ملحمة حقيقية يخوضها أهالي جزيرة الوراق منذ سنوات يُظهر خلالها أهلها قوة وصلابة لا تتناسبان مع الخضوع العام تجاه تعسف الحكومة مع محاولات إخلاء الأهالي من عدة مناطق في مصر، وربما المواجهة التي حدثت قريباً، ونجح فيها أهالي جزيرة الوراق، في إجبار الحكومة على التراجع عن محاولة تبوير أراضٍ في منطقة قريبة من ساحل النيل بالجزيرة وصب مواد بناء عليها تحت حراسة الشرطة، لن تكون آخر فصول تلك المواجهة.
تنكيل مستمر
حسب ما قال مصدران من أهالي الجزيرة لـ"مدى مصر"، أوضح المصدر الأول أن قوات الأمن تحركت صباحاً بصحبة عدد من الجرافات التي خرجت من مقر جهاز تنمية الوراق باتجاه منطقة الـ30 متراً بالجزيرة، والتي تمتد بعد منطقة طرح النهر الملاصقة للنيل، والتي سبق وأصدرت الحكومة قراراً بنزع ملكيتها. وأوضح المصدر أن تحرك الشرطة وقوة التبوير باتجاه المنطقة أدى إلى تجمع السكان بشكل كبير فيها، ما دفع الشرطة إلى التراجع عن مسعاها.
ملحمة جزيرة الوراق تعود إلى عهد مبارك، لكن لم يكن النظام بهذا البطش، وهذا العداء الشديد من الحكومة تجاه الأهالي لمجرد أنهم يرفضون مغادرة أرضهم
أما المصدر الثاني، وهو أحد سكان منطقة الـ30 متراً، فقال إن الأجهزة التنفيذية استخدمت معداتها في تبوير أراضٍ نزعت ملكيتها بالفعل بالاتفاق مع ملاكها الأصليين في السابق بصب مواد البناء عليها، قبل أن تحاول مد عملها لأراضٍ أخرى مملوكة لأفراد، وهو ما نجح السكان في منعه.
ويأتي تصدّي الأهالي لمحاولات الشرطة تبوير تلك الأراضي بعد أيام من تظاهرهم احتجاجاً على القبض على أحد سكان الجزيرة بصورة مهينة والاعتداء على والدته خلال القبض عليها، تبعاً لما أوضحه مصدر من الأهالي لـ"مدى مصر". كانت التظاهرة تشمل هتافات ترفض محاولات تهجير السكان التي تضمنت دعوة إلى توقيع استمارات وهمية تفيد بالموافقة على تسليم منازلهم مقابل الحصول على تعويضات.
تكاتف أهالي الجزيرة لمواجهة الخطة الحكومية تزامن مع استمرار بيانات رئاسة الوزراء حول مشروع "تطوير الجزيرة"، التي كان آخرها في 8 تموز/ يوليو 2024، وأكد خلاله وزير الإسكان لرئيس الوزراء أنه تم الحصول على نحو 993 فداناً من أصل 1295 فداناً بما يتخطى 76% من إجمالي مساحة المنطقة محل التطوير في الوراق. فيما أشار رئيس جهاز تنمية الوراق الجديدة إلى توفير ثلاث فرق مساحية لسرعة إتمام أعمال الرفع المساحي لطلبات البيع "الرضائية" لسكان جزيرة الوراق.
وقد نفّذت قوات الأمن حملة مداهمة واسعة النطاق في جزيرة الوراق النيلية بغرض إخلاء العديد من منازل الأهالي وهدمها بالقوة تحت ذريعة أخذ قياسات الأراضي المقامة عليها ضمن أعمال "تطوير" التجمع العمراني الجديد بالجزيرة. وتصدى الأهالي لمحاولات هدم منازلهم في مواجهة ضباط الشرطة وأفرادها المكلّفين بتنفيذ الحملة، ما أسفر عن تراجع قوات الأمن إلى أطراف الجزيرة، علماً أن النزاع القائم يدور حول نسبة 24% من إجمالي مساحة المنطقة محل "التطوير" المزعوم.
وتسعى الحكومة إلى طرد سكان جزيرة الوراق الأصليين لإقامة مشروع سكني فاخر تموله شركة إماراتية، بعدما رفضت محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة الدعوى القضائية المقامة من أهالي الجزيرة، التي كانوا قد طالبوا فيها بوقف قرار الحكومة نزع ملكية الأراضي والمباني المملوكة لهم دون منحهم تعويضات مناسبة أو التفاوض معهم ونزعها بالقوة الأمنية بالمخالفة لأحكام الدستور والقانون.
شرعت قوات الأمن، في وقت سابق، في هدم المستشفى الوحيد الذي يخدم الأهالي البسطاء في الجزيرة، فضلاً عن مركز الشباب الوحيد أيضاً، في إطار المحاولات المستمرة لتهجير أهل الجزيرة واستغلال أراضيها في إقامة مجتمع عمراني جديد باسم مدينة الوراق الجديدة.
من عهد مبارك
ملحمة جزيرة الوراق تعود إلى عهد مبارك، لكن لم يكن النظام بهذا البطش، وهذا العداء الشديد من الحكومة تجاه الأهالي لمجرد أنهم يرفضون مغادرة أرضهم. جزيرة الوراق تقع في موقع إستراتيجي على النيل، وهو موقع خلاب جداً، وبالتأكيد يشكل مطمعاً لأي مستثمر، مثلما كانت رأس الحكمة مطمعاً لأي مستثمر يمكنه دفع ثمنها. تمكنت الحكومة من إخراج أهالي رأس الحكمة، بعد صرف التعويضات من قبل المستثمر الإماراتي. بينما تعاملت الحكومة مع أهالي الجزيرة كما لو كانت في حالة حرب، حتى إن مدرعات الأمن المركزي اقتحمت الجزيرة أكثر من مرة، ومنعت قوات الأمن من قبل دخول أي مواد بناء للمكان، أو ما يساعد على إصلاح الصرف الصحي أو البيوت المهدمة. ولم تتمكن الحكومة طوال سنوات من الوصول إلى حلول وسط مع أهالي الوراق أو حتى الإذعان لرغبة سكانها، ربما لانعدام أي رغبة سوى البطش.
