"هل أرحلُ عنك وقصّتنا أحلى من عودة نيسانِ؟
أحلى من زهرةِ غاردينيا في عتمة شعرٍ إسبانيّ
يا حبّي الأوحد لا تبكي… فدموعك تحفرُ وجـداني
إني لا أملكُ في الدنيـا إلا عينيك وأحزاني".
لم أشعر من قبل كم أني أحب وأتألم من قصيدة "نهر الأحزان" للشاعر السوري نزار قباني، كما فعلت مؤخراً، عندما سمعت مجدداً، بسام كوسا (بدور نجيب) وهو يلقيها في إحدى حلقات الجزء الأول من مسلسل "الفصول الأربعة" (1999).
كان العام 2004 عندما شاهدت المسلسل للمرّة الأولى، وكان عمري حينها لا يتجاوز العشرة أعوام. كالملايين في العالم العربي، حُفر هذا المسلسل في ذاكرتي وذاكرة عائلتي. لم أفهم طبعاً وقتذاك لماذا. كنت مجرد طفلة، تشاهد للاستمتاع. لم أفهم لماذا إلا في تموز/ يوليو 2024، عندما قررت مجدداً، في لحظة حزن شديدة، بعفوية مطلقة غير مفهومة، وبعد عشرين عاماً، أن أفتح يوتيوب، وأعيد مشاهدة المسلسل من جديد.
كان العام 2004 عندما شاهدت المسلسل للمرّة الأولى، وكان عمري حينها لا يتجاوز العشرة أعوام. كالملايين في العالم العربي، حُفر هذا المسلسل في ذاكرتي وذاكرة عائلتي. لم أفهم طبعاً وقتذاك لماذا. كنت مجرد طفلة، تشاهد للاستمتاع. لم أفهم لماذا إلا في تموز/ يوليو 2024
هل الأمر مجرد "نوستالجيا" (حنين إلى الماضي)؟ لا أعرف. ولكني أعرف جيداً، أني أعدت مشاهدة المسلسل بجزئيه حلقة حلقة في أقل من أسبوعين. وأني بكيت وضحكت كثيراً، مع كل شخصية بتعابيرها، مع كل حلقة بقصتها، ومع كل مشهد بمعانيه.
لنبدأ من البيت. البيت الدمشقي البسيط الذي تسكنه عائلة، لن أسميها "سعيدة"، بل سأطلق عليها صفة "راضية". بيت سكنته الضحكات والدموع والقصص لكل فرد من أفراده (الأم والأب والعمة والابنة)، أو أهله (البنات الثلاث المتزوجات وعائلاتهن).
راقبت تفاصيل منزل العائلة في "الفصول الأربعة"، الصور المعلّقة والمزهريات والنباتات، صحن المجدرة وخزانة الزجاج التي يُمنع على الجميع "باستثناء الأم" لمسها. وراقبت بتركيز شديد تعابير وجوه أهل البيت، وضحكاتهم، ودموعهم، ونظراتهم.
اشتقت للمنزل الذي يضج بالعائلة. يضج بقصص تحكي كلاً منا، بنجاحاتنا، وفشلنا، وحبنا، وخوفنا، وعملنا، ودراستنا، ومجتمعنا.
في الحلقة الأخيرة من الجزء الأول، يُعيد الأب (خالد تاجا، بدور كريم) بناته المتزوجات إلى منزل العائلة، ومن شدة حنينه للماضي، يحاول منع أزواجهن من الاقتراب. أتمنى الآن أن يعود أبي ويُعيد كل أخواتي إلى المنزل، ونعيد معاً فتح كل دفاتر الذكريات، ونضحك إلى حد البكاء.
الأب والجد. الراحل خالد تاجا. كم كان بارعاً في جعلنا نتمنى لو أن كل آبائنا مثله، يشبهونه بحبه وحنانه ومعاملته لبناته وتفهمه لهن. وكم كان بارعاً في التعبير عن عواطفه. في نهاية إحدى حلقات المسلسل، وخلال مشهد جنازة رمزية للراحل نزار قباني، يبكي تاجا ويقول: "الدنيا لسه بخير، إذا في بلد كامل بيطلع بجنازة شاعر".
الدنيا لم تعد بخير يا خالد تاجا. رحلت أنت بعد أشهر قليلة فقط من بداية الحرب في سوريا. سوريا التي عرفتها وأحببتها لم تعد بخير، وجيرانها في فلسطين ولبنان أيضاً ليسوا بخير.
