شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"أنا السمسار ومن حقي أتأكد إنك شريفة"... محاولة بائسة للاستقلال في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 22 أغسطس 202410:44 ص

بيدي حقيبة سفري المعتادة، أو بالأحرى بيد أمي، حين كذبت عليها أنني متوجّهة للقيام بعمل بمحافظة أخرى كعادة نظام عملي. لم تصدقني بشكل كامل مثل كل مرّة، لأن توقيت السفر هذه المرة جاء بعد حادثة ضرب كبيرة لي، كان نتاجها قراري ألا أستمرّ في البيت نفسه. وضعت خطة "متخرّش الميه" كي أنجو، أو ربما ظننت ذلك.

تاريخ طويل سابق

لم تكن تلك الواقعة تحديداً هي محرّك فعل الهرب، أو كما تقول لي باستمرار صديقتي المهتمّة بشؤون المرأة: "لا تسميه هرباً فهو نجاة واستقلال". ربما بالأساس الواقعة حدثت بعد هدوء كبير بمنزل أهلي، أصبحت المشاجرات فيه أهون مما سبقها من عمر كامل مهدور باستنزاف الطاقة، حالي كحال سائر فتيات جيلي، ممن تعرّضن لعنف وأصبن بترومات لا حصر لها وتحمّلن ما لا يمكن لأحد احتماله.

بدأ العنف بنقص كبير في الحنان والحب، وتطوّر لأصبح لقيطة بين بيوت أخرى باحثة عن الهدوء المفتقد، أسبوع عند جدتي، والدة أمي، المُعنّفة طيلة حياتها حتى السبعين من عمرها، شاهدة على وقائع ضربها وإهانتها وطردي معها في صباحات أيام كنت أتمنى أن تكون مشرقة مثل قلّة منها، حين أستيقظ بحضنها بعد أن ربطت على صدري ليلاً "جورنال" مغلفاً بزيت الكافور كي لا أصاب بالكحة أو الرشح، وبين يديها ساندويتش من الجبن الإسطنبولي، مطبق نصفيه على بعضهما البعض، أو صحن صغير من البيض المقلي، هو نفسه الذي يصنع فيه على النار بدون مقلاة وخلافه، طعمه أجمل شيء تذوّقته في حياتي.

لكن للأسف، أغلب الأيام كانت تسحبني بيدها، ونمضي لقيطتين معاً لبيت خالتي، بعد ضرب زوجها "جدي" وطرده لنا.

لطيفة خالتي، لكن لها نظامها الخاص الذي لا يناسبني، وحدثت بمنزلها واقعة تحرّش بي لا يمكن أن أنساها أبداً. فرحتُ بشدّة بزواج خالي الأصغر، معلنة صداقتي بزوجته التي تكبرني بأعوام قليلة، لأجد حالي أمام جدتي في شبابها من جديد: صديقتي الجديدة مضروبة في كل أنحاء جسدها، تحضنني وتبكي من شدة الألم.

بدأ العنف بنقص كبير في الحنان والحب، وتطوّر لأصبح لقيطة بين بيوت أخرى باحثة عن الهدوء المفتقد: أسبوع عند جدتي، والدة أمي، المُعنّفة طيلة حياتها حتى السبعين من عمرها، شاهدة على وقائع ضربها وطردي معها في صباحات أيام كنت أتمنى أن تكون مشرقة

أمي وتشكيل العجينة

أهوّن على نفسي كل ما أعيشه بين بيوت أخرى، أنني لست المكلومة، لا مصفوعة من زوج ولا مطرودة بصفتي وشخصي، وهذا أهون من المآسي النفسية مع والدتي. تلك السيدة التي لا يمكن وصف علاقتي بها في جملة أو حتى كتاب. كل منا حاول أن يحكم السيطرة على الآخر بشتى الطرق، قاصدة تشكيلي على مزاجها الخاص ووضعي في قالب يناسب رؤيتها. ارتديت بسببها رداءات لا تخصّني. تريدني متفوقة جداً، فتذيع الخبر وتجبرني على تصديقه، لكني، رغم اجتهادي الفعلي، لم أكن متفوّقة في كل مراحلي الدراسية، بينما هي لا تريد سوى تلك الصورة، فتعبث بشهادات درجاتي كي يراها الأقارب ويتحاكوا بالنابغة والطفلة المعجزة. تريدني فتاة لا تحب التحرّر، منغلقة لا تحب الرجال، منطوية على ذاتها تخشى الناس، ألبس ما يحلو لها، وأسير على خطاها ورأيها وذوقها.

