكتوب بخلاف الأعمال الطويلة التي عملت عليها، كما يشير إلى حرية الكتابة في قالب تلفزيوني نقل خلاله كل شيء يريده، كنت سعيد في العمل عليها كمسلسل لا كفيلم، بل أنه لم يكن لينجح هكذا لو خرج سينمائياً ولم أخاف من تقديم أي شيء قد يمنعه التلفزيون، منصات العرض غيرت المعادلة.
صحافة الحوادث كانت النموذج المفضل للقاري المصري منذ عقود طويلة، شخصية المصريين أساساً أحد مكوناتها المهمة هو الفضول والتساؤل عن حياة الآخرين، صحافة الحوادث عموماً مغرية للوضع المأزوم الذي يجعل كل قارىء لجرائم فظيعة أودت بحياة البعض وسجن آخرين أن يحمدوا الله على وضعهم البائس الساكن الآن على كل حال
خسارات متعدد بخسارة الحوادث
يبدو أننا انحرفنا مضطرين للحديث عن الجانب الفني للمسلسل وتناسينا قليلاً السؤال الأساسي الذي انطلقنا منه، الذي يخص التساؤل الظاهر من خلال مسلسل ناجح يعتمد على قصة صحافية قادمة من عالم الحوادث، إذا كان هذا ينجح في استقطاب الجمهور لقراءته ومشاهدته فلماذا لم يعد هناك اهتمام بعالم صحافة الحوادث؟
يقول العزب إن صحافة الحوادث كانت النموذج المفضل للقاري المصري منذ عقود طويلة، شخصية المصريين أساساً أحد مكوناتها المهمة هو الفضول والتساؤل عن حياة الآخرين، صحافة الحوادث عموماً مغرية للوضع المأزوم الذي يجعل كل قارىء لجرائم فظيعة أودت بحياة البعض وسجن آخرين أن يحمدوا الله على وضعهم البائس الساكن الآن على كل حال.
قديماً كانت الدولة تعتمد أحياناً على هذا اللون في التشتيت وتوجيه الرأي العام، حتى انتشرت صحف مخصصة غير محددة الجهة تتكسب رزقها من تأليف قصص حوادث تدعي الحقيقة، بينما لم تجد الصحافة الجديدة والتصورات السياسية والاجتماعية الجديدة أهمية كبيرة لتلك الصحافة فهمّشتها، دون فهم أو سياق.
هذا العالم الصحافي كان وحده القادر على تحريك لسان المجتمع، يظهر رغباته وأحلامه وصراعات طبقاته. هذه الأخبار يأكلها المجتمع الأوسع بكل طبقاته، تهوّن عيشته المسحوقة الفقيرة والمملة.
صحافة الحوادث هي الشارع، إنتاجه البكر، اليومي، الواعي وغير الواعي، إلى جانب أخبار السياسة التي يدونها الصحفيون وراء أحدهم، وأخبار الاقتصاد التي يشعر بها الناس دون حاجة للقراءة، والموضة التي يتابع أغلبها نساء، والرياضة التي يتابع أغلبها رجال، والكتابات الفنية التي يقرأها المتخصصون من أجل تطوير ذاتهم وإعادة تدويرها مرة أخرى من خلال تجربتهم الشخصية، ثم أخبار الحوادث والمجتمع، التي تعرّي الطبقات أمام بعضها وتحكي المجتمع من أتفه وأعمق اهتماماته ومشاغله وتلصّصه وهروبه على بعضه الآخر، متجاوزة لزمنها ومكانها وسياقها.
هذه الصحافة ستجذب أكبر عدد ممكن من الناس، وصفة مضمونة النجاح دون الحاجة لمجازات فنية، قادرة على سرقة خيال المستمع في لحظات، تماماً مثلما حدث مع المسلسل أو مع القصة التي صوّرها برنامج ستون دقيقة وآلاف غيرها، هذه هي الصحافة التي يرفضها أحدهم ونتمنى رجوعها كي نرى المجتمع أعمق، هذه هي صحافة الحوادث وهذا ما يعنيه تجاهلها فمن الذي لا يحب صحافة الحوادث؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...