في بعض حلقات الجزء الثاني من "الفصول الأربعة"، يظهر كريم، وهو كبر كثيراً في العمر وبدأ ينسى، فترتعب العائلة والأحفاد. تذكرت جدي وجدتي، وأيامهما الأخيرة. أشتاق لهما، لقصصهما، لجدتي حين كانت تغني "يا أبو العيون السود"، وحين كانت تنسى أن جدي زوجها، وتقول إنها ليست متزوجة، فيغضب هو، وغضبه لم يكن أكثر من حزن بأن شريكة حياته قد نسيته.
وقبل أن نذهب للأم. سأبقى في نوستالجيا الأب، وبدور عادل (جمال سليمان)، الأب الذي فقد زوجته ولعب دور الأب والأم لابنته الوحيدة، نارا. في الحلقة الثانية من المسلسل، تمرض نارا، فيفقد عادل أعصابه، خوفاً من فقدانها كما فقد زوجته.
الفقد، شعور عشته واختبرته كثيراً. شعور يُفرغ الروح والقلب من كل جميل. عادل يذكرني كم أفتقد، ونفتقد جميعاً ما نسميه "الحب الحقيقي". استمر عادل في حب زوجته بعد رحيلها، بقيت صورها معلقة على حيطان منزله، استمر في تذكرها دائماً، وفي البكاء عليها والحنين إليها.
أسأل نفسي مجدداً بعد مشاهدة "الفصول الأربعة"، هل يوجد رجل في هذا العالم اليوم، وفيّاً فعلاً كعادل لشريكته على قيد الحياة أو بعد وفاتها؟
سأترك الإجابة لكل امرأة منا ذاقت طعم الخيانة.
وقبل أن أنتقل للأم، أعترف، لقد اشتقت لجمال سليمان قبل الحرب السورية، ولوجوده في دراما بلاده. واشتقت للإنتاج الدرامي البسيط، الذي يحكي واقعنا لدرجة تشعرك أنك أنت بنفسك تجسد كل شخصية في العمل في مرحلة ما من حياتك.
أسأل نفسي مجدداً بعد مشاهدة "الفصول الأربعة"، هل يوجد رجل في هذا العالم اليوم، وفيّاً فعلاً كعادل لشريكته على قيد الحياة أو بعد وفاتها؟ سأترك الإجابة لكل امرأة منا ذاقت طعم الخيانة
نبيلة النابلسي (بدور نبيلة)، الأم والجدة. جعلتني أتمنى أن أكون أماً، وأختبر شعور الأمومة، وأكون مثلها، بتقليديتها وطيبتها وطريقتها العفوية في جمع العائلة. نبيلة أيضاً، ذكرتني في إحدى حلقات الجزء الثاني، عندما شعرت بحاجتها لأن تُحفر كامرأة في ذاكرة الرجل، بعد أن لاحظت أن زوجها كبر وبدأ يتذكر والدته وينساها، كم نحن نحتاج حقاً، جميعاً كبشر، أن نُحفر في ذاكرة أناس يحبوننا فعلاً قبل أن نموت.
نعم، أحتاج أن أكون أماً. لكن أنطوانيت نجيب (نعيمة) مدبرة المنزل التي لعبت دور الأم من دون أن تصبح أماً، وهالة شوكة (جميلة)، العمة التي لعبت دور الأم دون أن تصبح أماً، ذكرتاني مجدداً بأن الأم ليست من تلد، بل هي ببساطة كل امرأة تحب وتربي وتضحي.
بدأت مقالي هذا ببسام كوسا، وأعود إليه الآن. نجيب، الرجل المبدئي، المثقف، المتعلم، جعلني أعيد التفكير بكل الرجال الذين من حولي وأن أحاول تحليل شخصياتهم، وأعدت استذكار كل المبادئ التي مثلها نجيب في الفصول الأربعة، ولم أجد أكثر من أنها تختفي شيئاً فشيئاً من عالمنا.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كوسا بلا منازع، هو عميد الدراما السورية. صدقوني، ليس من السهل أن تجعل المشاهد يحب شخصية رجل "حسود" وإن كان صاحب مبدأ.