اعتادت أن تكون الملفتة الجميلة في شبابها، معلنة في مراحل مراهقتي أنني لا أشبهها، مندهشة من شدة جمال أشقائي في مقابل جمالي المتواضع أو المعدوم، متسائلة: لماذا لم أنجب فتاة في جمالي؟

شكّلت قالباً قاتماً، بجانبه شائعات لا حصر لها عن كوني المدلّلة، ذات الأوامر المجابة، وأنا أصرخ بكل ما في وسعي لكل من حولي: "صدقوني أنا معذبة، مكبوتة داخل صورة ليست أنا، وهي لم تكن كما تدعي". لم يصدقني أحد. عملت طيلة حياتي التي لم تتجاوز السابعة والعشرين بعد، للتحرّر من الأسر، بين المواجهة، الصراحة، الملاوعة، البحث عن ذاتي، الكذب، الخطط. أهدرت كل طاقتي في شقين لا ثالث لهما، الأول أن كل شيء يسير في  حياتي لا بد له من خطة محكمة حتى تدخل برأس أمي وتصدّقها، لأفعل بعضاً مما يحلو لي، والآخر هو تعليمها.

فتاة تعيش بمفردها في مصر دون سبب، لا مغتربة، لا أرملة، لا يتيمة، إذن هي "بائعة هوى"، أو على أقل تقدير ستكون لنا جميعاً

كرّست آخر ست سنوات تقريباً أعلّمها عن العالم الذي لم تعرف عنه شيئاً، عن الأماكن التي لم تزرها، عن الفن والمسرح والسينما، عن حياة النساء وأحقيتهن في العمل والقرار ورفض العنف، عن أفكاري وأحلامي وقراراتي. في مقاومة منها أحياناً بالرفض وأحياناً بالفهم، تطوّرت إلى حد كبير عما كانت، وأصبحت حياتي أهدأ، مستقرة معها في بيت لا أحبه، مليء بالذكريات التعيسة، ومنطقة سكن لو قلت "أكرهها" لظلمت شعوري تجاهها.

"نصبحك بكلاب ونمسيكي بشتيمة"

المنطقة التي اختارتها أمي للسكن دون ذرة تفكير في الأولاد، ربما لو توسّعت في طريقة وصفي لها لأخذت أكبر من حقي في عدد كلمات مدونتي، لكن كل ما يمكن قوله عنها إنها منطقة تعرّضت فيها، بسبب اختلاف شكلي، لعنف لا يقلّ عمّا عاصرته في بيوت أقاربي، فالمدينة بأكملها مليئة بالتحرّش والعنف، لكن بهذه المنطقة تحديداً تحرّش من نوع خاص، بين من يلقي علي سُبّة مجانية جاهزة يومياً في انتظار قدومي، ومن يسلّط علي كلابه الشرسة لأن "شكلي مش عاجبه".

شكلي الذي أطوّعه كي يناسب المنطقة، ومن قبلها ليناسب ذوق أمي، كمّ الطبقات التي ألبسها وأخلعها تدريجياً حتى لا أدفع تكلفة لم أمتلكها حينها من طاقة وجهد تم هدرها كاملاً في مراحل سابقة، يكفي الطاقة التي تستنزفها مني المنطقة في المواصلات، فأقل مشوار لا يقل عن ساعة ونصف إذا كان قريباً منها.

