فُوجئ سكان قرية أم الجمال في منطقة الأغوار الفلسطينية شرق الضفة الغربية، مؤخراً، بإقامة بؤرة استيطانية رعويّة بين أراضيهم.
فقد شرع المستوطنون ببناء خيام وحظائر في المنطقة، ثم قاموا بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي بتهجير سكان القرية يوم الجمعة 16 آب/ أغسطس 2024، بعد الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي وينابيع المياه في القرية، تمهيداً للاستيطان فيها.
"هذه ليست البؤرة الاستيطانية الأولى، فقد سبقها عدد من التجمعات الاستيطانية في الأغوار، وتحديداً في الأراضي التي أعلنت سلطات الاحتلال عن أنها "محميات طبيعية" قبل عدة أعوام"، يقول قدري ضراغمة (60 عاماً)، أحد سكان أم الجمال.
منعت السلطات الإسرائيلية قدري من دخول أرض قريته والرعي فيها، واعتقلت أبناءه وحررت بحقه مخالفة تجسدت بمصادرة 60 رأس بقر وغنم.
ويُحرم سكان القرية من مياههم التي تنبع من "نبع عين الحلوة" ومن دخول أراضيهم، بحجة إعلانها "محمية طبيعية"، بعد أن سيطر عليها المستوطنون المُدججون بالعصي والأسلحة، كما يصفهم قدري. "أيّ محميات هذه؟ إنها بؤر استيطانية"، يقول لرصيف22.
أراض شاسعة وغنية بالينابيع الطبيعية، تمتد على طول نهر الأردن شرق الضفة، يُغنيها الفلسطيني بوجوده فيها واعتنائه بها.
يُدفع اليوم إلى الرحيل منها بشتّى الطرق، تبدأ بالمضايقات ومنع الاستخدام، قد تمر بالعنف والقتل من قبل المستوطنين، وتنتهي بقرارات عسكرية ورسمية لمصادرة الأرض، ثم الاستيطان.
وكان الجيش الإسرائيلي قد قام بتهجير 26 تجمعاً فلسطينياً في الضفة الغربية خلال الأشهر العشرة الماضية، آخرها قرية أم الجمال.
ترافق ذلك مع إقامة نحو 30 بؤرة استيطانية وتحويل 70 بؤرة أخرى إلى مستوطنات "رسمية"، بحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان. في حين اعتبرت الحكومة الفلسطينية ذلك تطهيراً عرقياً يندرج في إطار ضم الضفة الغربية والاستيلاء عليها بالكامل.
المحميات… سياسة تهجير بيد المستوطنين والحكومة
ولعل سياسة إعلان الأراضي محميات طبيعية إسرائيلية، سياسة ممنهجة تتبعها إسرائيل الرسمية ومستوطنوها المدعومون من قبل حكومتهم.
فقبل حوالى تسع سنوات، وضع المستوطنون المقيمون في مستوطنة "ميهولا" (وهي أول مستوطنة إسرائيلية تُقام بعد احتلال الضفة في الأغوار)، نوعاً من أنواع السم وسط مراعي خربة الدير في قرية عين البيضا في الأغوار الشمالية، والتي اعتاد عبد ربه بني عودة (50 عاماً) وأبناؤه رعي أغنامهم فيها. فقدوا حينها 18 رأساً من الماشية.
ثم تكرّر الأمر قبل عام، إذ قتل المستوطنون 30 رأساً من الماشية. "فعلوا ذلك لأننا لم نقبل الخروج من أراضينا، رغم محاولاتهم العديدة"، يقول عبد ربه لرصيف22.
ويتابع: "والآن، يقومون بالتلويح بسلاح "المحميّة الطبيعية" من أجل فرض السيطرة الكاملة على هذه الأراضي التي تحدّها المستوطنات من جهاتها الثلاث".
"في الوقت الذي يتم فيه طرد الفلسطيني من أرضه، يأتي الاحتلال بمستوطن ويزوده بالماشية ويمهّد له الطريق. يمدّه بالكهرباء وبمكان صغير يبيت فيه. ثمّ يتحول المكان الصغير إلى مستوطنة تأكل أراضينا التي نُمنع من دخولها بحجج كثيرة، من بينها "المحميات الطبيعية"، يؤكد عبد ربه.
