بعد سقوط آخر خلفاء أمية في مصر، مروان بن محمد (72–132هـ/691–750م)، توقع المصريون انتهاء الظلم الواقع عليهم بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية طوال العصر الأموي، ولكن بدا مع الوقت أنها مجرد أحلام؛ إذ شهدت مصر مع بداية الحكم العباسي أول ثورة شعبية قادها الفلاحون والأقباط، ولم تتوقف حتى جاء الخليفة المأمون من بغداد إلى القاهرة، وقمعها.
أول ثورة شعبية في مصر
تفاصيل هذه الثورة، ذكرها أبو العباس المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، موضحاً أنه في جمادى الأولى سنة 216 من الهجرة، انتفض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال، وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب عديدة.
لكن يتضح أنه كان هناك سبب آخر لغضب المواطنين، يتمثل في كثرة الضرائب، وهذا ما أشار إليه ساويرس بن المقفع في مؤلفه "تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة" بقوله: "ثورة 216 هـ في عهد الخليفة المأمون، قام بها الفلاحون الأقباط في الوجه البحري، خاصة أهل البشمور، بسبب سوء سيرة العمال وفداحة الأعباء المالية الملقاة على عواتقهم".
يتفق هذا الطرح مع ما ذكرته سيدة إسماعيل كاشف في كتابها "مصر الإسلامية وأهل الذمة" إذ تقول: "قامت أول ثورة للفلاحين المصريين ضد الضرائب في الوجه البحري سنة 217 هـ، ولم تنته تلك الثورات بسبب الخراج إلا بمجيء الخليفة المأمون العباسي إلى مصر لإخمادها".
وفي هذه الأثناء فرض العباسيون ضرائب باهظة، لم يستطع الفلاحون والأقباط تحملها، وفي ذلك يقول ساويرس بن المقفع: "ولما كان في ثالث سنة من مملكة الخراسانيين، أضعفوا الخراج وأكملوه على النصارى ولم يوفوا لهم بما وعدوهم".
ويصف الكاتب الصحافي محمود السعدني، ما حدث في كتابه "مصر من تاني"، قائلاً: "الجماهير في مصر سئمت اللعبة، وأدركها اليأس من صلاح الحال، ولذلك شهدت مصر أول ثورة شعبية في تاريخها كله، لم يشترك فيها مقاتلون محترفون ولا فرسان أبطال، لكنها ثورة شعبية قادتها جماعة من الفلاحين والحرفيين، واضطر الوالي العباسي إلى الفرار من الفسطاط (عاصمة مصر سابقاً) هرباً من الثورة، وسيختبئ مع بعض خاصته في مزارع حلوان (جنوب القاهرة)".
فتنة عظيمة في مصر
هذه الثورة أطلق عليها "الثورة البشمورية"، لكن يردد البعض أن القائمين عليها كانوا من الأقباط فقط، ويرد مؤلفو كتاب "العهود والوعدود والتهميش في العصر الإسلامي"، على ذلك مؤكدين "أنها كانت من قبل أهل الوجه البحري جميعاً مسلمون وأقباط، نظرا لفساد رجال الوالي عيسى بن منصور، وتشددهم في جمع الخراج من الأقباط، فأعلنوا العصيان وطردوا العمال"، وفقاً لما أورده المقريزي أيضاً، ومحمد بن يوسف الكندي في كتابه "الولاة والقضاة"، إذ يقول: "ثم انتفضت أسفل الأرض كلها عربها وقبطها، في جمادى الأولى سنة 216".
مع بداية الحكم العباسي شهدت مصر أول ثورة شعبية في تاريخها كله، لم يشترك فيها مقاتلون محترفون ولا فرسان أبطال، ثورة قادتها جماعة من الفلاحين والحرفيين، واضطر بسببها الوالي العباسي إلى الفرار من الفسطاط (عاصمة مصر سابقاً) خوفاً من تداعياتها
وهنا نقطة أخرى قد تطرأ على عقول البعض، وهي أن الثورة قامت لأسباب دينية، وهو ما نفته سلوى بكر في مؤلفها المعنون بـ"البشموري"، مؤكدة: "ثورة البشموريين لم تكن دينية كما يزعم البعض، بل اجتماعية كان سببها تزايد ضريبة الأرض الزراعية؛ لأن العرب عندما فتحوا مصر لم يكن لهم دراية بالنظم الزراعية المعمول بها منذ عهد الفراعنة؛ إذ كانت غلة الأرض توزع على أربعة أنصبة، ربع للفرعون وربع للمعبد، وربع للفلاح وربع لإعادة الإنفاق على العمل الزراعي، وعندما جاء العرب لم يطبقوا هذا النظام وكانوا يطالبون بزيادة غلة الأرض وزيادة الضريبة الزراعية، ومن هنا أصبح هناك إجحاف بالفلاح الفقير".
ويشير ابن إياس في كتابه "جواهر السلوك في أمر الخلفاء والملوك" إلى أن ما حدث آنذاك "كانت فتنة عظيمة كادت أن تخرب عن آخرها وعظم الأمر حتى قدم الخليفة المأمون إلى مصر"، خاصة أن أهل الوجه البحري والأقباط حشدوا وجمعوا فكثر عددهم، وساروا نحو الديار المصرية، فتجهز عيسى بن منصور وجمع العساكر والجند لقتالهم، لكنه ضعف عن لقائهم وتقهقر بمن معه، فدخل الأقباط وأهل الغربية مصر، وأخرجوا منها عيسى على أقبح وجه لسوء سيرته، وخرج معه أيضاً متولي خراج مصر، وخلعوا الطاعة، وفقاً لما ذكر ابن تغردي بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة".
وعندما اشتدت الثورة أرسل الخليفة المأمون، الأفشين "المعتصم بالله حيدر بن كاوس" إلى مصر قادماً من برقة بليبيا، فتهيأ لقتال القوم في النصف من جمادى الآخرة، وانضم إليه عيسى بن منصور، وتجمعوا وتجهزوا لقتال القوم، وخرجوا في شوال وواقعوهم، فظفروا بهم بعد أمور وحروب، وأسروا وقتلوا وسبوا، ودامت الحروب في السنة المستمرة بمصر إلى أن قدمها أمير المؤمنين عبد الله المأمون في المحرم سنة 217 هـ.
وبوصول الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون (170–218 هـ786 /-833 م)، إلى مصر سخط على عيسى بن منصور الرافقي (228–232 هـ/843–847 م)، وكان على إمارة مصر، وأمر بحل لوائه، وقال له: "لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتهم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد".
ولكي يحكم المأمون قبضته على البلاد مجدداً بعد حالة الفوضى التي حدثت، بعث جيشاً إلى الصعيد، وارتحل هو إلى سخا بمدينة كفر الشيخ (شمال مصر)، وبعث بالأفشين إلى القبط، وقد خلعوا الطاعة، فأوقع بهم من ناحية البشرود (منطقة ساحلية بين فرعي رشيد ودمياط، وتسمى أيضا البشمور)، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين.
المأمون يحكم بقتل الرجال
ويؤكد المقريزي أن الخليفة المأمون حكم فيهم بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال، فسبى أكثرهم، وتتبع كل من يخالفهم، فقتل ناساً كثراً، ورجع إلى الفسطاط في صفر عام 217 هـ، ومضى إلى حلوان، وعاد فارتحل في الشهر ذاته، وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوماً.
يؤكد المقريزي أن الخليفة المأمون حكم بقتل الرجال الثائرين، وبيع النساء والأطفال، فسبى أكثرهم، وتتبع كل من خالفه
وفي ذلك يقول ساويرس بن المقفع: "ولما استفحل أمر هذه الثورة جاء الخليفة المأمون إلى مصر للعمل على قمع الثورة وإخمادها، وسار بنفسه على رأس قواته التي نجحت في إخماد الثورة في صفر سنة 217 هـ"، مؤكداً أنها "كانت أكبر وآخر الثورات التي قام بها الفلاحون الأقباط".
وتشير سلوى بكر إلى أن "ثورات الأقباط بدأت منذ عصر الولاة وحتى العصر العباسي الأول، وكانت تخمد وتقمع حيناً، لكنها كانت تعود حيناً آخر وتتجدد، حتى جاء الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي وقمع هذه الثورة لأنه كان يرى أنها تهدد نظام الحكم العربي في مصر".
وعن أسباب فشل الثورة، يرى محمود السعدني أن ذلك يرجع إلى غياب القيادة، ما جعل الناس يفقدون الرؤية الصحيحة ويخطئون الهدف، فقد حدثت خلال الثورة أخطاء شديدة من جانب الثوار، فقد هاجمت الجماهير الغاضبة حواصل التجار داخل الفسطاط وخارجها، ونهبوا ما فيها، وأشعلوا فيها النيران، مع أن هؤلاء التجار كانوا رديفاً للثورة، وربما كانوا أكثر سخطاً على السلطان.