يتكرر سؤال السماسرة: "متأكدة أنك مش متجوزة، أو مطلقة، أو حتى مخطوبة؟". سؤال إجابته شفهياً غير مقنعة لهم دائماً، فلا بد من فتح ساقي أمامهم كي يتأكدوا بأنفسهم من عذريتي على أقل تقدير

ثم في يوم أخذت الحقيبة، وأمي هي من تحملها مودعة في محطة القطار ببعض من الدموع، تلوم نفسها على فعلتها الأخيرة من ضرب أبي لي، شاعرة، بل ومتأكدة، أنني غير عائدة، انتابتني مشاعر بين "تخليص حقي منها" و"عايزة أطبطب عليها".

أعرف تاريخها من عنف سابق عاصرته في منزل المعنّف الأكبر والدها، وأعرف مراحل تطور فهمها للحياة من خلالي. لها معي مساحة من الخطأ ربما تجاوزتها، لكن لها مساحة مؤخراً من الصداقة لا يمكن إنكارها، بالنهاية أنا اليوم حرّة، سأعيش في منزلي بمفردي، وأتخلّص من كل الماضي بسلطاته وقيوده، وأحيا من جديد. كنت ساذجة جداً، لم أكن أعلم ما سألقاه.

لست بالسذاجة التي تخيّلت فيها أنني تحرّرت حرية كاملة من القيود والمجتمع. لا أنكر رغبتي العارمة في التحقيق، لكن لا أنكر أيضاً إدراكي التام للمجتمع الذي أحيا به. أقوم بالكثير من الأفعال من أجل تجنب التكاليف وفقدان نفسي تماماً. ما زلت أرتدي ما يناسب المنطقة التي اخترتها للسكن، وأراعي قواعد الرجال بالشارع والمواصلات ،إذا وجّهوني للوقوف أو الجلوس أو الخروج من الصف. جربت كثيراً الخروج عن القاعدة في الشارع ولم أجن سوى إهدار الطاقة والوقت وفقدان الأعصاب، ولكني تخيّلت أنني سأريح ظهري وأهدأ ولو قليلاً، لذا أقول إنه مازال هناك بقايا سذاجة.

لأني لم أكن أعرف أنه سيظهر لي أهم رجلين في حياتي اليوم: مالك العقار والسمسار.

فتاة مستقلة... ملكية عامة

فتاة تعيش بمفردها في مصر دون سبب، لا مغتربة، لا أرملة، لا يتيمة، إذن هي "بائعة هوى" -مع عدم اعتراضي على المهنة، هي فقط ليست مهنتي- أو على أقل تقدير ستكون لنا جميعاً.

اكتشفت عالماً آخر كنت أجهله تماماً. بداية، سعر وحدة السكن الصغيرة الذي تزايد لأضعاف مهولة لا يمكن أن تناسب أي شخص في بداية حياته، والتي تزيد أضعافاً بفرض إتاوات من قِبل الملّاك طالما الفتاة بمفردها.

قبل أن أجد سكناً، قابلت نماذج من الملاك لا حصر لها، أتذكر واحداً منهم عرض شقة لديه في بيته للإيجار. اكتشفت أنه يسكن في البيت بأكمله بمفرده، ولا يريد أي أسرة أو خلافه لإيجار الشقة المقابلة لشقته التي اختار أن يسكنها دون كافة طوابق بيته، بل يريد فتاة بمفردها، وله تعليمات في مواعيد الرجوع للمنزل، إذا تأخرت عليها سيغلق باب البيت بالجنزير، وله في شقة المستأجرة غرفة مغلقة يدخلها وقتما يحلو له، ولا يمكن لها أن تأتي بصديقاتها البنات، ولا حتى أهلها، للشقة التي ستدفع فيها إيجاراً وخدمات.

ظننت أنه مجنون وتركته فوراً، لأجد النموذج نفسه متكرّراً باستتار، لكن ربما هو كان صريحاً ووقحاً فأدلى بشروطه دفعة واحدة، لكن الملاك الآخرين يتلذّذون بإذلال المستأجر/ة، خاصة إذا كان وضعها مثلي، يقدمون لك حلولاً كي لا "تنحرفي"، منها أنه من الأفضل أن تسكني مع أخرى، أو بمجرّد التصريح أنك بمفردك يحدث التهرّب وعدم الرد، أو الرد بـ "ربنا يسترها عليك وعلينا جميعاً".