لن أطيل الحديث عن بنات كريم. فاتن (الجميلة والغنية)، مجدة (المتعلمة والفقيرة)، شاديا (غير المتعلمة، الفقيرة والمتزوجة من رجل مثلها)، وناديا (صغيرة المنزل، الباحثة الاجتماعية غير المتزوجة). جميعهن يمثلن بالنسبة لي المرأة بكل اختلافاتها وتناقضاتها.
في إحدى حلقات الجزء الثاني، تُطرح قضية العنف ضد المرأة، وتكتشف كل نساء العائلة أن جميع رجالها "عنيفون"، لأنهم لم يحركوا ساكناً لتغيير قانون الأحوال الشخصية السوري الذي يظلم المرأة في الكثير من مواده.
رحل مخرج العمل حاتم علي، وأبرز نجومه، ومضى على "الفصول الأربعة" 25 عاماً، لكن صدقوني لم تختلف قوانين الأحوال الشخصية في الكثير من الدول العربية، ولا تزال المرأة تطالب بكل ما طالبت به نساء عائلة كريم.
مشاهدتي للمسلسل من جديد جعلتني أتمنى لو أستطيع تقمص شخصية "برهوم" التي يؤديها الممثل أندريه سكاف. أن تكون الشخص الذي "ما بهمه شي"، مهما تراكمت عليه مصائب هذه الحياة.
كم تمنيت بعد كل انتكاسة أن أصبح الشخص الذي "ما بهمه شي". صدقوني، لم تتمكن كل بوستات السوشيل ميديا ولا فيديوهات "اللايف كوتشينغ" ولا مؤثرو هذه الأيام، من مساعدتي في ذلك.
أعاد "الفصول الأربعة" لي الكثير من الذكريات، وجعلني أفكر من جديد بعالمي الخاص، وبكل هذا العالم من حولي، الذي لم أعد أراه أكثر من وحش يريد التهامي.
رؤيتي لرامي حنا بدور مازن في "الفصول الأربعة" ذكرتني كم هو مخرج بارع. تذكرت مسلسل "غداً نلتقي" وكيف أعاد البريق للدراما السورية وانعكاسها للواقع، بعد معاناة عدة سنوات خلال الأزمة. أما رؤيتي لديما بياعة (سوسو)، فقد جعلتني أتمنى لو تعود الممثلات السوريات لسابق عهدن، قبل عمليات التجميل والمسلسلات المشتركة والمعربة.
كل حلقة من الفصول الأربعة حملت قصة إما عشتها بنفسي، أو شهدت عليها طوال سنواتي الثلاثين في هذا العالم. عشت خريف الحياة وشتاءها، ربيعها وصيفها، عشتها بكل فصولها، ولكن يبدو أن ما أعادني لمشاهدة "الفصول الأربعة" من جديد لم يكن الحنين، بل الوجع، والحاجة إلى شعور "أيام ما كانت الدنيا بخير".
نجح حاتم علي في إخراج الحياة بكل فصولها إلينا. لكن من يُعيد إخراج حياة اليوم، التي لم تعد كما في "الفصول الأربعة" من 25 عاماً؟
من يُعيد لنا لقاءات العائلة بدون هواتف ذكية؟ من يُعيد لنا خروجات أولاد الخالات والعمات والأصدقاء من دون أن تمتلئ السوشيل ميديا بصورهم؟ من يُعيد لعلاقات اليوم الحب الحقيقي والوفاء الذي يمثله كريم وعادل؟ من يُعيد خوف الأب على ابنته من دون أن يخنقها؟ من يُعيد صورة المرأة التي تدافع عن حقوقها من دون نسوية مفرطة؟ من يُعيد إحياء مبادئ نجيب في ظل حروب أفقدت العالم انسانيته؟ ومن يُعيد بساطة برهوم في عالم مادي يقاس فقط بالمال والثروات، ومؤخراً بالذكاء الاصطناعي؟
أعاد "الفصول الأربعة" لي الكثير من الذكريات، وجعلني أفكر من جديد بعالمي الخاص، وبكل هذا العالم من حولي، الذي لم أعد أراه أكثر من وحش يريد التهامي.
مرت 25 عاماً، فمن يعيد تشكيل فصول هذه الحياة بعد رحيلك يا حاتم علي؟
ومن يعيد تشكيل فصول حياتي؟
يبدو أن معالجي النفسي فشل في المهمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...