شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ثلاثة مفاهيم مغلوطة، بحاجة إلى إخراج الرأس من الرمل

ثلاثة مفاهيم مغلوطة، بحاجة إلى إخراج الرأس من الرمل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 21 أغسطس 202411:42 ص

المفهوم الأول: في الطب، أو في المنطق الطبي السليم والمتعارف عليه، لا يبدأ الطبيب بالعلاج فور وصول المريض إلى عيادته. تخيل أنك ذهبت إلى المستوصف أو العيادة شاكياً من آلام حادة في معدتك، ودون أن يكشف عليك أحد، ناولك وصفة طبية وأمرك بالتوجّه لصرفها من الصيدلية.

ليس كل دواء يصلح لأي مرض، وهذه جملة عبثية وزائدة عن الحاجة لكثرة ما هي مغرقة في العادية، لكن يبدو أنه لا بد من التذكير دوماً بالأشياء العادية أو المجرّبة أو المستهلكة حدّ الملل. لذلك لا بد من القول إن الطبيب يقوم أولاً، وقبل أي شيء بالتشخيص، هذه هي مهمته الأساسية أو الأولية؛ أن يعرف طبيعة المرض، أي مم يعاني البني آدم القادم إليه ويرجو المساعدة ويطلبها للتخفيف من ألمه وشكواه؟ وبعد أن يفهم المرض، الذي له اسم يميّزه عن باقي الأمراض بالضرورة (لا مرض بلا اسم، تماماً كما أن لا شيء في الدنيا بلا اسم يدلّ عليه) ينتقل إلى مرحلة العلاج.
بكل تأكيد، لا يوجد مجاملات في هذا العلم المدعو "طب"، بمعنى أنه لو اكتشف الطبيب أن المريض الجالس في غرفة التشخيص يعاني من سرطان البروستاتا، لا يجوز له، تحت حجج مراعاة مشاعر الأهل، أو الأخذ بعين الاعتبار أن هذا المريض قد يتغلّب على مرضه في كل الأحوال، لأن جسده قوي "ما شاء الله" أو لأن أمه تدعو له ليل نهار، أو حتى لأن علاج السرطان مكلف. لا يجوز للطبيب تحت هذه الذرائع أو غيرها أن يقول للمريض إنه يعاني من البواسير، ثم يبدأ بعلاجه على هذا الأساس.

ليس كل دواء يصلح لأي مرض، وهذه جملة عبثية وزائدة عن الحاجة لكثرة ما هي مغرقة في العادية، لكن يبدو أنه لا بد من التذكير دوماً بالأشياء العادية أو المجرّبة أو المستهلكة حدّ الملل
هذا جنون مطبق، أليس كذلك؟ لماذا إذن نرفضه في عالم الطب ونقبل به في عالم السياسة؟ أليست السياسة علماً كذلك، أم هي متاحة لكل من هبّ ودبّ أن يقدم فتواه فيها؟ لماذا نرفض التشخيص الحقيقي لما نحن فيه منذ ما أُطلق عليه مسمى النكبة وحتى اليوم، وذلك من أجل علاج حقيقي أيضاً؟

لقد سمينا "النكبة" بهذا الاسم لنهرب من مصطلح الهزيمة، لأن ذلك عيب ولا يليق بنا، لا يليق بكرامتنا وشرفنا، وكأن الكرامة والشرف ظلّ لهما مكان أمام غزارة الدم المسفوح ومرارة التشريد واللجوء. ومثل ذلك تعاملنا مع هزيمتنا وهزيمة الجيوش العربية عام 1967، فأطلقنا عليها مسمى "النكسة"، بما يريح ضمائرنا ببديل غير واقعي وغير حقيقي، وهو أننا كنا على وشك الانتصار لكن ظرفاً ما أعاق ذلك، ولا حول ولا قوة إلا به.

الأمل يجب أن يمتلك لغة سياسية وأدوات سياسية من أجل تحويله إلى حقيقة، إذ لا تكفيه الحسبنة أو القصائد

نحن نهرب من المسميات لا من الواقع الصعب، فالواقع يظل كما هو حتى لو قمنا بتجميله، وهذا الواقع بحاجة لدراسة حقيقية وغير خجولة ولا مهادِنة أو مجامِلة، وذلك من أجل الخروج منه، أي من أجل معالجته بالدواء الصحيح لا بالعنتريات ولغة الشعر.
لا يجوز أن تظلّ حلولنا لمشاكل مزمنة قائمة على انتظار المجهول أو الأمل فقط، فهذا الأمل يجب أن يمتلك لغة سياسية وأدوات سياسية من أجل تحويله إلى حقيقة، إذ لا تكفيه الحسبنة أو القصائد، ومن ثم تجاوزه كأن شيئاً لم يكن.
المفهوم الثاني: في الطب أيضاً، إن قرّر الطبيب أن يعالج مريضاً من داءٍ معيّن، فهو بالتأكيد سيذهب إلى الدواء المجرّب والأحدث لهذا الداء. لا يُعقل مثلاً أن تكون مضادات الهستامين إحدى خيارات الطبيب المجرّبة لالتهاب القصبات الهوائية، وبدل أن يصفها للمريض، يفتح معه حواراً حول الكيّ الذي كان يستخدمه الفراعنة أو الهنود الحمر قبل مئات السنين. لا يمكنك، بوجود آلاف الخيارات، أن تختار الكيّ كعلاج فعّال، حتى لو استخدمته الكرة الأرضية كلها قبل آلاف السنين وعلى مدار آلاف السنين.