وبالنهاية إذا تكرم إحداهما ووافق، لا يكتب بالعقد مدّة أكبر من سنة، من باب تجربتك وقياس أخلاقك وشكل ملابسك ومواعيدك وزيارتك، وكل شهر تُفرض عليك مبالغ لا تعلمين من أين تأتي، وإذا لم تدفعي يؤذونك حتى ترحلي، ومن هنا يتم اللجوء إلى الوسطاء، أو في قول آخر "السماسرة".

أصبحت أتبع طقوساً خاصة بمكالمات السماسرة، أولها: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، مع بداية كل مكالمة، والكثير من الكلام المتعلق بالدين والصلاة على النبي والـ "ماشاء الله"، كي أبدو متحفظة كما يحبون

"أنا السمسار ومن حقي أتأكد إنك شريفة"

السماسرة، أصحاب تسعيرة المعاينة الإجبارية، وشرط دفع شهر إيجار له، إن كان إلى هذا الحد فمقدور عليه، لكن ماذا عن التلميحات بأنه "سيأتي لك إذا أردت؟"، أو "طب ما تيجي وأسكنك في شقتي؟". تستمر بالتأكيد وسائل دفاعي بالتوبيخ والشتائم أحياناً وغلق الهاتف، ولكن تبقى النظرة قائمة، لا يملّ أحدهم ولا يكلّ بإملاء شروطه هو الآخر عن شكل زياراتك وعدم صعود أي رجال لشقتك، حتى وإن كان الزائر والدك أو أخاك، وشرط أن يأتي الوالد ببطاقته الشخصية لتوقيع العقد بدلاً منك، أو في أقل تقدير تهديد بأنه سيراقبك، أو الاندهاش الكامل من كوني أمتلك فرشاً بسيطاً للمنزل، وإدلاء تلميحات بكوني مطلقة وأحتفظ بالسر لنفسي.

ثم تكرار السؤال: "متأكدة أنك مش متجوزة، أو مطلقة، أو حتى مخطوبة؟". سؤال إجابته شفهياً غير مقنعة لهم دائماً، فلا بد من فتح ساقي أمامهم كي يتأكدوا بأنفسهم من عذريتي على أقل تقدير.

أصبحت أتبع طقوساً خاصة بمكالمات السماسرة، أولها: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، مع بداية كل مكالمة، والكثير من الكلام المتعلق بالدين والصلاة على النبي والـ "ماشاء الله"، كي أبدو متحفظة كما يحبون، ثم بـ "دريس كوود" موحّد مع زياراتي معهم للشقق، يغلب عليها طول الأكمام والأرجل الطويلة، وحبك الشعر وحجم قرط الأذن الصغير، وانعدام المكياج، كي أتفادى الصدامات وأجد شقة بهدوء، مع حبك قصة لسبب سكني بمفردي "متخرّش الميه". أشكر أمي كثيراً على كل هذه التدريبات المجانية التي أعطتها لي في حبك الحكايات، كي يصدقني اليوم السماسرة مثلما كانت تصدقني هي.

أنا اليوم ماهرة في صنع الحكايات التي أمقتها، ربما استنزفت مني هذه الحكايات كل ما لدي من طاقة، أصبحت اليوم تشككني في قدرتي على الكتابة والسرد، في الأغلب ستكون هذه مدونة مملة، لأن أدواتي ربما اختفت ولم يكن لدي أي وقت كي أكتب بمزاج وراحة لم أعهدهما أصلاً.

لا أريد أن يقرأ أحد المدونة ويقدم إعجابه بها، أو يثني على أسلوبي الرفيع. لا أريد أي شيء سوى الهدوء، والسلام، وإيجاد سكن مناسب لفتاة تعيش بمفردها بمصر، وربما جميعها طموحات لا يمكن في يوم تحقيقها كاملة أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image