في إحدى جلساتنا الحميميّة، باحت لي صديقتي بسرٍّ لطالما حاولت كتمه عن الجميع، خشيةً من نظرة المجتمع التقليدي الذي نعيش في كنفه، وألسنة الناس التي لا ترحم، بعد نفسٍ عميق قالت بنبرةٍ حازمة: لا أريد إنجاب الأطفال.
للوهلة الأولى ظننت أن المسألة تتعلّق بشريكها وبالخلافات المستمرّة بينهما، أو أن هناك مشكلةً صحيّة تمنع حدوث الحمل، إلا أنها فاجأتني بالقول إن قرارها بعدم الانجاب جاء نتيجة مخاوفها من التغيّر المناخي وما يخبّئه لها المستقبل.
هذا التصريح المفاجىء جعلني في حيرةٍ من أمري: أيعقل أن تقرّر امرأة الإضراب عن الإنجاب بسبب التغيّر المناخي؟ هل بوسع المخاوف البيئيّة أن تهدّد تجربة الأمومة؟
وبهدف إشباع فضولي ومحاولة البحث عن أجوبةٍ من شأنها أن تروي غليلي، حاولت البحث عبر الإنترنت، غير أنني صُعقت حين علمت أن هناك بعض الناس من حول العالم قرّروا بالفعل أن يضربوا عن الانجاب، بعد تحذير العلماء من التغيّر المناخي.
الإضراب عن الإنجاب
في الآونة الأخيرة، كّثُر الحديث عن التغيّر المناخي الذي يُعتبر القضية الحاسمة في عصرنا الراهن، خاصّةً بعدما دقّ العلماء ناقوس الخطر، وكشفوا أننا الآن أمام لحظةٍ حاسمةٍ: فالآثار العالميّة لتغيّر المناخ باتت واسعة النطاق، ولم يسبق لها مثيل من حيث الحجم، من تغيّر أنماط الطقس التي تهدّد الإنتاج الغذائي، وصولاً إلى ارتفاع منسوب مياه البحار التي تزيد من خطر الفيضانات الكارثيّة.
وشدّد الخبراء على أن التكيّف مع هذه التأثيرات سيكون أكثر صعوبة وتكلفة في المستقبل، في حال لم يتمّ اتخاذ إجراءاتٍ جذريّة لحلّ هذه المشكلة التي تهدّد ديمومة الأرض واستمراريّة الجنس البشري.
ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن يكون البعض مستعدّاً لتقديم تضحياتٍ بهدف إنقاذ الكوكب؟
بالنسبة للموسيقيّة البريطانيّة "بلايث بيبينو"، البالغة من العمر 33 عاماً، فإن مخاوفها من التغيّر المناخي شديدةٌ لدرجة أنها قرّرت الامتناع عن إنجاب الأطفال.
وفي حين أن "بلايث" أعربت عن رغبتها الشديدة في أن يكون لها طفل من لحمها ودمها، إلا أن هواجسها البيئيّة تسلب منها لذّة اختبار الأمومة.
وعن قرارها تقول لموقع "سي إن إن": "أحبّ شريكي، وأريد تكوين أسرة معه ولكنني لا أشعر بأن هذا هو الوقت الذي يمكن أن نفعل فيه ذلك".
ونتيجة اعتقادها بأن نهاية العالم باتت قريبة، قامت "بيبينيو" في العام 2018 بتأسيس BirthStrike التي تضمُّ مجموعة مؤلّفة من أكثر من 330 شخصاً حتى الآن، قرّروا الإضراب عن إنجاب الأطفال بسبب التغيّر المناخي، وتشكّل النساء نسبة 80% من هذه المجموعة.
بعض الناس من حول العالم قرّروا أن يضربوا عن الانجاب، بعد تحذير العلماء من التغيّر المناخي
توريث عالم أسوأ من عالمنا
"نحن، الموقّعون أدناه، نعلن قرارنا بعدم إنجاب الأطفال بسبب شدّة الأزمة البيئيّة والتقاعس الحالي للسلطات الحاكمة في مواجهة هذا التهديد الوجودي...انعدام الأمن في المستقبل، اليأس من العلاقة بين جنسنا البشري والمسكن الطبيعي، وتوجيه الوقت نحو النشاط والتمرّد، كلّها دوافع مشتركة"، هذا جزءٌ من بيانٍ جاء على لسان أعضاء مجموعة Birthstrike، والتي تحاول أن تظهر كيف أن الكوارث البيئيّة تغيّر الطريقة التي نتخيّل بها مستقبلنا.
فقد وجد المنتسبون إلى المجموعة أنهم لا يستطيعون إحضار أطفال إلى عالمٍ يتوقّع العلماء أن يُحدث التغيّر المناخي فيه حرائق كبيرةً ومزيداً من الجفاف ونقص الغذاء لملايين البشر: "إنه اعتراف جذري بأن كوكبنا قد دخل مرحلة الانقراض الجماعي السادس نتيجة تأثير الإنسان على البيئة".
في العام 2018 حذّرت اللجنة الدوليّة للتغيرات المناخيّة التابعة للأمم المتحدة (IPCC) من أن أمام الكوكب 11 عاماً فقط لمنع حدوث تغيّر مناخي كارثي.
من هنا فإن Birthstrike هي واحدة من عدّة مجموعات حول العالم تشكّك في أخلاقيّة إنجاب الأطفال في عالم الاحتباس الحراري.
وتعليقاً على موضوع الانجاب في هذا الزمن الصعب، يقول "كودي هاريسون" (29 عاماً) الذي انضمّ للمجموعة حديثاً: "إنكم تقامرون بحياة شخصٍ آخر"، وأضاف قائلاً: "في حال لم تسر الأمور على خير ما يرام، فلن يتمتّع ذلك الإنسان بحياةٍ جيّدة".
وبدورها اعتبرت العضوة "لوري داي" أنه عندما يزداد تغيّر المناخ سوءاً فإنه يضاعف أشياء أخرى: "إنه أشبه بسقوط الدومينو"، مشيرةً إلى أن المسألة تتعدّى ارتفاع مستوى سطح البحار والعواصف، وتؤثّر على إنتاج الغذاء، الهجرة، الموارد والحرب".
المستقبل المظلم
في مارس، أعلنت عضوة الكونغرس الأميركي "ألكساندريا أوكاسيو كورتيز" لمتابعيها على موقع إنستغرام أن "هناك إجماع علمي على أن حياة الأطفال ستكون صعبة للغاية"، وتساءلت:"هل ما زال من الجيّد إنجاب أطفال؟".
بالإضافة إلى المخاوف المحيطة بنوعيّة الحياة للأجيال المقبلة، لا يرغب بعض المنتسبين إلى مجموعة Birthstrike في إنجاب أطفال بسبب الانبعاثات الإضافيّة التي سينتجها أطفالهم وذرّيتهم.
تكشفPopulation Matters وهي مؤسّسة خيريّة تتخذ من المملكة المتحدة مقرّاً لها، أنه كلّما زاد عدد السكان ستزداد انبعاثات الكربون وتُفقد الغابات الاستوائيّة، فضلاً عن الآثار البيئيّة الأخرى.
وتُرجّح الأمم المتحدة أن يكون هناك حوالي 8.5 مليار شخص على هذا الكوكب بحلول العام 2030، مع العلم أن العدد قد يصل إلى 11 ملياراً بحلول عام 2100.
أما البنك الدولي فيقدّر أن الشخص العادي يصدر 5 أطنان من ثاني أكسيد الكربون خلال سنة.
وفي حين أن معظم النمو السكاني المتوقّع عالميّاً سيكون في البلدان النامية، إلا أن الدول المتقدّمة لديها متوسّط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أعلى بكثير.
فهل ينبغي إذن على كلِّ شخص في البلدان الصناعيّة أن يفكّر في إنجاب عددٍ أقلّ من الأطفال لخفض الانبعاثات؟ قد لا يكون الأمر بهذه البساطة.
خلصت دراسةٌ أجريت في العام 2014 إلى أن تقليل عدد السكان ليس حلّاً سريعاً للمشاكل البيئيّة، ووجدت الدراسة أنه حتى في حال طُبّقت سياسة إنجاب طفل واحد عالميّاً، فستؤدي لأن يصبح عدد سكان العالم حوالي 7 مليارات بحلول نهاية القرن، وهو نفس عدد سكّان اليوم.
بدلاً من ذلك، تشير الدراسة إلى أنه يجب على المجتمع التركيز على تقليل بصمة الكربون الموجودة لدينا، والحدّ من استهلاك كلِّ فرد.
وتعليقاً على هذه المسألة، قالت "ميغان كالمان"، الشريكة المؤسّسة لـ Conceivable Future التي تأسّست في العام 2015، للتوعية بشأن التهديد الذي يمثّله تغيّر المناخ على العدالة الإنجابيّة: "إذا استهلك الجميع بالطريقة التي تتبعها الولايات المتحدة، فسنحتاج إلى أربعة أو ستة كواكب أرض أخرى"، مشدّدةً على أن الأمر لا يتعلّق في الواقع بعدد الأشخاص، بل بكيفيّة استهلاك هؤلاء الأشخاص.
نحو التغيير السياسي
تشدّد كلّ من BirthStrike و Conceivable Future أنهما لا يقرّان أساليب السيطرة القسريّة على السكّان، أو يحكمان على أيِّ شخص لإنجابه أطفالاً.
من هنا تؤكد "بلايث بيبينو" أنه لا ينبغي الخلط بين مجموعتها وبين الحركة المناهضة للإنجاب، وهي فلسفة تقول إن الإنجاب خطأ أخلاقي بسبب المعاناة التي تأتي مع الحياة.
كلّ يوم لا نتحرّك فيه هو يومٌ آخر يموت فيه عدد أكبر من الناس، وتنقرض المزيد من الأنواع، والأرجح أننا سنتجه إلى كوكبٍ غير صالحٍ للسكن تماماً
بالنسبة لمجموعة BirthStrike، فإن دعواتها تتعلّق بالجهد الجماعي لدفع التغيير السياسي، وفق ما أكدته "بيبينو": "كان لديّ شعور خفي بأن ذلك سيهزُّ قارب بعض الجماعات البطريركيّة".
وتأمل "بلايث" أيضاً في توجيه الطاقة التي كانت ستستخدمها لتربية الأطفال إلى النشاط السياسي والاحتجاج والتمرّد: "قراري بعدم إنجاب الأطفال يمنحني حريةً أكبر لكي أعمل كناشطة...إنها دعوة أقوى من الأمومة...حان الوقت لإحداث الإرتباك وجعل النظام يجثو على ركبتيه، لأنه يتجاهل ذلك"، وأضافت قائلة: " كلّ يوم لا نتحرّك فيه هو يومٌ آخر يموت فيه عدد أكبر من الناس، وتنقرض المزيد من الأنواع، والأرجح أننا سنتجه إلى كوكبٍ غير صالحٍ للسكن تماماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 22 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...