لفتت مصر القديمة أنظار العالم إليها قديماً وحديثاً. فالحضارة المصرية القديمة هي حضارة علم ومعرفة وأدب وفن. وفي سبيل ذلك اعتمدت تلك الحضارة على ما أتاحه الزمان والمكان من أدوات وموارد يمكن استخدامها في إنتاج نشر وتداول المعارف والفكر.
وحرص المصري القديم على تحصيل المعرفة وإذاعتها بين الناس عبر قنوات التعلم وبث المعارف المتاحة آنذاك. بل إن الأطراف المتصلة بالعلم وبالكتب لم توضع فقط في منزلة بشرية رفيعة بل بلغت منزلة الإله عند المصري القديم. في هذا المقال نتعرف على بعض جوانب إنتاج ونشر المعرفة في مصر القديمة.
المستنقعات تهب ما يُكتب عليه
في مستنقعات الدلتا نبتت وترعرعت سيقان نبات البردي وكذلك على شاطئ النيل في مصر السُفلى. من هذا النبات صَنعَ المصري القديم أوراقاً يكتبُ عليها. ولنجاح هذا النبات في هذا الغرض كانت تُزرع سيقان البردي حصيصاً لهذا الغرض. بدأ البردي يُستخدم كمادة للكتابة منذ الأسرة الأولى (3100-2890 ق.م). كانت سيقان أعواد نبات البردي والتي تبلغ من 3 إلى 6 متر تُقطَّع وتُوضع في حِزم وذلك بعد فصل هذه السيقان عن رؤوسها ذات الأوراق والزهور.
المصري القديم بنى حضارته على العلم والمعرفة. وفي سبيل المعرفة صُنعت لفافات البردي وأقلام الكتابة من البوص ومداد الكتابة من هباب أواني الطهي حتى يمكن تدوين المعرفة
وبعد تسليم هذه السيقان إلى مصانع الورق كانت تُحوَّل إلى شرائح بحيث تكون كل شريحة 40 سم طولاً. كانت تُرص هذه الشرائح كل شريحة جانب الأخرى رأسياً على لوح خشبي، ثم تُرص فوقها طبقة أفقية أخرى من الشرائح وتُضغط الطبقتين معاً، وبفعل ما في النبات من مادة لاصقة (النُسغ) تتلاحم الطبقتان معاً، ويخرج في النهاية فرخ (دُرج) من البردي يتم ترقيقه ووضعه في الشمس ليجف.
وحتى يصبح مستوياً خالياً من النتوءات، كان يرقق باستخدام قطعة حجر مخصصة لهذا الغرض. وبعد إنتاج عدد من الفروخ (الدروج) كانت تلصق ببعضها بعضاً من أطرافها بواسطة النشا حتى تتكون لفافة البردي. كان الكاتب يحصل على هذه اللفافة ثم يبدأ الكتابة عليها، بحسب ما يذكره شعبان خليفة في كتابه "الكتب والمكتبات في العصور القديمة".
البوص يَسكبُ علماً وحكمة مدادها من هباب
أما القلم فكان يُصنع من البوص الذي يُقَطَّع ويُبْرى حتى تصير له سن مدببة. يتم تعديل هذه السن المدببة بأن تفلطح حتى تصبح كأنها فرشاة. وكان الكاتب يمتلك عدة أقلام بحيث يكون لديه أقلام احتياطية غير القلم الذي يكتبُ به. كما كان يحتفظ بالقلم الاحتياطي، إما في صندوق خاص بأدوات الكتابة أو حتى خلف أذنه، وفق ما جاء في كتاب "المواد والصناعات عند قدماء المصريين" لألفريد لوكاس، ترجمة زكي إسكندر، و"الكتب والمكتبات في العصور القديمة".
ووضع القلم خلف الأذن لا زال تقليداً إلى يومنا هذا يمكن مشاهدته في مصر عند أرباب الصناعات والحِرَف الذين يستعينون بأقلام لوضع علامات، مثل النجَّارين والخيَّاطين. أما الحبر المستخدم فكان يُركَّب من السناج (الهباب) الذي يُجمع من أواني الطهي، ثم يُمزج بمحلول من الصمغ. وكذلك استخدم المصري القديم الهون (إناء مخصص للطجن) المصنوع من الحجر أو المعدن لطحن الحبر وألوان الكتابة.
جدير بالذكر أن هذا الهون ما زال مستخدماً أيضاً في مصر لطحن مواد غذائية. أما الحبر فكان يخزن مجففاً في أكياس ويُمزج بماء في جرَّة من سيراميك أو نوع خاص من القواقع عند الكتابة، وكان الكاتب يستخدم خرقة مبللة لمحو الأخطاء التي تقع عند الكتابة حول الحبر، وفقاً لما يُذكر في المصدرين المذكورين سلفاً.
الكاتب في الأعالى
كان الكاتب في مصر القديمة ذا مكانة متميزة جداً. ويصوِّر لنا سليم حسن هذه المكانة في كتابه "موسوعة مصر القديمة"، فيقول: "كان للكاتب فضل السبق على غيره من أصحاب المهن الأخرى، بل إنك لتجد فجوة كبيرة تفصل بين المصري المُتَعلِّم وغيرَ المُتعلِّم، ومَن يبرعْ في الكتابة يَنَلْ أسمى المراكز، وإن لم تَسْمُ مواهبه الأخرى، بل لم يكن للحاكم نفسه قيمه إلا بكُتَّابه".
ونظراً لتلك المكانة السامية للكُتَّاب فكانت هناك رغبة كبيرة بين كبار الموظفين آنذاك في تصوير أنفسهم على هيئة الكُتَّاب. ويوضح سليم حسن السبب: "لأنَّ الكتابة في نظرهم سُلَّم يرقى فيه المرء إلى أقوى المراكز وأعلاها، والرجل الذي يستطيع الإبانة عمَّا في ضميره باسلوب جميل مهذَّب يجد الطريق مفتوحة أمامه لأعلى المناصب وأعلى الدرجات".
لتكن الكتب أحبّ من أمك
وكانت للكتب مكانة رفيعة في وجدان المصري القديم، وقد وصلتنا نصوص يمكننا من خلالها أن نستشعر تلك المكانة. فمن تلك النصوص ما قاله الحكيم خيتي بن دواوف في معرض نصحه لابنه بيبي وهو في أول أيام الذهاب إلى المدرسة. يقول خيتي بن دواوف: "ضع قلبك وراء الكتب فما من شيء يعلو على الكتب... ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر من أمّك، وليتني أستطيع أن أريك جمالها، إنها أعظم من أي شيء آخر".
وكذلك نصح آني ابنه خنس حتب بنصائح مثيلة: "خصص نفسك للكتب، وضعها في قلبك، وبذلك يكون كل ما تقوله ممتازاً"، وفق ما يذكره شعبان خليفة في كتابه |الكتب والمكتبات في العصور القديمة". فهذه النصوص تبرز كيف كانت الكتب مهمة عند المصري القديم، بل أهم للطفل من أمه!
خازن الكتب إلهاً
كان تحوت (4000 ق.م) أول أمين مكتبة في مصر القديمة (وفي التاريخ عموماً) وتعتبر زوجته حاتحور أول أمينة مكتبة في التاريخ أيضاً. وقد اتخذهما أمناء المكتبات الذين جاءوا بعدهما مثالاً يُحتذى به، وَوَسمُوهُما بسمات إلهية. يصف شعبان خليفة كيف كان يُنظر إليهما: "ومع تعاقب القرون تتضائل بذرة الحقيقة البشرية فيهما وتتضخم شجرة الأسطورة الإلهية فيهما فبدلاً من أن يكون تحوت هو مخترع الكتابة، يصبح إله المعرفة وبدلاً من أن تكون حاتحور هي أم الأبجدية تصبح هي إلهة الحكمة".
ويرى خليفة: "أنهما كانا من البشر ولكن لأنهما كانا من العلماء انصرفت جهودهما إلى تطوير العلم والمعرفة أكثر من تنظيم مصادر العلم والحفاظ عليها". ويضيف خليفة: "وعندما يتحول تحوت إلى أسطورة يصبح رمزاً للصراع بين النور والظلام (حورس وست) العلم والجهل، الخير والشر؛ الحياة والموت. ولابد للأسطورة من أن تُمثِّل للأمور المعنوية بأشياء مادية ملموسة فيصبح تحوت هو القمر أو ضوء الشمس.
وتصبح الكتابة في الكتب هي الشيء المادي الملموس الذي يعكس نور العقل. والتعبير المكتوب (الكتب) هو علاج الجهل. إن التعبير الشفوي المكتوب في عُرف الإنسان المصري القديم هو رمز الحياة المؤقتة بينما التعبير المكتوب هو الخلود في سجل الزمن"، وفق ما يذكره شعبان خليفة في "الكتب والمكتبات في العصور القديمة".
جامعة المكتبة وليست مكتبة الجامعة
بعد خمس سنوات من وصول رمسيس الثاني إلى سدة الحكم في مصر، وبالتحديد سنة 1320، دخل رمسيس الثاني في حرب مع الحيثين الذين شكَّلوا جبهة تمرد ضد حكمه. المهم أنه انتصر عليهم في معركة قادش، وتخليداً لذكرى هذا الانتصار، قرر أن يبني رمسيسُ الثاني معبداً كبيراً تَلْحقُ به مدرسة جامعة تنشر العلم والمعرفة ومكتبة عظيمة تخدم البرامج التعليمية للجامعة.
حرص المصري القديم على تحصيل العلم، وكان العلم عنده مصدر جلب السعادة. ونُسب إلى أحد الكتَّاب في مصر القديمة أنه قال: "الرجل المحظوظ هو الذي يضع العلم في قلبه"
وكانت هذه المكتبة هي الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها التعليم، كما هو حال المكتبات في مصر القديمة. وحول مكان المكتبة في العملية التعليمية يقول شعبان خليفة: "إننا في أيامنا هذه نصف المكتبة الموجودة بالجامعة بأنها "مكتبة الجامعة" ولكن في مصر القديمة هناك وصف آخر لها هو "جامعة المكتبة" لأن المكتبة هي الأصل الذي تقوم فيه الجامعة، بحسب قول شعبان خليفة في "الكتب والمكتبات في العصور القديمة".
ضع العلم في قلبك
حرص المصري القديم على تحصيل العلم، وكان العلم عنده مصدر جلب السعادة. ونُسب إلى أحد الكتَّاب في مصر القديمة أنه قال: "الرجل المحظوظ هو الذي يضع العلم في قلبه". وكان المصري يضع نصب عينيه ثلاثة دوافع، وهو يُقبل على التعليم هي الدخول في سلك الهيئة الحاكمة، وخدمة المطالب الدينية وذلك عن طريق اكتساب العلوم الدينية، وتحقيق المكانة الاجتماعية الكريمة، بحسب ما تذكره فاطمة باخشوين في مقالها المنشود بمجلة كلية الآثار بقنا، "العلم والتعليم في مصر القديمة".
وهذه الدوافع التي كانت لدى المصري القديم لا زالت موجودة عند المصريين إلى الآن؛ إذ لا زال يحرص كثيرٌ من المصريين على تعليم أبنائهم، بل وينفقون على ذلك ويخصصون للمدارس والدروس ميزانية قبل أن يُفكروا في طعامهم وشرابهم، وذلك طمعاً في نيل المكانة الاجتماعية وتحصيل الوظيفة المرموقة في سلك الدولة. وكذلك ثمَّة طائفة من المصريين تحرص على انتظام أبنائها في صفوف الدراسة الأزهرية رغبة في خدمة الدين. تماماً كما كان يفعل المصري القديم، حيث كانوا يتعلمون طلباً للمكانة الدنيوية وكذلك من أجل المطالب الدينية.
بقيت كلمة أخيرة، هي أن المصري القديم بنى حضارته على العلم والمعرفة. وفي سبيل المعرفة صُنعت لفافات البردي وأقلام الكتابة من البوص ومداد الكتابة من هباب أواني الطهي حتى يمكن تدوين المعرفة.
وأنشأ المصري القديم المكتبات والأكايميات وجعل المكتبة نواة العلم والجامعة تابعة لها. حظي الكتاب والمكتبة بمكانة جليلة في نفس المصري القديم حتى بلغ به الأمر إلى تأليه العلماء وخازني الكتب. اعتمد المصري على تحصيل العلم كسُلَّم إلى السعادة في الدنيا وإلى بلوغ المكانة في الدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 13 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com