شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
اللاإنجابية...

اللاإنجابية... "الحلّ الأمثل" في ظل الحروب والأزمات الاقتصادية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 23 أغسطس 202411:04 ص

يرى الفيلسوف ديفيد بيناتار، وهو المؤسس والأب الروحي لفلسفة اللإنجابية، أنه "من غير الأخلاقي أن ينجب البشر أطفالاً سيعانون في العالم"، وقد دعم فكرته هذه بعدد من المبررات في كتابه الشهير "من الأفضل ألا نكون"، منها مبرر يستند إلى أنه لو من المتوقع أن يعاني الطفل ولو بشكل بسيط في هذا العالم، فعندئذ يكون قرار الإنجاب غير أخلاقي. أما المبرر الثاني، فيعزو بيناتار، حجته إلى أنه مع محاولة تقييم جدوى الحياة وتالياً موازنة الخير والشر، فإن مقدار السعادة التي سيحصل عليها الإنسان في حال مجيئه غلى العالم لا يقارَن أبداً مع الأحداث السيئة التي عليه الاشتباك معها. وعليه، اللاإنجابية، بحسب رأيه، هي فكرة حتمية.

اللافت أن ديفيد في مقدمة كتابه لم يتوقع أن تلقى أفكاره رواجاً، إذ يقول: "التكاثر سيستمرّ دون توقّف مُتسبّباً في ما لا يُحصى من الأضرار، لم أكتب هذا الكتاب تحت تأثير وهم أنّه سيغيّر من وتيرة الأعداد المتزايدة للأشخاص الذين سيأتون إلى العالم، ولكن من منطلق أن ما ينبغي أن يقال لا بدّ أن يُقال بصرف النظر عمّا إذا حظي بالقبول أم لم يحظَ".

اللاإنجابية في ظل الحروب والصراعات

في ظل الظروف القاسية التي يشهدها العالم العربي، وما يعانيه الأطفال من ويلات الحروب، يرى البعض أن فكرة اللإنجابية هي الحل الأمثل، فمثلاً، في تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن غزّة تحتضن 50 ألف امرأة حامل ومع ظروف الحرب القاسية انعكس ذلك على اختفاء ضروريات الحياة، وشهدنا ارتفاعاً في حالات الولادة المبكرة بينما تحتضر الأمهات وأصبح العديد من الأطفال أيتاماً، مما يشير إلى ضرورة التروي في فكرة الإنجاب في ظل استمرار الحروب، تجنّباً لويلات الحروب أو كما تنص المادة الثالثة من اتفاقية حقوق الطفل: الأشخاص البالغون عندما يتخذون قرارات معينةً يجب أن يفكروا في كيف تؤثر هذه القرارات على الأطفال، أي وضع مصالح الطفل أولويةً.

على الرغم من وجود رأي قوي يتبنى فكرة أن الإنجاب وكثرة الأطفال وقت الحروب هما بمثابة مقاومة ومكايدة للعدو، ورسالة صريحة بأن الشعب قادر على الوجود والعيش ولا يُهزم، إلا أن هذا الرأي لا يضع في الحسبان حقوق الطفل ويعدّها رفاهيةً في مقابل حقه في التمتع بطبيعية الأمور

قبل ذلك بأربعة أعوام، وفي العام 2020، غرّدت المطربة رشا رزق، عبر حسابها الشخصي، قائلةً إنه لا بد من توفير وسائل منع الحمل في المخيمات السورية، واصفةً كل من ينجب طفلاً في هذه الظروف "بالمجرم". كانت دعوتها تشير إلى حق الطفل في أن يولد في سياق اجتماعي هادئ ومستقر، لكن الناس في هجومهم عليها وصلوا إلى حد تخوينها، في حين أن أصوات قليلةً ساندت الفكرة وطرحت سؤالاً: "لماذا ننجب طفلاً لا منزل له وتطير كل لحظة فوق رأسه القذائف والأشلاء؟".

وعلى الرغم من وجود رأي قوي يتبنى فكرة أن الإنجاب وكثرة الأطفال وقت الحروب هما بمثابة مقاومة ومكايدة للعدو، ورسالة صريحة بأن الشعب قادر على الوجود والعيش ولا يُهزم، إلا أن هذا الرأي لا يضع في الحسبان حقوق الطفل ويعدّها رفاهيةً في مقابل حقه في التمتع بطبيعية الأمور حتى في ظل سياق غير طبيعي.

في هذا السياق، يقول الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي والعلاقات، لرصيف22: "العالم أصبح مليئاً بالحروب، وبعض الأفراد يجدون أنفسهم في مناطق الصراعات، كسوريا وفلسطين والسودان وغيرها. هذا الوضع ينعكس عليهم بالمخاوف التي تصل حد المرض، كالاكتئاب وعقدة الذنب التي تجعلهم يعزفون عن الإنجاب، حمايةً لحياة أطفال قد يلقون حتفهم أو يتعرضون للتنكيل والتعذيب في هذه الأجواء".

يضيف فرويز: "في النهاية لا قاعدة سوى الفروق الفردية الفكرية، الناس ينجبون في ظل أقسى الظروف مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسيظل الوضع هكذا، لأن الصراعات لن تنتهي".

أسباب قرار اللاإنجابية

بحسب إحصائيات البنك الدولي، فإن معدل الخصوبة انخفض في مصر من 3 في العام 2020، إلى 2.9 في عامي 2021 و2022، كما انخفض معدل المواليد من %23 في العام 2020، إلى %22 في عام 2022.

وفي تقرير جهاز التعبئة والإحصاء، انخفض معدل المواليد خلال 2023، بصورة لم تحدث منذ 21 عاماً في مصر، فيما بلغ معدل الزيادة الطبيعية 1.4% لعام 2023، إذ انخفضت أعداد الزيادة الطبيعية لعام 2023، بنسبة 8% مقارنةً بعام 2022، نظراً إلى انخفاض أعداد المواليد خلال العام 2023، بنحو 149 ألفاً وبنسبة 6.8% مقارنةً بأعداد المواليد خلال العام 2022.

"جاء قرارنا بعدم الإنجاب لأسباب عدة أهمها ظروفنا المادية غير المستقرة، وتالياً نحن نرى أنه يجب ألا نأتي بطفل إلى هذا العالم ونحن غير مؤهلين للإنفاق عليه بشكل كافٍ وجيد"

يطرح الدكتور رأفت حلمي، استشاري العلاقات الزوجية والاضطرابات الجنسية، عدداً من الأسباب التي يتبناها العازفون عن الإنجاب، منها عدم تكرار المأساة الشخصية للأفراد الذين عانوا في طفولتهم من عنف، أو الأسباب الاقتصادية والعبء المادي للأطفال، بالإضافة إلى تفكير اللاإنجابيين في المجتمع من حولهم، فالبعض يرى أن المجتمع يعاني من الفقر والتخلف ولا يجب تعذيب طفل جديد بولادته في هذه المساحة من العالم.

في السياق نفسه، تقول مارلين (30 عاماً)، لرصيف22: "تزوجت قبل 5 سنوات، واتفقت وزوجي على عدم الإنجاب، وأداوم فعلياً على حبوب منع الحمل بعد استشارة طبيبة النساء".

وتضيف: "جاء قرارنا بعدم الإنجاب لأسباب عدة أهمها ظروفنا المادية غير المستقرة، وتالياً نحن نرى أنه يجب ألا نأتي بطفل إلى هذا العالم ونحن غير مؤهلين للإنفاق عليه بشكل كافٍ وجيد، عطفاً على الظروف والأزمات الاقتصادية المتسارعة والتي لا يمكن معها التنبؤ بالمستقبل أبداً، أما السبب الثاني فجاء بعد عامين من الزواج، إذ رأينا أننا نشعر بالسعادة لكوننا وحدنا فقط، و’مفيش طفل بيبكي ويمرض ويعطلنا عن استمتاعنا ببعض’".

يتفق سامح، وهو في منتصف الثلاثين من العمر، مع مارلين على أن قرار عدم الإنجاب اتخذه بسبب تأخره في الزواج لأسباب مادية، الأمر الذي انعكس عليه نفسياً وأثار مخاوفه. يقول لرصيف22: "أنا عمري 36 سنةً، اتجوزت من سنة واحدة ولسا ظروفي غير مستقرة مقدرش أخلّف طفل وأنا داخل على الأربعين بتخيّل إني هموت وأسيبه لوحدة يعاني بدون سند وحماية".

فيما تختلف ميار (33 عاماً)، والتي تعمل في أحد مراكز الأبحاث، عنهم في سبب قرارها عدم الإنجاب، فتشرح لرصيف22: "إن حالتي المادية وزوجي مستقرة إلى حد كبير، لكني لا أحب الأطفال ولا أميل إلى التواجد معهم في المساحة نفسها. الجميع يراني قاسية القلب، لكنني أنزعج من المسؤوليات المتعلقة بهم، ومن حالة الأمومة بحد ذاتها. لم يكن زوجي موافقاً في البداية، لكنني حاولت إقناعه برغبتي في الاحتفاظ بهدوئي، ولحسن حظي فإنه متفهم لحريتي وحرية تقرير ما يتعلق بجسدي، وهو يفضل استقرارنا العاطفي في النهاية".

الحياة الجنسية إزاء قرار اللاإنجابية

في كتاب "استمتع بالجنس كيف ومتى أردت"، يقدّم المؤلفان جوستن هانكوك وجون باركر، دليلاً شاملاً للاستمتاع بممارسة الحميمية في أي سن بالإضافة إلى تحدّي الرسائل التقليدية عن شكل ممارسة الجنس التقليدي، وتحديداً في المواقف التي تتطلب حرصاً من الشريكين -كتجنّب الحمل مثلاً- ويضعان قاعدةً واحدةً هي أنه في كل الأحوال يجب أن يعتني الشخص بنفسه ويسعى إلى فهم رغبته ومتعته اللتين يستطيع خلالهما اكتشاف أساليب وأوضاع مختلفة وممتعة غير الممنهجة المحفوظة وبما يناسب موقفه.

في هذا السياق، تقول ماريا (اسم مستعار)، وهي متزوجة منذ 7 أعوام: "قررت مع زوجي عدم الإنجاب، إلا إذا جاءتنا فرصة الهجرة التي نخطط لها منذ فترة الخطوبة، لذا كان أمامي خياران؛ إما أن أستمر في أخذ جرعاتي اليومية من حبوب منع الحمل، أو نضبط شكل علاقتنا الجنسية، وبما أني أشعر بلخبطة في مزاجي اليومي بسبب الدواء، قررت التوقف عنه وتغيير شكل علاقتنا الحميمية بما يشعرنا بالمتعة من ناحية ويجنّبنا الحمل من ناحية أخرى".

تضيف ماريا لرصيف22: "لا ضرر من ممارسة الجنس الخارجي، فبعد متابعة طبية تأكدت أن احتمالات حدوث الحمل بهذه الطريقة تكاد تصل إلى الصفر، لكن يبقى أن نكتشف متعتنا الشخصية للاكتفاء بهذه الطريقة فقط دون الإيلاج المهبلي الذي اعتدنا عليه لفترات، ومع الوقت كان هذا كافياً وصرنا نعرف بعضنا في الحب بشكل أدق ومختلف".

