عند انطلاق بث إذاعة دمشق في شباط/فبراير 1947، أراد آباؤها المؤسسون أن يجعلوا منها مؤسسةً ثقافيةً وفنيةً، ترعى المواهب الشابة وتستقطب البارزين من أهل الفن والفكر. شكّلوا مجلس إدارة مؤلفاً من ممثلين عن وزارتي الخارجية والمعارف، مع مندوب عن الجامعة السورية وخبراء في الموسيقى والفنون.
ضمّ المجلس التأسيسي كلاً من نائب دمشق وراعي الفنون فخري البارودي، الباحث الموسيقى ميشيل الله وردي، ورئيس الجامعة السورية الدكتور قسطنطين زريق. كان لهم دور ريادي وسبّاق في توظيف المذيعات، ومنهنّ إحسان البيات (زوجة المفكر القومي سامي الدروبي)، وعبلة خوري (قريبة الرئيس فارس الخوري)، والإعلامية الفلسطينية فاطمة البديري.
خلال السنوات الأولى من البث الإذاعي، أقيمت فقرة خاصة بالموسيقى الكلاسيكية، واستُقدمت أجهزة إرسال حديثة ليتخطى البحث حدود العاصمة السورية، فنُصبت أعمدة بث جديدة في منطقة الصبورة في ريف دمشق، ومدينة سراقب في ريف إدلب، كما شُيّدت محطات تقوية في حلب ودير الزور وحمص وطرطوس. ومع تقوية البث، صارت الإذاعة تُسمَع في تركيا، فأطلقت برنامجاً موجهاً إلى السوريين في لواء إسكندرون، وبرنامجاً آخر موجهاً إلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
كان برنامج "من نشوة الماضي"، أحد أشهر محطات الإذاعة في بدايتها، وقد أطلقه الفنان السوري مصطفى هلال، سنة 1948. هدف البرنامج إلى توثيق الأغاني الشعبية العربية والترويج لها
كما أسست فرقةً موسيقيةً دائمةً للإذاعة باسم "الماندولينيات"، بقيادة الموسيقار الفلسطيني يوسف بتروني، وعمل فيها الملحن الفلسطيني يحيى السعودي، والموسيقار اللبناني رياض البندك. انضمت إذاعة دمشق إلى المجموعة الدولية للإذاعات الأوروبية، وفي أيلول/سبتمبر 1953، أطلقت مجلة الإذاعة نصف الشهرية باسمها واستوردت آلات أوركسترا سمفونية ماركة "بتروف"، وأُرغم جميع عازفي الإذاعة على أن يتعلموا عليها، وأن يتعلموا النوتة الموسيقية بدلاً من الارتجال في العزف.
برنامج "من نشوة الماضي"
كان برنامج "من نشوة الماضي"، أحد أشهر محطات الإذاعة في بدايتها، وقد أطلقه الفنان السوري مصطفى هلال، سنة 1948. هدف البرنامج إلى توثيق الأغاني الشعبية العربية والترويج لها.
وُلد هلال سنة 1909، وكان والده ضابطاً في الجيش العثماني، بينما كانت أمّه تجيد العزف على العود في جلساتها النسائية الخاصة. درس الطوبوغرافيا في المعاهد الفرنسية، وعمل في أمانة العاصمة (محافظ دمشق أقترح حذفها أو توضيحها) نهاراً، وفي الليل كان يمثّل ويخرج المسرحيات في نادي الكشاف الرياضي الفني.
تحضيراً للبرنامج، جال على المسنّين وفي يده دفتر صغير لتدوين ذكرياتهم الموسيقية، سواء ما سمعوه من جدّاتهم أو في الأعراس والمناسبات. التقى مغنّيات طاعنات في السن، عملن في مسارح دمشق في نهايات القرن التاسع عشر، وعاد لتسجيل ذكرياتهنّ في برنامج "ريبورتاج موسيقي"، الذي تحول اسمه إلى "من نشوة الماضي".
أعلن حافظ مصطفى هلال عن تقديمه جائزةً بقيمة 100 ليرة سورية (45 دولاراً)، لكل من يأتيه بأغنية فولكلورية قديمة لم تكن موجودةً في أرشيف الإذاعة.
حافظ مصطفى هلال على التراث الشعبي السوري بكل ألوانه، وأعلن عن تقديمه جائزةً بقيمة 100 ليرة سورية (45 دولاراً)، لكل من يأتيه بأغنية فولكلورية قديمة لم تكن موجودةً في أرشيف الإذاعة. لم تكن ميزانية الإذاعة تسمح بهذا السخاء، وقد اعتمد هلال على فخري البارودي لتمويل المشروع.
كانت تصله الأغنيات بألحان وكلمات مختلفة، بعضها باللهجة الفلسطينية، وبعضها باللهجة المصرية أو العراقية، مع تباين واضح بين اللهجات الحلبية والدمشقية. وكانت حلقته الأولى عن أغنيتَي "طالعة من بيت أبوها" و"قدّك المياس" التراثيتين، اللتين غنّاهما بعد سنوات المطرب السوري صباح فخري بصوته، وباتتا مرتبطتين باسمِه وتاريخه الفني. ومن الأغنيات الشعبية التي قام مصطفى هلال بإحيائها كانت "بيلبقلك شك الألماس" التي أعاد الأخوان رحباني توزيعها، وكانت مأخوذةً من التراث الدمشقي، لتغنّيها فيروز.
لم تقتصر مهمة هلال على الأغنيات المجهولة، إذ أحيى قصائد قديمةً مثل "يا ليل الصبّ متى غده" للشاعر القيرواني علي الحصري، والتي قدّمها للمطرب السوري "فتى دمشق" لتسجيلها في الإذاعة سنة 1951، قبل سنوات من انتشارها الواسع بصوت فيروز.