لا تأتي مخاوف المزارعين والرعاة في مناطق الأغوار من فراغ، إذ ليس بوقت بعيد، قامت السلطات الإسرائيلية بإعلان محميّة طبيعية في منطقة عين البيضا، وحوّلتها لاحقاً إلى مستوطنة "شدموت ميهولا"، وهي إحدى المستوطنات التي يلاحق مستوطنوها عبد ربه وسكّان الخربة.
في حالات عدّة، أظهر الفلسطينيون تمسكاً في أرضهم، ورفضاً للقرارات الإسرائيلية. "هناك محمية طبيعية في قرية طمون جنوب مدينة طوباس، وهي منطقة مصنفة "ب" (تتشارك فيها السلطة وإسرائيل السيطرة الأمنية)، تمنع السلطة الفلسطينية أصحابها من البناء فيها بسبب وجود اتفاقية بينها وبين الاحتلال. لكن أصحابها بنوا في أرضهم دون استصدار تصريح"، يقول الناشط أيمن غريب لرصيف22.
في الوقت الذي يتم فيه طرد الفلسطيني من أرضه، يأتي الاحتلال بمستوطن ويزوده بالماشية ويمهّد له الطريق. يمدّه بالكهرباء وبمكان صغير يبيت فيه. ثمّ يتحول المكان الصغير إلى مستوطنة تأكل أراضينا
ويردف: "الآن، بعد ملاحقة المنظمات الاستيطانية للأراضي المتفق على أنها محميات طبيعية بين الاحتلال والسلطة، يشعر أصحاب الأرض بحالة ذعر شديد بسبب احتمال خسارة بيوتهم ومزارعهم ومصدر رزقهم. وهم يعلمون تماماً أن مسمى محمية طبيعية سيسقط في اللحظة التي يسكن المستوطن هذه الأرض".
يشير غريب أن الفلسطينيين قاموا بزراعة منطقة عينون شرق طوباس بأشجار حرجية قبل ثماني سنوات. لكن السلطات الإسرائيلية اقتلعت الأشجار بحجة أن الأرض تابعة لمحمية طبيعية.
"وكأنّ الأشجار شيء غير طبيعي. ففي الوقت الذي يُمنع على الفلسطيني المكوث في الأرض المصنفة محمية طبيعية لأيّ غرض، سواء للسكن أو الرعي أو الزراعة أو حتى التجوّل، يُغّض النظر عن المستوطن الذي يرعى الغنم فيها، ويسرق الحجارة الأثرية منها، ويقطع أشجارها، ويبني حولها، حتى ينتهي الأمر بتوسيع مساحة المستوطنة التي ستبتلع المحمية الطبيعية ضمن مساحتها"، يؤكد غريب.
قرارات قديمة ومستمرة لخدمة الاستيطان
بدأت قصة "المحميات الطبيعية" الإسرائيلية في عام 1969، بقرارٍ عسكريّ يحمل الرقم 363، يخوّل الإدارة المدنية الإسرائيلية بالإعلان عن أية منطقة في الضفة الغربية المحتلّة "كمحمية طبيعية" أو "منطقة طبيعية".
ترافق الإعلان قيود صارمة على البناء واستخدام الأراضي للزراعة، ومن ثم تصير هذه الأراضي ملكاً للسلطات الإسرائيلية، فتغير مسمّياتها متى تشاء، وتلعب دور الوصي عليها لأيّ غرض تشاء.
في بداية هذا العام، أصدرت إسرائيل ثلاثة أوامر تقضي باقتطاع مساحات من أراضي مصنّفة على أنها محميات طبيعية فلسطينية، وإعلانها محميات طبيعية إسرائيلية، أو توسيع مساحة محميات تسيطر عليها إسرائيل بالفعل.
وتخترق إسرائيل بذلك اتفاقيات بينها وبين السلطة الفلسطينية تُحدّد عدد ومساحة المحميات الطبيعية التي تخضع للإدارة الفلسطينية. لكن هذه القرارات العسكرية بقيت قيد التخطيط طيلة الشهور الأولى، وأعلن عنها رسمياً في منتصف 2024.
"عندما حُددت المحميات الطبيعية بموجب اتفاقية أوسلو، تم تحديد جزء كبير منها بناء على تخطيط سياسي إسرائيلي، ولم تكن محميات حقيقية. فكانت أسلوباً من أساليب الاحتلال لمصادرة الأراضي الفلسطينية"، يقول عماد البابا، مدير دائرة التنوع الحيوي في سلطة جودة البيئة، لرصيف22.