كما لا يجوز لك في عالم السياسة أن تصرع رؤوسنا بالتجربة الفيتنامية والتجربة الجزائرية، وكأن عشرات آلاف التجارب الأخرى فاشلة، ولم يبق أمامنا إلا التضحية بالمريض ليشعر الطبيب بالزهو، أو ليبرّر انعدام خياراته بأثر رجعي.
المفهوم الثالث: في الطب أيضاً وأيضاً، إن جاءك مريض يشكو من مرض معدٍ، فإن هدفك الأساس هو أن تعالجه من هذا المرض. يمكنك أن تأخذ احتياطاتك، بل ويجب عليك ذلك، كي لا تنتشر العدوى بين المقيمين في المستشفى، أو بين أهل وأصدقاء المريض. ويمكنك أن تتخذ آلاف التدابير التي تجعل من هذا المرض محصوراً في جسد مريضك، حتى لو فشلت في معالجته. هذا هو هدف الطب: أن يعالج المريض ويمنع انتشار المرض.

لا يجوز أن تظلّ حلولنا لمشاكل مزمنة قائمة على انتظار المجهول أو الأمل فقط، فهذا الأمل يجب أن يمتلك لغة سياسية وأدوات سياسية من أجل تحويله إلى حقيقة، إذ لا تكفيه الحسبنة أو القصائد، ومن ثم تجاوزه كأن شيئاً لم يكن
لكن لنتخيل طبيباً يعجز عن معالجة مريضه، فيذهب للانتقام من الذي تسبّب له بالعدوى. كيف سيكون شعورك أيها البني آدم لو رأيت طبيباً يغيّر هدفه من علاج مرضاه إلى الانتقام والثأر ممن تسببوا بالمرض؟
إن كان ذلك لا يجوز في الطب فلماذا علينا أن نتقبّله في السياسة وفي الحروب؟ لماذا علينا أن نقبل أن يتحوّل نضالنا الفلسطيني (الذي هدفه الأول والأخير الحصول على حقوقنا في تقرير المصير كبقية شعوب الأرض) إلى ثأر هنا وثأر هناك؟ هل القضية الفلسطينية قضية ثأر من محتلّ سرق حقنا في الحرية، أم محاولات دائمة وحثيثة لاسترجاع هذه الحرية بشتى السبل؟ ولماذا انجرفنا مع التيارات والنخب والمثقفين الذين حرفوا هذا النضال عن هدفه الأساسي، ليصبح ورقة في يد كل من يريد الانتقام لنفسه تحت مظلة فلسطين وقضيتها؟
إن الانتقام والثأر، لا شك، يخفّفان عن النفس ثقل الشعور بالعجز وثقل الإهانة، لكنهما لا يضيفان لمسيرة الوصول إلى الهدف شبراً واحداً. ولو اتفقنا أن نضالنا يهدف إلى التخلص من أسباب الإهانة (إن أمكن تسمية ما نحن فيه بهذا الاسم) فإن فكرة الثأر والثأر المضاد لا يمكنها إلا أن تكرّس هذه الدائرة وتبعدنا عن هدفنا الرئيس.
هذه ثلاثة مفاهيم دخيلة على فكرة النضال والسعي لتحقيق الحقوق، وهي أصبحت للأسف من صميم ما يتعاطاه الإعلام ويكرّسه في عقول متلقيه، وكأنها ثوابت لا يمكن تفكيكها أو نقدها أو إعادة النظر فيها، بل وأصبح الحديث حولها أو انتقادها من المحرّمات إن لم يكن من الكبائر السياسية.

محطات لها أسماء، ومفكرون لهم حظوة ومنابر، تبنّوا هذا المنطق الذي لا يقيم وزناً للهدف الوطني الأسمى ولا لروح المواطن الثمينة، وأصبح كل شيء لديهم سهلاً ورخيصاً في سبيل ألا تخضع تصوراتهم للنقد أو لإعادة النظر، وفي سبيل ألا يعكر صفو نشوتهم الكاذبة أحد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard