نصب جميل شباكه وجلس جانباً ينتظر مرور أسراب الطيور، كان يتشوق لاكتشاف غنائمه التي ستعلق في الشبك، بعد أن تتبع أصوات العصافير التي يبثها عبر جهاز صغير أشبه بمكبر الصوت.
يعرف جميل (30 عاماً) ابن ريف طرطوس في الساحل السوري، جيداً كل الطيور التي تمر في منطقته، وبحكم خبرته الطويلة بعد عشر سنوات في الصيد، حفظ عن ظهر قلب الأوقات السنوية لمرور مختلف الطيور المهاجرة، وأيضاً تحركات تلك المستوطنة في البلاد.
لا يهتم جميل كثيراً بالأصوات المنادية بحماية البيئة وصون الأصناف المهددة من هذه الكائنات، فكل ما يهمه أكياس ممتلئة بالطيور بمختلف الأحجام والأشكال، ستملأ جيبه بمبلغ محترم، وحجته الدائمة كغيره من صيادي الشبك: "البلد ما فيها شغل، فهل نموت من الجوع؟".
الطيور المهاجرة تتعرض للصيد بأساليب مختلفة مثل الشبك والدبق، ولإطلاق النار بكثافة عليها عند عبورها.
في هذا التحقيق أردنا البحث في تجربة جميل وغيره من الصيادين السوريين ممن تمتلئ صفحات فيسبوك "بجرائمهم بحق الطيور"، وما خلف ذلك من تناقص أعداد الكثير من الأصناف والأنواع التي كانت موجودة في البلاد، وترك آثاراً بيئية لن تمحى بسهولة.
أسباب مختلفة وقوانين مغيّبة
في البداية يشرح الباحث والخبير بالطيور، ماهر ديوب، لرصيف22، العوامل الموجودة في سوريا والتي تسبب مخاطر بحق الطيور، ويقول إنها تتثمل أولاً بفقدان الموائل من خلال التغييرات في استخدام الأراضي أو الغطاء الأرضي، وثانياً الصيد الجائر لمختلف أنواع الطيور، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية مثل المياه وموارد الغابات، فضلاً عن التلوث الكبير الذي تسببه الانبعاثات الغازية والنفايات السائلة والمواد الكيميائية، وكذلك التغيرات الهيدرولوجية جرّاء التدخل في أنظمة إعادة تدفق المياه والأنهار.
ويتابع ديوب أن من بين الأمور التي ألحقت الضرر الكبير بالطيور، التسمم بالمبيدات الناجم عن الأنشطة الزراعية المكثفة، وختم الأسباب بالتنويه إلى إدخال أنواع غريبة غازية من الطيور ساهمت بتقليل أعداد بعض الأنواع المحلية.
حاولنا البحث عن أبرز الأصناف المهددة محلياً والتي باتت أعدادها في تناقص، وفي هذا السياق يذكر عامر كيخيا، رئيس لجنة مربي طيور الزينة في غرفة زراعة اللاذقية، إن سورية تعتبر خط عبور للطيور المهاجرة التي تمر في أيلول/ سبتمبر أو بداية تشرين الأول/ أكتوبر، وهي تطير بارتفاعات مختلفة حسب نوعها، وقد يستقر بعضها كالشرشوريات ثم تهاجر في الربيع، والشرشوريات هي فصيلة من الطيور المغردة ذات حجم صغير تنتمى إلى رتبة العصفوريات.
ويوضح كيخيا بأن الطيور المهاجرة تتعرض للصيد بأساليب مختلفة مثل الشبك والدبق، بالإضافة لإطلاق النار بكثافة عليها عند عبورها، ولا تعتبر الطيور المحلية بوضع أفضل، فهي تتعرض في فترة الإنتاج والتكاثر لسرقة الأعشاش، كما يحدث مع البلبل السوري والهدهد والشحرور والأوراسي والحسون.
ورغم أن القانون يجرم هذا السلوك، لكن القيام بجولة على مواقع التواصل الاجتماعي تكشف وجود أعشاش معروضة للبيع، وبأسماء علنية دون أي خوف، بحسب قول كيخيا.
لا يهتم جميل كثيراً بالأصوات المنادية بحماية البيئة وصون الأصناف المهددة من هذه الكائنات، فكل ما يهمه أكياس ممتلئة بالطيور بمختلف الأحجام والأشكال، ستملأ جيبه بمبلغ محترم، وحجته الدائمة كغيره من صيادي الشبك: "البلد ما فيها شغل، فهل نموت من الجوع؟"
وينص القانون الرقم 14 الناظم للصيد البري في سوريا، والصادر نهاية عام 2023، بصريح العبارة على محاربة هذه الظاهرة، وتنص المادة 11 منه على أنه "يُمنع نزع الأعشاش أو إتلافها أو نقلها، كما يمنع إيذاء أو إتلاف بيوض أو فراخ الطيور أو صغار الحيوانات البرية، أو الإتجار بها"، وتتحدث المادة 22 عن "عقوبة من يقوم بذلك بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر أو بالغرامة من مئتين وخمسين ألف ليرة إلى خمسمئة ألف ليرة سورية".
وبرأي كيخيا، فإن قانون الصيد الموجود "جيد جداً وشمولي لكن تطبيقه صعب، إذ لا يمكن وضع عنصر حماية للطيور المهاجرة عند كل شخص، ولا يمكن تحديد من هم الصيادون وأين يصيدون، بسبب كثرة الأعداد، لهذا يجب تكاتف المجتمع مع الدولة لتطبق القانون، مثل التبليغ عن الأشخاص المخالفين".
أنواع متناقصة
وبالنسبة للأنواع المتأثرة بالصيد الجائر، يحدثنا إيهاب جبر، وهو ناشط بيئي من مدينة سلمية في محافظة حماه وسط سوريا، بأن أبرز الطيور التي انقرضت محلياً طائر أبو منجل، إذ كانت تملك سوريا عدة أزواج منه في محميتي جبل عبد العزيز وتدمر، ولكن بعد عام 2015 لم تسجل أي مشاهدة له.
ويتابع جبر المهتم بتصوير الحيوانات البرية والطيور، بأن طائر النقار السوري من الأنواع المهددة محلياً، فهو يواجه تناقصاً كبيراً في العدد بسبب الصيد الكثيف وقلة الموائل واستخدام المبيدات الحشرية، ويشرح جبر في حديثه لرصيف22 أن النقار يحب البيئة السليمة، ولهذا يبتعد عن تلك الملوثة بالمواد الكيميائية.
ويسرد جبر أصنافاً أخرى تراجعت أعدادها في البيئة السورية، مثل البط الكستنائي الذي ينتشر في نهر الفرات وسبخة الجبول في حلب، وهو زائر شتوي، والبط أحمر الرأس، والحجل أو الفري، ويؤكد جبر بأنه لم يشاهده منذ سنوات، والأمر ذاته ينطبق على السُمن المغرد، الذي وصفه جبر بأنه "حلم الصياد"، وبعدما كان يمر في أراضينا بالمئات، باتت أعداده قليلة جداً وفي أحسن الأحوال يمكن رؤية ثلاثة أو أربعة لا أكثر، واليمام المطوق، واليمام الطويل الذيل، والحباري، وعصفور التين الذي يعتبر وجبة رئيسية في المطاعم، وبسبب صغر حجمه يتم صيده بأعداد كبيرة بواسطة الشبك.
كما يشمل هذا التراجع طائر النعار، وهو عصفور بحجم الحسون، أشارت دراسة حديثة للجمعية العالمية لحياة الطيور إلى أن "أعداده تراجعت إلى مستويات غير معهودة من قبل وبات مهدداً بالانقراض"، وعزت الأسباب إلى "الجفاف والرعي الجائر وقطع الاشجار والصيد"، ولفتت إلى أن "تراجع أعداده بدا واضحاً منذ العام 1996 نتيجة لهذه الأسباب مجتمعة في لبنان والأردن وسوريا بشكل خاص".
المشاهدات التي قدمها ابن مدينة سلمية لا تختلف عن التي قدمها أبناء المحافظات الأخرى، فمحمد الكاسر المقيم في مدينة مصياف في محافظة حماه والمهتم بالطيور، يوضح أن أكثر الطيور التي اختفت هو نقار الخشب السوري، كما تناقصت أعداد الحسون والفري، وكذلك الأمر بالنسبة للسمن، بالإضافة لمعاناة طائر الفلامنغو الذي كانت أعداده كبيرة في سبخة الجبول في حلب وبلدة أبو ضهور في إدلب، وتراجعت أيضاً بسبب الحرب.
طائر النقار السوري من الأنواع المهددة، فهو يواجه تناقصاً كبيراً في العدد بسبب الصيد الكثيف وقلة الموائل.
ويلفت الكاسر في حديثه لرصيف22، إلى "كارثة" الصيد بالشباك التي تمتد على مسافة كيلومترات، ولتكتمل الجريمة يضع الصيادون قربها جهاز بث يصدر منه صوت الطائر الذين يريدون صيده، فيتبع الصوت ليقع في الشبك ويعجز عن الخروج ويتم اصطياد المئات منه.
صنف آخر مهم هو القطاط الاجتماعي، أو الزقزاق الاجتماعي، وهو أحد الطيور المهاجرة المهددة بالانقراض بشكل حرج بحسب الاتحاد العالمي لحماية الطبيعة، يفرّخ شمالاً في وسط وشمال كازاخستان وجنوب روسيا, وتهاجر الأسراب بعد نمو الفراخ إلى الشرق الأوسط وشمال شرق أفريقيا وشمال الهند.
ويذكر أحمد أيدك وهو مهندس زراعي وناشط بيئي، بأن هذا الطير يزور سوريا، من شهر شباط/ فبراير حتى نيسان/ أبريل، وأيضاً في أيلول/ سبتمبر، لافتاً إلى أن أكبر الأسراب ظهرت في الشمال قرب الحدود التركية، كما ينتشر بشكل واسع في أغلبية منطق البادية شمال وجنوب دير الزور وشمال الرقة.
ويتابع أيدك لرصيف22: "المخاطر الرئيسية التي تواجه الزقزاق الاجتماعي في مناطق تكاثره تتمثل في ازدياد التوسع السكاني والصناعي والزراعي، ما يؤثر سلباً على الأرض الخاصة بالتكاثر، إضافة إلى تخريب الأعشاش بالآليات وحوافر الحيوانات، والتهام البيض والفراخ من قبل الثعالب والكلاب والقنافذ والغربان. أما المخاطر خلال الهجرة، فهي تكمن في تخريب أراضي السهول، والصيد الجائر".
ومن الصفات التي يمتاز بها هذا الطير أنه يتغذى على اللافقاريات الصغيرة مثل الديدان والحشرات، ويبدّل لونه مرتين في السنة، فله حلة صيفية فاتحة اللون أقرب إلى الرمادي الفاتح، وحلة شتوية لونها بني تتماشى مع الأحوال الجوية.
انتشار الآفات
تناقص أعداد الطيور في سوريا بسبب الأسباب المذكورة لا ينجم عنه فقط نقص في مصادر الجمال الطبيعي المحلي، وإنما يخلق مشاكل بيئية، ويتحدث الناشط البيئي يمان عمران، عن انتشار الآفات الزراعية بسبب غياب المفترس الطبيعي لها، ويقدم مثالاً عن الحلزون، فهو يعتبر فريسة للسمن المغرد، ولكن بسبب الصيد الكبير لهذا الطائر خاصة في أقصى الشمال والجنوب، بدأت تتكاثر بشدة أعداد "اس بي هيلكس" وهو نوع من الحلزون يهاجم محصول التبغ الرئيسي لأهل الساحل.
ويضيف يمان لرصيف22، بأن من الآفات التي ازدادت جادوب الصنوبر، ورغم وجود كثير من الطيور التي تأكله، لكن غالبيتها تتعرض للصيد الجائر مثل الوقواق الأرقط الكبير، ورغم أن الجادوب لا يعتبر عالمياً آفة زراعية لكنه محلياً تحول إلى ذلك، وهو عبارة عن آفة تصيب أشجار الصنوبر وتلتهم أوراقها، كما أنها تسبب التهابات جلدية وحساسية في العين وخاصة أثناء التماس المباشر معها كونها سامة في بعض أطوارها.
مبادرة في السويداء
أمام هذا المشهد القاتم، ظهرت بارقة أمل محلياً، فاجتاحت صفحات مواقع التواصل في الفترة الأخيرة دعوات أهلية أطلقها سكان محافظة السويداء جنوب سوريا، يدعون من خلالها الأهالي والصيادين للامتناع عن صيد طيور الحجل خلال فترة التزاوج وفقس البيض والتي تنتهي في آب/ أغسطس الحالي.
ولفت أصحاب التعميم، إلى أن سبب إطلاق الحملة يرجع لتناقص أعداد هذا الطائر بشكل كبير في المنطقة، نظراً لتراجع الموائل والصيد الجائر، ولهذا وجهوا تحذيراً بأن أي خرق للقرار، "سيتم التعامل بحسب العرف والعادات".
تناقص أعداد الطيور في سوريا بسبب الصيد الجائر لا ينجم عنه فقط نقص في مصادر الجمال الطبيعي المحلي، وإنما يخلق مشاكل بيئية، مثل انتشار الآفات الزراعية بسبب غياب المفترس الطبيعي لها أي الطيور
ويوضح المسؤول الإعلامي في الحملة شام حمدان لرصيف22، بأن الحملة أطلقها بعض صيادي القرى الذين يعتبرون الصيد هواية ومصدر رزق يجب المحافظة عليه، ويشرح بأن المبادرة كانت في البداية مجرد دعوات فردية، ثم تناقلتها الصفحات الإخبارية في المحافظة، فنجحت في التوسع إلى مناطق جديدة، وشملت قرى الريف الجنوبي والشرقي والغربي، وأمام نجاح الحملة طالب القائمون عليها بتمديدها والدعوة لعدم صيد الحجل طوال العام، تحت شعار "لنبقي سلاح الصيد نظيفاً".
وتعد محافظة السويداء بيئة مناسبة لطيور الحجل، ويمتاز هذا الطائر بأنه يبني عشه بين الشجيرات والأحراش، كما يتميز بقلة طيرانه، ما يجعله عرضة للصيد بشكل كبير.
الحملة تركت انطباعات إيجابية كبيرة بين أهالي السويداء وبقية المحافظات، ويأمل الكثيرون بتعميمها لتشمل مناطق أخرى وتحمي أصنافاً عدة من الطيور التي اعتدنا مشاهدتها في السماء السورية.
تصوير الناشط البيئي علي إبراهيم
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه