شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ماذا لو كان الإنجاب يستلزم موافقة الدولة أولاً؟

ماذا لو كان الإنجاب يستلزم موافقة الدولة أولاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 9 مارس 202204:47 م

"يتم إجراء الفحص الطبي للمقبلين على الزواج على كافة أجزاء الجسم، شاملاً تقييم الحالة العقلية والنفسية لكل منهما، وذلك للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر على حياتهما أو صحتهما أو صحة نسلهما".

لم أتفاجأ عندما قرأتُ نص هذه المادة القانونية والمطروحة للنقاش في مجلس النواب المصري منذ أيام، ضمن ما أسماه البرلمان "قانون الفحص الطبي الشامل قبل الزواج"، مبرراً هذا الطرح المثير للجدل لأن "حماية الصحة العامة للمجتمع هدف والتزام من الدولة، وانطلاقاً من كون الأسرة نواة المجتمع، وصلاحها قوة له، وأن الحياة الخاصة لها حرمتها وقدسيتها".

الحق أني لم أستغرب للحظة بروز هذا الاقتراح البرلماني للسطح، لأنني أجد ما يبرره عن نفسي، بصفتي مواطناً في سن الزواج قبل كل شيء، ألاحظ المهازل المستشرية حولي في زيجات مجتمعي، إضافة لعيني الصحفية التي تتسع إثر أرقام ومعدلات الطلاق المرعبة التي ما انفكت تتزايد في السنوات الأخيرة.

هل أريد القول إن الزواج صار مشروعاً أقرب إلى الفشل؟ بالتأكيد ليست الصورة قاتمة السواد بالكامل، لكنها كذلك ليست وردية، ومحكمة الأسرة تشهد، والأطفال أكبر من يدفع الفاتورة، حين يعيشون مع طرف واحد بعد الانفصال.

أعود من جديد لنص قانون اختبارات الزواج المطروح على طاولة المناقشة، لأؤكد على توقعي له بشيء أقوى من مجرد آراء وتفسيرات، فأغرب ما في الأمر بالنسبة لي، أنني حكيتُ عن القانون وتخيلتُه بالكامل في قصة كتبتها منذ حوالي العامين.

ماذا لو كان الإنجاب - كنتيجة حتمية للزواج - يستلزم موافقة الدولة أولاً؟ هكذا كانت فكرة قصتي المُسماة "حامل" ضمن الكتاب الإلكتروني "شبابيك" الصادر عن دار "تويا" للنشر والتوزيع في 2020.

قصّتي ركّزت على الأطفال بصفتهم الحلقة الأضعف في أي زيجة، فربما يكون للزوجين الحق في قرار الارتباط الشرعي والعيش تحت سقف واحد، وتحمل أجواء الخلافات الزوجية بدرجاتها التي قد تصل للانفصال، لكن طفلاً بريئاً.. كائناً ثالثاً غيرهما، ما ذنبه في حياة أسرية مسممة بين والدين غير مؤهلين للتربية مادياً أو نفسياً وسائر تفاصيل العائلة السعيدة؟

في نفس الوقت، لم أقاوم الدمج بين تيمة "شهادة الدولة قبل الإنجاب" وفكر "اللاإنجابية" البارز مؤخراً، وهو يعني ببساطة رفض إنجاب الأطفال والزواج دون خلفة، إنقاذاً للأطفال من واقع مرير نعيشه في هذه الحياة!

ماذا لو كان الإنجاب - كنتيجة حتمية للزواج - يستلزم موافقة الدولة أولاً؟

لا أريد أن أحرق لك الأحداث، وإذا سألتني عن رأيي في هذا القانون والاإنجابية، فالإجابة في حبكة القصة، غير أنني متأكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن بعض الآباء والأمهات لا يستحقون أبداً أن يصيروا كذلك! حتى لا يصبحون هماً إضافياً مُقيماً على أطفالهم، غير كل الهموم اللاتي سيجدها نسلهم في الدنيا عاجلاً أم آجلاً، وإن وُلدوا في أعلى مستويات المعيشة.

إليك نص القصة كاملاً، لتفهمني وتتوقع معي، وسأكون سعيداً بالطبع لسماع رأيك.

"حــامــل"- قصة قصيرة

كان نهاراً مشرقاً أكثر من اللازم، شمس العصر تتوسط السماء حانية لامعة، كأنها رسوم الأطفال في محاولاتهم المبكرة الساذجة، المُفعمة بالعذوبة والبراءة برغم ذلك. الشارع أيضاً كان أشبه بلوحة لطفل موهوب، طريقه المرصوف تُحيطه أشجار وارفة، واللون الأخضر للحدائق شبه الخالية يمتد على خط النظر، لا ينقص هذا المنظر سوى أطفال يمرحون، ربما طفل واحد سيفي بالغرض، كما فكّرت هناء، الجالسة على أريكة ملونة في الشارع، تنتظر شيئين في نفس الوقت، تستعجلهما بنفس الدرجة.

الأول كان زوجها أسعد القادم بسيارته ليصحبها للبيت، أما الثاني فكان رسالة بريد إلكتروني مصيرية، تعني بالنسبة لها لقباً جديداً لم تجربه طيلة أعوامها الثلاثين، لقباً يسعدها ويشعرها حقاً أنها أنثى، كيف لا وهو يعني خروج كائن آخر منها يحمل صفاتها وصفات أسعد، في معجزة ربانية أبدية تجعلها "حاملاً"؟ حُق لها أن تنتظر ذاك اللقب بعد خمس محاولات منذ خمس سنوات.

إنها تستبشر بالجو البديع، وتتمتم الأدعية الواثقة طوال انتظارها، ها هي سيارة أسعد تدخل الشارع لتصير إحدى عناصره الفنية، من السهل عليهما أن يشتريا السيارة الأغلى والشقة الأفخم حين يتأخر الأطفال، لكنها مستعدة للتضحية بكل هذا الرغد من أجل ملاك صغير يأتيها.

وصلت السيارة الألمانية وفُتح بابها آلياً، دخلت منه هناء مُقبّلة خد زوجها بلهفة مُصطنعة، نظر إليها لوهلة، فكّر أن يقول شيئاً على غرار "ثوبٌ رائع" أو "تبدين أحلى من الطبيعة بالخارج"، لكنه لم يقل، بل أكمل القيادة متنهداً في سره. لاحظت هناء ذلك، إن شعوره بالذنب في كل مرة يتضاعف عن سابقتها.

- كيف كان العمل؟

- بخير حال... كالعادة

-  وأنا كذلك

- هذا بديع

تلك الردود المقتضبة باعدت بينهما أكثر، رغم أن "كونسول" السيارة الذهبي وحده كان يفصلهما.

- أسعد.. أنا.. أنا متفائلة هذه المرة

قالتها لتبدد ضباب الموقف، لكنه لم يُعقّب، أخذ يحدق في أحواض الزهور على جانب الطريق، رد أخيراً: أنا سعيد لسماع ذلك

- نحن.. لم نُقصّر، فعلنا كل ما في وسعنا لنكون جديرين بالمولود، سنكون أبوين مُذهلين صدقني!

هذه المرة تنهد أسعد بصوت مسموع، انعطف بالسيارة وألقى كلمته: هناء.. اتخذت قراري اليوم، هذه المرة ستكون الأخيرة.

نحيطكم علماً وبمنتهى الأسف أن طلبكم الخامس بالإنجاب لم يتم قبوله، فمن الواضح أنكم لستم مؤهلين نفسياً بعد لتولي مسؤولية روح بريئة تأتي لعالمنا، ورغم نيتكم الصادقة في المولود بدواعي الفطرة الإنسانية، إلا أن احتمالية أذى طفلكما أكبر من عكسها، إنها حقيقة مؤلمة ولكنكما في الأغلب ستكونان والدين سيئين وتخرجان ذرية مشوهة نفسياً تؤثر سلباً على الصالح العام والمجتمع

بوجه من شمع حملقت فيه هناء...

- لن نكرر هذا الحديث ثانية

- أنت بحاجة إلى طفل

- وأنا بحاجة إليك أيضاً

- وأنا لن أظلمك معي أكثر من هذا، دعينا الآن.. متى ستصل الرسالة؟

- بعد 10 دقائق

- سنكون قد وصلنا.

صمتا طيلة الوقت المتبقي، يتأملان الهدوء الخلّاب من النافذة، بالفعل لم يكذب الـGPS الدقيق، السيارة بلغت البرج السكني في الثانية الأخيرة من الدقيقة العاشرة، ليرن جرس الهاتف بنغمة رسالة، لكن هناء لم تُحرك ساكناً، أوقف أسعد السيارة ونظر لها متسائلاً...

- سأقرأها بالأعلى

نزلا معاً واتجها للمدخل الرخامي حيث المصعد، يخيّم الصمت عليهما بينما يرتفعان للطابق الحادي العشر، أصابع هناء تقبض على الهاتف بقوة منذ جاءت الرسالة، لقد تبللت يدها من فرط العرق... ربما يضر هذا الهاتف؟ أي خاطر سخيف هذا، إنه الطابق الثامن وشفة هناء تختلج و..

- لا أستطيع الصبر أكثر

أخرجتْ هاتفها، وجدت إشعار الرسالة المعنونة بـ "مركز الإنجاب النفسي الوطني"، فتحتها وقرأت بعيون تهتز:

"السيدة الفُضلى هناء بسّام

تحية طيبة وبعد:

بموجب البيانات المُسجّلة عن شخصكم الكريم وشخص زوجكم السيد أسعد بهيج، وبما تم استنتاجه من جلساتكم العشرة مع خبراء التربية وعلم نفس الأطفال والسلوك، والاطّلاع على نتائج اختبارات المخ والأعصاب النفس - جسمية، إضافة لإجابات الأسئلة المائتين المتعلقة بالتعامل مع الصبية والمراهقين، ومراعاة جهودكم الحثيثة في التأهيل الأبوي على مدار الأعوام الماضية.

بمجموع كل ما سبق، نحيطكم علماً وبمنتهى الأسف أن طلبكم الخامس بالإنجاب لم يتم قبوله، فمن الواضح أنكم لستم مؤهلين نفسياً بعد لتولي مسؤولية روح بريئة تأتي لعالمنا، ورغم نيتكم الصادقة في المولود بدواعي الفطرة الإنسانية، إلا أن احتمالية أذى طفلكما أكبر من عكسها، إنها حقيقة مؤلمة ولكنكما في الأغلب ستكونان والدين سيئين وتخرجان ذرية مشوهة نفسياً تؤثر سلباً على الصالح العام والمجتمع.

تعرفان جيداً أن حياتنا صارت أفضل منذ اعتمدنا اختبارات الإنجاب النفسية، لقد انحسرت الجريمة والفساد ومعدلات الاكتئاب، كل شيء صار شاهداً على روعة الحياة، بداية من الشارع النظيف الهادئ مروراً بخدمات التعليم والعلاج وانتهاءً بانخفاض نسبة الأمية، وكل هذا يبدأ من أجيال طيبة أحسن الأهالي نشأتها، لهذا لن نجازف بتربية خاطئة منكما تفسد تناغم عالمنا.

تقديرنا الشديد لك ولزوجك، وتخيلا دائماً تلك اللحظة التي قد تندمان فيها على قرار إنجابٍ خاطئ تعذبان فيه طفلاً بلا أي ذنب. نرجو لكم حظاً أسعد في المرات القادمة إن شاء الله".

حاولت هناء إغلاق البريد الإلكتروني لكن عينيها غامتا وترنحت قدماها منذ قرأت الفقرة الثانية، في اللحظة التالية كان أسعد يحملها خارجاً من المصعد، وحين بدأت تعي الواقع اكتشفت أنها في غرفة نومها، مستلقية على سريرها بفم ما زال يرتجف، بان الليل من النافذة خالياً من النجوم.

كان أسعد جوارها بملابس الخروج بعد، عيناه حمراوان من أثر البكاء، تمتم بصوت مختنق: لقد اتصلت بالمحامي، إجراءات الطلاق ستنتهي بأسرع ما يمكن، لابد أن تجربي نصيبك مع زوج آخر.

دفن وجهه بين كفيه للحظات، ثم أردف: لطالما طلبت الانفصال منذ السنة الأولى وأنت تقاومين، لكن عاطفة أمومتك لن تخبو أبداً وأنا.. لن أتركك تكرهينني، لقد قضيتُ معك أجمل خمس سنوات في حياتي.

أنهى جملته ورحل يعلو نشيجه، أما هي فعجزت عن النطق وإيقافه مجدداً، اكتفت بتأمل السقف شاعرة بالعبث، من فيهما عقيم نفسياً؟ من تسبب في فشلهما كأبوين؟! أمسكت هاتفها الموضوع على الكومود، كانت تريد قراءة الرسالة مرة أخرى ولكن.. لحظة، هناك رسالة أخرى حكومية وصلتها، عنوانها "مركز الإنجاب النفسي الوطني: حالة خاصة"، فتحت أصابع هناء الرسالة دون أدنى تحكم منها:

"السيدة الفُضلى هناء بسّام، تحية طيبة وبعد:

حرصاً منّا على خدمتك بشكل أفضل، فقد خرج تقرير كشف الكذب الخاص بزوجكم السيد أسعد بهيج، لأننا سمحنا لأنفسنا بتقصي مدى صراحته بمؤشرات طبية ونفسية محددة.

اتضح لنا أن زوجكم يتلاعب بإجاباته في الجلسات لتخرج النتيجة بعدم صلاحيته النفسية والتربوية للأبوة، وبمراجعة بعض ردوده في وسائل التواصل الاجتماعي، تم الكشف عن كونه (لا إنجابي) ويخشى الخِلفة حتى لا يُعذّب ذريته بمشاكل الحياة التي ليس حل، كالموت والمرض وغيرها، إضافة لشكه في قدرته على التربية السليمة فيصير مصدراً آخر لعذاب طفله.

هذا التقرير يضمن لك الخُلع من زوجك بسهولة تامة، خاصة إذا عارض هو الأمر وأجبرك على البقاء معه، القرار الآن بيدك وتمنياتنا الوافرة لك بحياة زوجية وإنجابية سعيدة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image