واعتدى بعض الثوار على بعض الحارات داخل الفسطاط، وضربوا الآمنين من السكان، وفي النهاية قمعت الثورة قمعاً شديداً، ويؤكد "السعدني" أن الخليفة المأمون أمعن في القتل، وقيل إن "الطيور الجارحة كانت تحلق في الفضاء ولا تنقض على الجثث المطروحة في الصحراء، لأنها أكلت حتى شبعت، وعندما هدأت الأحوال في مصر، عاد واليها المختفي في خرابات حلوان".
هل كان الإمام الشافعي وراء الثورة؟
مؤلف كتاب "مصر من تاني" ذكر أن السبب في نشوب الثورة غير ظلم الولاة وفساد القضاة والعسكر، يرجع إلى رجل قال عنه إنه "من أفاضل الناس، وسيدة عظيمة من بيت النبوة، أما الرجل فهو الإمام الشافعي، والسيدة هي نفيسة بنت حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب".
يقول ساويرس بن المقفع: "ولما استفحل أمر الثورة جاء الخليفة المأمون إلى مصر للعمل على قمعها وإخمادها، وسار بنفسه على رأس قواته التي نجحت في إخماد الثورة مؤكداً أنها كانت أكبر وآخر الثورات التي قام بها الفلاحون الأقباط"
وأشار المؤلف إلى أن الإمام الشافعي التف حوله خلق كثيرون، فلما اشتد بهم الكرب، وثقل عليهم ظلم الولاة والقضاة، كانوا يلجأون إليه يطلبون المشورة، فكان يردد دائماً على مسامعهم: "لا يصلح أمور الناس إلا عزائمهم، ولا يقبل الظلم إلا ميت، أما الحي فهو إذا لم يقاتل فهو على الأقل قادر على أن يصرخ"، وكانت هذه فتوى شرعية من إمام الزمان والعصر لجموع المصريين أن ينتفضوا ضد ظالمهم، وأن يهبوا ضد جلاديهم.
وبحسب السعدني فإنه قبل اندلاع الثورة بقليل كانت السيدة نفسية تحرض المصريين على المقاومة ضد الظالمين، والوقوف في وجه الحمقى من الولاة وحكام الأقاليم.
لكن لم نجد دليلاً واحداً على ما ذكره السعدني بشأن الإمام الشافهي والسيدة نفيسة في المراجع التاريخية كافة، خاصة أن الأول توفي عام 204 من الهجرة، أي قبل اندلاع الثورة بـ12 عاماً، أما الأخرى سليلة بيت النبوة فقد رحلت عن الحياة عام 208 هـ، قبل الأحداث المذكورة أيضاً، ما يؤكد عدم صحة ذلك، ولكنه قد يكون من قبيل ربط الزعماء الدينيين بالثورة.
أحمد البنهاوي يحرك الثورة ضد الدولة العباسية
الكاتب الصحافي محمود السعدني ذكر أيضاً أن هناك رجلاً من مدنية بنها (ضمن إقليم القاهرة الكبرى) حرك الثورة ونفخ فيها النار، أطلق عليه أحمد البنهاوي، عالماً باللغة والحديث والتفسير، فصيح اللسان، شجاع القلب، أخذ على عاتقه تعبئة الجماهير في القاهرة ضد الحكم العباسي، واستطاع أن يبذر خلايا الثورة وأن يمدها ببعض المال الذي استطاع أن يجمعه لشراء السيوف والخناجر والحراب.
لكن هناك واقعة حادثة غريبة أودت بحياة قائد الثورة، بسبب أن بعض قطاع الطرق بحسب السعدني نهبوا قافلة تجار بالقرب من قليوب (تتبع محافظة القيوبية)، وهرعت إلى هناك بعض الفرسان من حرس الوالي لتعقب اللصوص، وحدث أنهم كبسوا على قليوب وبها أحمد البنهاوي في بيت منعزل مع فريق من أصحابه ومعهم سيوف وخناجر وحراب من التي أعدوها للثورة، فظنهم الجنود قطاع الطرق، ونشبت بين الفريقين معركة، انتهت بمقتل الأخير ورفاقه.
وكما هو الحال في السابق، لم يذكر الكاتب الصحافي مرجعاً أيضاً بشأن البنهاوي، ولم نجد في المراجع التاريخية، ما يؤكد دوره في تحريك الثورة، وعلى أية حال فقد عبر المصريون عن رأيهم في نظام الحكم العباسي، وعدم قبولهم للظلم الواقع عليهم، خاصة أنهم قاموا طغيان أمراء بني أمية بشدة، وساعدوا في وصول العباسيين إلى سدة الحكم، فما كان لهم أن يقبلوا بتكرار الأمر مرة أخرى، ومن أجل ذلك لم يجد الخليفة المأمون طريقة لإيقافهم سوى القمع بالقوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...