بحسب عدد من الدراسات، فإن البعض يختار الجنس الخارجي كبديل جنسي آمن، حيث يضع الثنائي حدوداً لأي نشاط يمكن أن يسبب الحمل أو ينقل الأمراض المنقولة جنسياً، كما يعتمد البعض من خلاله على اكتشاف ذواتهم وتركيزهم على أساليب حميمية غير نقطة الإيلاج التي قد يعدّها بعض الأفراد مجرد "هدف نهائي"، مهما كانت نشوة المتعة في ذروتها.

"طبعاً مفيش مقارنة قبل الإنجاب، كنا طول الوقت مهتمين ببعض وقريبين لبعض وعلاقتنا الحميمية مشتعلة، لكن بعد الطفلة الأولى، الأمور أصبحت باهته شوية، وبعد الطفلة التانية بقينا كل فين وفين لما نفتكر بعض بسبب انشغالنا في عملنا وفي البيت ومع البنات"

في السياق نفسه، يقول وليد (34 عاماً)، الذي قرر تأجيل الإنجاب بعد زواجه، إن الواقي الذكري حلّ جيّد لممارسة الحميمية بحرية أكثر، وباستمتاع ودون "مونتاج" بحسب تعبيره لحركات أو أساليب جنسية بعينها: "الأمر المزعج في الموضوع هو التكلفة المادية التي أتكبدها، بس أكيد مهما كانت الأسعار بتغلى مش هتبقى زي الفلوس الكتيرة اللي هتدبّس فيها لو بقى عندي طفل".

اللاإنجابية والرضا الحميمي

هل يؤثر الإنجاب على العلاقة الحميمية؟

تجادل دراسة أجراها ماثيو جونسون، أستاذ علم النفس ومدير مختبر دراسات الزواج والأسرة في نيويورك، في أن الإنجاب يمكن أن يؤثر سلباً على العلاقة الزوجية، وقد يعاني الزوجان من فقدان الحميمية مقارنةً بالأزواج الذين ليس لديهم أطفال.

ويرى جونسون أن الفرضية التي تعدّ أن الإنجاب يمكنه التقريب بين الأزواج أو إسعاد حياتهم هي "خرافة منتشرة ليس أكثر".

من جهتها، تقول فاطمة وهي أمّ لطفلتين، لرصيف22: "طبعاً مفيش مقارنة قبل الإنجاب، كنا طول الوقت مهتمين ببعض وقريبين لبعض وعلاقتنا الحميمية مشتعلة، لكن بعد الطفلة الأولى، الأمور أصبحت باهته شوية، وبعد الطفلة التانية بقينا كل فين وفين لما نفتكر بعض بسبب انشغالنا في عملنا وفي البيت ومع البنات".

"لماذا ننجب طفلاً لا منزل له وتطير كل لحظة فوق رأسه القذائف والأشلاء؟"

بدورها، تخشى إيمان الإنجاب خوفاً من فقدان المتعة، وفق ما تشرح لرصيف22: "أحبّ زوجي فقد كان حبيبي لعشر سنوات ومررنا بصعوبات حتى تزوجنا. لا أسعى إلى الإنجاب. كل ما أسعى إليه هو تمتعنا ببعضنا البعض دون أي عوائق تشغلنا وتبعدنا مرةً ثانيةً، كما أن الحياة في ظل كل هذه الضغوط لا تستوعب وجود طرف ثالث برغم حبّنا الغريزي له إلا أنه سيفقدنا متعتنا بنسبة كبيرة ويشغلنا".

كل هذه الأسباب عن تبنّي فكرة اللاإنجابية لا تجد صداها في بعض المجتمعات العربية المحافظة، والتي ترى أن قرار عدم الإنجاب يصحبه اضطراب نفسي ومشكلة يجب علاجها بالضرورة، وللأسف، تتحمل النساء الجزء الأكبر في هذا الصراع، فضلاً عن الآراء الدينية التي تتبنى أفكاراً مثل "العيّل بييجي برزقه"، أو منع الإنجاب حرام شرعاً مهما كانت الظروف.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard