شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تمشية مع عبد العزيز مكيوي، كيف يُنقذ المشرّدون المدينة من الانفلات...

تمشية مع عبد العزيز مكيوي، كيف يُنقذ المشرّدون المدينة من الانفلات...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والفئات المهمشة

السبت 3 أغسطس 202412:15 م

تصميم حروفي لكلمة مجاز

 أحياناً ألمح مشرّدة عجوز تمر أسفل المبنى الذي أسكنه. أود أن ألقي إليها بالمفتاح، معلقاً في مشبك الغسيل. أود أن أسمح لها بالدخول، أعانقها، ويحدث الانتقال السحري ونتبادل  الأدوار، لكن تلك الومضة الطفولية سرعان ما يتسلّل فوقها ظلام الخوف البدائي فتنطفئ. لقد تسلل أيضاً إلى خيالي في الطفولة، فكرة أن التطلّع بإسهاب في أعين المشرّدين يسلبك عقلك. أصل الغرام نظرة، وأصل التملّك نظرة أخرى أكثر اسهاباً.

يمر الآن الوقت كثيفاً وبطيئاً، كعادته في ساعات العصاري، حتى تعبر المرأة من أمام المبنى وهى تشدّ حبلاً فوق كتفها، تجرّ به رزمة أقلام ومساطر ومراسلات، ثم يليها عقدة تربط بها هاتفاً منزلياً، أسود وعتيق الطراز وبدون سماعة، وعقدة أخرى تربط بها زوجين من أحذيتها البالية، ثم في آخر الحبل تجرّ ثلاثة أو أربعة أرجل مخروطية من كنبة عربي وملاءة سرير. ذيل طويل لا ينتهي، عوقب بأن ينحله أسفلت الشوارع.

عرفت من الجيران أن السيدة العجوز كانت تعمل في وظيفة مرموقة في وزارة الثقافة، ثم تم فصلها من العمل. الآن حين تمرّ أدرك ميل الشارع قليلاً ناحية الصعود، ويهيئ لي في ساعات العصاري تلك، أن حبلاً لفّ حول عظمة كاحلي، وحول أثاث المنزل وأسلاك عواميد الإنارة في الشارع، وصولاً للأرجل المخروطية.

تسلل إلى خيالي في الطفولة، فكرة أن التطلّع بإسهاب في أعين المشرّدين يسلبك عقلك. أصل الغرام نظرة، وأصل التملّك نظرة أخرى أكثر اسهاباً... مجاز

أتذكر أولي تجاربي المبكرة مع المشردين. كان ذلك في عام 2008. كنت أتمشى كالعادة في الشوارع الأكثر انعزالاً في حي سانت چيني بالإسكندرية، بعد انتهاء ساعات عملي في محل المخبوزات. أطمس جزئياً التفاصيل المرئية الزائدة عن حاجتي من الليل، أثناء رحلة الرجوع إلى البيت. في إحدى تلك الليالي، رأيت رجلاً يجلس في الحرم الإسمنتي حول شجرة بونسيانا، وكانت تزهر اللونين. كيف لم أنتبه إلى وجوده من قبل، وهو يبدو أنه يفترش هنا منذ عدة أيام؟ كيف لم أنتبه إلى منشر الغسيل المعلق على الشجرة، أو أشيائه المبعثرة حوله؟

قبل أن أتجاوزه، رأيت كفّه يعرف مكان كل شيء حوله دون أن ينظر. كان يرفع ذراعيه ناحية الشجرة كما لو أنه يتضرّع إليها، يترجاها أو يطلب العفو، ثم تبينت وجهه. ابتسم لي ودعاني كي اقترب منه، وابتهج كثيراً وأنار المساء وجهه حين تعرّفت على شخصيته من اللحظة الأولى. نجم السينما عبد العزيز مكيوي، بطل فيلم "القاهرة 30": "حضرتك مثلت قدام سعاد حسني، يخرب بيت شيطانك، أنت بتعمل إيه هنا؟"، ثم نظرت حولي، من السهل تخيل المشرّدين مجموعة من المشبوهين والأوغاد، من السهل تجنبهم.

سرحت في شرح عبد العزيز مكيوي لأفكاره عن مشروعه السينمائي القادم. فكرت أنه إذا استمرّ في مكانه عدة أيام، سوف يصبح، مع مرور الوقت، أحد دبابيس الخريطة اليومية على مسار الطريق، إذا لم ينقذه أحد، سيكون مثل الفتاة المشرّدة التي لا تزال في عمر الثلاثين، طوال العشر سنوات التي تابعتها فيها، تتجوّل في طريق "جمال عبد الناصر" حتى محطة القطار. تظهر فجأة لتصطاد كل من يمشي "ملهوج" إلى عمله، وتمشي إلى جواره، تهمس له بصوت بلا شعور: "أخويا.. هات جنيه أفطر به"، وفي كل المرات بلا استثناء هي لا تنتظر نقودا أو انتباهاً ممن توجّه له الكلام، ولا تقول سوى جملتها الوحيدة: " أخويا.. هات جنيه أفطر به" . بعد سنوات من متابعتها، حين يأتي ذكرها مع جار أو صديق، يدور الحديث حول تأثيرها القوي، كالعصير المرّ في بداية الصباح.

ما يتركه وقع  كلمة "مشرّد" هو أنه بلا وجهة محدّدة، بلا رغبة في الوصول

دعوت الممثل عبد العزيز مكيوي أن يأتي معي للمنزل. كنت ألحّ كحبيب. حاولت ألا أكون مزعجاً، لكنه رفض بأدب بالغ، وقال إنه مشغول جداً هذه الليلة للانتهاء من مشروع فيلمه الجديد. كان جلياً عدم إدراكه أنه أصبح مشرداً، يبيت في الشوارع. في النهاية وافق بعد إلحاح على دعوتي له لتناول مشروب دافئ في المول التجاري القريب.

تمشينا سوياً، أنا وعبد العزيز مكيوي. كانت خيالات تترات فيلم "القاهرة 30" تتراءى أمام عيني على الطريق من الجانبين. على خلفية شفافة للمباني والزحام: قصة نجيب محفوظ، سيناريو علي الزرقاني، موسيقى فؤاد الظاهري. ما يتركه وقع  كلمة "مشرّد" هو أنه بلا وجهة محدّدة، بلا رغبة في الوصول. أحد تلك الدبابيس التي أضعها على خريطة مشاويري اليومية، مشرّد يقف عند كوبري "ستانلي"، يودع الناس بحرارة، يودع كل من يعبر الطريق، ولا يفرق في تعامله بين الناس في سياراتهم الخاصة أو ركاب أتوبيسات النقل العام. يقف على الرصيف ويلوح بيده، ويبتسم ويملي عينيه بكل راكب حتى يمر. يصبح الرجل أقوى من كل الكتب التي انتقدت الرأسمالية.

جلست وعبد العزيز مكيوي في مطعم بالمول التجاري. اخبرني أنه لم يشاهد فيلمه "القاهرة 30"، ولا مرّة في حياته، وقد صدقته. ربما شاهده آلاف المرات، لكن يبدو كما لو أنه دأب في السنوات الأخيرة على مسح كل نسخة مشاهدة للفيلم... مجاز

جلست وعبد العزيز مكيوي في مطعم بالمول التجاري. اخبرني أنه لم يشاهد فيلمه "القاهرة 30"، ولا مرّة في حياته، وهو من إنتاج 1966، وقد صدقته. ربما شاهده آلاف المرات، لكن يبدو كما لو أنه دأب في السنوات الأخيرة على مسح كل نسخة مشاهدة للفيلم. أتذكر المشهد الافتتاحي وجملته الحوارية: "ليه الفلاح بيشتغل، بيعرق ويموت من الجوع، وصاحب الأرض في قصره بيزيد غني وثروة وجبروت، مفيش غير الإيمان بالمجتمع، مفيش غير الاشتراكية". حين أخبره كذباً أن التلفزيون سوف يذيع الفيلم في سهرة الليلة، يقبل دعوتي ويقرّر الذهاب معي إلى المنزل. صمّم أن نتمشى للمنزل حتى بعد أن عرف أنه على بعد اثنين كيلومتر. اختصرت الطريق وتمشينا من الزقاق المجاور لسور جراج عربات الترام في منطقة مصطفى كامل، ومثلما يقول المعماري حسن فتحي: "أن الشارع المصري كان من ميزاته أنه ليس مفتوح ومتوازي الجدران لأثنين أو ثلاثة كيلومتر، هذا سخف، وهذه ليست عمارة، لكن الشارع حين يكون مغلق في بعض أجزائه سيكون متعرّج مثل الصحن، الهواء البارد سوف يترسب فيه"، لذا حين تجاوزت العلامة المميزة، حيث الرجل المشرّد الذي ينام على دكة محطة انتظار الأتوبيس، أدركت اقترابنا من الوصول للمنزل، وأن حرارة جسده لن تصل لمنزلي، ومع ذلك كنت حين أصادفه نائماً في ساعة الذروة، بين السادسة والسابعة مساء، أشعر أن ليست كل الأشياء التي ترى بالعين المجرّدة هي موترة، وليست كل الصراعات الصغيرة اليومية على السطح هي المسألة، لكنني أيضاً لا أشعر بالطمأنينة وهو نائم، بل أشعر بزحف أرواح الملاعين والشياطين الهادئة في الليل.

تمنيت ألا أصادف صاحب العمارة التي أسكن فيها. كنا على خلاف في هذه الفترة. كنت أسكن مع صديق، وكنا نستضيف والده هذا العام. كان رجلاً عجوزاً لطيفاً. كان يعمل منتج كاسيت في السبعينيات في مرحلة من حياته، وكان دائم التوهّج حين يتذكر حكاياته عن تلك الفترة. قابلت الرجلين ببعضهما، الممثل الكلاسيكي من زمن الستينيات ومنتج الأغاني الشعبية في السبعينيات. لم يشعر عبد العزيز مكيوي بساعات الليل كيف انقضت. كانت أصوات الشوارع في حي "كليوباترا" تجعل ساعات الليل تتكسر بلطافة مثل الميلفيه، لكن في لحظة واعية للنجم السينمائي، شعر أخيراً بالارتياح والهزيمة التامة في نفس الوقت، ثم استأذن في الانصراف وترك لي ثمرة جوافة.

في الصباح، ذهبت إلى محل جدي في حي العطارين. يأتي رجل يعبئ دورقين من ماء البحر، ويثبتهم على عصا فوق عنقه. يرش بهما على أبواب المحلات ومداخل الأزقة. يأتي قبل أن تدبّ الحركة في الشوارع. في وقت راحة العمال في محلات جدي، يتحدثون عن إيمانهم ببركته، قليل منهم من يقول لي: لا تشغل بالك بالمشردين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image