بحسب الاتفاق، كان على السلطة الفلسطينية أن تستلم من إسرائيل 51 محمية طبيعية أصغرها مساحة تُقدّر بأقل من كيلو متر، وأكبرها تقدّر بنحو 220 كيلو متر، وهي محميّة البحر الميت.
بدأت قصة "المحميات الطبيعية" الإسرائيلية في عام 1969، بقرارٍ عسكريّ يحمل الرقم 363، يخوّل الإدارة المدنية الإسرائيلية بالإعلان عن أية منطقة في الضفة الغربية المحتلّة "كمحمية طبيعية"
لكنها لم تحصل إلا على 28 محميّة فقط. ومن مساحة المحميات هذه، أعلن الجيش الإسرائيلي في السادس من أيار/ مايو 2024 عن أمر عسكري جديد يقضي بمصادرة 49 ألف دونم، وإعلانها محميات طبيعية إسرائيلية "بحجة أنها واقعة في مناطق "ج"، (أي مناطق الضفة التي تسيطر عليها إسرائيل أمنياً وإدارياً وقانونياً).
ويوضّح البابا: "تصادر هذه الأراضي لأغراض استيطانية. هكذا فعلت إسرائيل، على سبيل المثال، بمحميّة جبل أبو غنيم جنوب شرقيّ القدس في العام 1996، فأقامت فوقها مستوطنة "هار حوما". وهي منطقة كانت مصنّفة محمية طبيعية منذ الانتداب البريطاني".
وتبلغ مساحة الأراضي الفلسطينية المعلنة كمحميات طبيعية في الضفة الغربية أكثر من 700 ألف دونم، أكثر من 80% منها في المناطق المصنفة "ج".
الأغوار الفلسطينية: الطبيعة غطاء للتطهير
يشير أمير داوود، مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، في حديث لرصيف22، إلى أنه "منذ مطلع العام 2024 فقط، صادرت سلطات الاحتلال ما مجموعه 44,840 دونمًا تحت مسميات مختلفة كالإعلان محميات طبيعية، و"أوامر استملاك" و"أوامر وضع يد". ومنذ عام 2015 حتى منتصف عام 2024، نلحظ تزايداً في معدلات مصادرة الأراضي الفلسطينية.
ويضيف: "تمتاز الأراضي التي تستهدفها سلطات الاحتلال بحجة هذا النوع من الأوامر العسكرية، بخصوبتها وطبيعتها الخاصة من حيث المزروعات والخصائص الطبيعية، الأمر الذي يجعلها عرضة في أي لحظة لإعلانها محميات طبيعية أو حدائق وطنية، بالرغم من زراعة وحراثة هذه الأراضي باستمرار من قبل أصحابها الفلسطينيين".
ويؤكد داوود على أنه بمجرد إعلان هذه الأراضي محميات طبيعية، يُمنع الفلسطينيون من دخولها وزراعتها واستصلاحها وحتى رعي الأغنام فيها.
"لكن الأخطر في هذا كله، أن هذا النوع من الأوامر العسكرية أصبح مكشوفاً، من حيث أنه يشكل تمهيداً لتسليم هذه الأراضي لصالح المشروع الاستيطاني، كما حدث سابقاً مع محمية جبل أبو غنيم، وكيف وصل بها الحال لتصبح واحدة من أكبر المستوطنات التي تقضم أراضي القدس"، يقول داوود.
إن منطقة السفوح الشرقية والأغوار في الضفة الغربية هي الأكثر تعرضاً لضمها كمحميات طبيعية نظراً لطبيعة الأراضي والمساحات الشاسعة، وفق هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
المنطقة الثانية الأكثر تعرضاً هي "شفا الأغوار"، وهي المناطق التي تطل على الأغوار، من أجل إطباق الحصار على الأغوار ومنع التواصل الجغرافي معها.
وبحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، فإن الاحتلال يستولي على حوالى 20% من أراضي الأغوار تحت مسمى "المحميات الطبيعية".
"تنظر إسرائيل إلى الأغوار بعين المستعمر الطامع، وتُقحم مسمى المحميات الطبيعية من أجل السيطرة عليها"، يقول الباب، مردفاً: "ما يقوم به الاحتلال من وضع سياج حول المحميّة، أو قطعها بجدار إسمنتيّ، أو إحاطتها بمواد وأدوات تعيق الحركة الطبيعية للحيوانات والطيور والنباتات، تتعارض مع أشكال الحماية، ولا تمتّ للحماية البيئية والطبيعية بصلة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...