واجهته مشكلة في كلمات الكثير من هذه الأغاني، لأن بعضها كان "مبتذلاً" تماشياً مع جمهور الملاهي، حيث كانت تُقدَّم في الأساس، واضطر هلال إلى تعديلها وتهذيبها دون المس بجوهرها، لكيلا تتعارض مع رقابة الإذاعة. ومن هذه الأغنيات كانت "يا طيرة طيري يا حمامة" التي غنّاها صباح فخري أيضاً في سنوات لاحقة، وكانت كلماتها الأصلية تقول:
"يا طيرة طيري يا حمامة... وانزلي دمر والهامة
جيبيلي من حبي علامة... سيكارة وبصّة نار".
اكتشاف المطربة كروان
الكثير من سيدات سوريا كنّ يُجدن العزف على العود أو الضرب على الدف والدربكة في سهراتهنّ الخاصة، أو "استقبالات النسوان"، كما كانوا يسمّونها. كانت هذه الأمسيات تقام مرةً واحدةً في الشهر في يوم محدد، يتخللها رقص على أنغام شعبية، وكثيراً ما كانت تقدّم السيدات وصلةً لأم كلثوم أو أسمهان. ولكن هذه السهرات بقيت مغلقةً تماماً لا يدخلها أي رجل، وبقيت مواهب السوريات فيها مدفونةً.
القليل منهنّ خرجن بمواهبهنّ إلى العلن، مثل خيرية السقا، التي امتهنت الغناء في بداية القرن العشرين، وسعاد محاسن التي اشتهرت في زمن الحرب العالمية الثانية. وكانت هناك مطربة تُدعى نادرة الشامية، وهي أرمنية عملت في مصر وشاركت في فيلم "أنشودة الفؤاد"، الذي نظم قصائده عباس محمود العقاد سنة 1931.
ثم جاءت كروان، واسمها الحقيقي جميلة نصّور، أشهر صوت نسائي في الإذاعة السورية يومها، والتي يعود لمصطفى هلال الفضل في اكتشافها من خلال برنامج "من أنشودة الماضي" ومنحها اسمها الفني. لحّن لها كل من فريد الأطرش وفيلمون وهبي وبليغ حمدي، وتنوّع إنتاجها بين الموشح والدور والأغنية الشعبية والوطنية.
لم تقتصر مهمة هلال على الأغنيات المجهولة، إذ أحيى قصائد قديمةً مثل "يا ليل الصبّ متى غده" للشاعر القيرواني علي الحصري، والتي قدّمها للمطرب السوري "فتى دمشق"
بدأت مسيرتها الفنية بحفظ وتأدية أغنيات ليلى مراد وأسمهان، قبل دخولها إذاعة دمشق للمشاركة في برنامج مخصص للأطفال سنة 1949، ثم في "من نشوة الماضي". خصص لها هلال نصف ساعة من البث الأسبوعي ابتداءً من سنة 1953، وقدّم لها بعض الأغنيات الشعبية والموشحات والأغاني الفولكلورية مثل "حامض يا ليمون" و"شدّوا الهودج" التي حققت نجاحاً كبيراً في الوطن العربي، وكانت من ألحان عدنان قريش وكلمات الشاعر عمر الحلبي.
"سورنة" الأغنية العربية
كما شهد المسرح السوري عملية "تشويم" في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت هناك محاولات جدّية لـ"سورنة" الأغنية على يد مصطفى هلال، وفك ارتباطها بالغناء المصري. لم تحظَ التجربة بالنجاح المطلوب، نظراً إلى هيمنة الفن المصري على المشهد الغنائي العربي، ولم يتمكن من الوقوف أمام الشعبية الجارفة للأغنية اللبنانية التي بدأت مع فيروز والأخوين رحباني في منتصف الخمسينيات.
كل المطربين السوريين من دون استثناء، كانوا معجبين بأم كلثوم ومتأثرين جداً بمحمد عبد الوهاب، والكثير منهم كانوا يحلمون بالانتقال إلى القاهرة والعمل في نواديها، كما فعلت أسمهان وفريد الأطرش وبديعة مصابني في سنوات مبكرة من القرن العشرين.
في مصر كان العائد المادي أفضل من سوريا، وكان المجتمع أكثر انفتاحاً على الفنون بكل أشكاله وأنماطه. ولكن عندما أتيحت لهم الفرصة، رفض كبار المطربين السوريين البقاءَ في مصر وفضّلوا العودة إلى بلدهم، حيث كانوا متربّعين على عرشها الموسيقي ولا يضاهيهم فيها أحد، ومنهم رفيق شكري، ونجيب السراج و"فتى دمشق" وكروان.
أما صباح فخري، الذي أزاحهم جميعاً عن عرش الغناء السوري، فلم تُخصص له فقرة ثابتة في إذاعة دمشق حتى سنة 1960، ولم يُسجّل أسطوانةً له إلا سنة 1969. بدأ مسيرته في نهاية الأربعينيات، وأمضى مرحلة الخمسينيات في إحياء الحفلات الخاصة وحفظ كل ما كان يقدمه مصطفى هلال في برنامج "من أنشودة الماضي"، دون أن يتفرغ هو شخصياً للإذاعة. ولكنه كان أوفر حظاً من جميع من سبقوه -ومنهم مصطفى هلال- وأذكى منهم في إدارة مسيرته واختيار الألحان التراثية وطريقة تقديمها، ما أوصله إلى العالمية في وقت بقيت فيه نجومية مصطفى هلال وزملائه محليةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...