في الأيام القليلة الماضية، ظهر خبر مفاجئ على المواقع الاقتصادية المصرية مفاده أن شركة مصرية تابعة لرجل أعمال مصري عقدت اتفاقاً مع شركة إماراتية لإنشاء مشروع جديد على الجانب الآخر من النيل مقابل جزيرة الوراق. المشروع يمتد على مساحة 20,000 متراً، ويشمل أبراجاً سكنية ومولات وفندق خمسة نجوم.
جزيرة الوراق تقع في موقع إستراتيجي على النيل، وهو موقع خلاب جداً، وبالتأكيد يشكل مطمعاً لأي مستثمر.
قبل هذا الخبر، وتحديداً في نهاية الشهر الماضي، عقد رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، اجتماعاً لمجلس الوزراء ناقشوا فيه المرحلة العاجلة لتطوير جزيرة الوراق. التي تشمل إدخال مرافق وبنية تحتية وفنادق وأبراج سكنية.
شدّد مدبولي في الاجتماع على الالتزام بالجدول الزمني للمشاريع التي يريد النظام تنفيذها في "الوراق"، رغم أنه لم يحصل على موافقة سكانها. "المرحلة العاجلة" التي اعتمدت في آذار/ مارس 2024 تشمل إنشاء 50 برجاً سكنياً يضم أكثر من 2100 شقة. أكد مدبولي أهمية الأعمال التي تتم حالياً ضمن المخطط العام لـ"تطوير" جزيرة الوراق.
في الاجتماع، أشار مدبولي إلى أن هناك متابعة مستمرة لتلك الأعمال في إطار جهود الدولة للنهوض بالمناطق غير الآمنة وغير المخططة وتزويدها بشبكة متكاملة من الخدمات بما يخدم أهداف التنمية الشاملة. والسؤال هنا: كيف ستُنفّذ هذه الخطة العاجلة؟ وكيف سيتم بناء فندق خمس نجوم ومولات على النيل مقابل جزيرة الوراق التي لم يتم إخلاء سكانها بالكامل بعد؟
الحكومة تقول باستمرار في كل اجتماعاتها إن الأمور تسير بالتراضي مع سكان الوراق، وإن هذا التراضي أدّى إلى استلام 1000 فدان من أرض الجزيرة ولم يتبق سوى قرابة 315 فداناً، إلا أن مشاهد الأمن وهو يُخلّي الجزيرة من سكانها بالقوة عادت مرة أخرى، ومعها مشاهد مقاومة الأهالي للإخلاء.
تسعى الحكومة إلى طرد سكان جزيرة الوراق الأصليين لإقامة مشروع سكني فاخر تموله شركة إماراتية، بعدما رفضت محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة الدعوى القضائية المقامة من أهالي الجزيرة لوقف قرار الحكومة نزع ملكية الأراضي والمباني المملوكة لهم دون منحهم تعويضات مناسبة أو التفاوض معهم
يرفض أهالي الجزيرة التعويضات الهزيلة التي قد لا تزيد عن النصف مليون جنيه مصري أو الحصول على شقة صغيرة في "حي الأسمرات".
ما يجبر على احترام أهالي الوراق هو أنهم نجحوا حتى الآن في الحفاظ على التمسك بحقوقهم، كما كشفوا عمليات النصب التي تحاول إجبارهم على التوقيع على مستندات تنازل عن أراضيهم ومنازلهم، إذ يوقع أفراد لا علاقة لهم بالجزيرة، على استمارات تنازل عن الأرض وهو ما فضحه الأهالي على الهواء عبر فيديوهات متداولة على فيسبوك.
كما أنهم لم يخافوا من عرض فيديوهات يظهرون فيها وهم يطردون عناصر من الأمن من الجزيرة، وأحد السكان يقول للضباط بشجاعة: "مكانكم ليس هنا. مكانكم في الأكمنة خارج الدائري في المحافظات من أجل الأمن والأمان. مكانكم ليس هنا، عملكم في الأكمنة على الدائري. مع تجار المخدرات".
تواجه الحكومة دعاوى قضائية رفعتها مجموعات من المحامين ضد نزع ملكية أراضي الجزيرة بحجة بناء مجتمع عمراني جديد، معتبرين أن هذه الخطط تؤدي إلى تشريد السكان، وهو أمر غير دستوري. لكن النظام المصري يتجاهل هذه الدعاوى، ويستمر في تنفيذ خططه بكل السبل الممكنة، بما في ذلك استخدام وسائل غير مشروعة مثل إحضار سماسرة لتوقيع عقود وهمية بأسماء سكان الجزيرة.
ليس واضحاً إلى متى قد يصمد أهالي جزيرة الوراق، وهل المطلوب منهم في ظل الخضوع العام، أن يعطوا أي نوع من الأمل عبر شجاعتهم في المواجهة مع النظام؟ خاصة أن كل ما يحدث يشير إلى إصرار الحكومة على إنهاء مسألة "الوراق" من خلال الضغط وحصار أهلها سواء بالترويع المستمر أو محاصرة الجزيرة بالمشاريع والأبراج التي تُقام على الأرض التي استطاعت الحكومة أخذها من السكان، سواء بالتراضي أو بالقوة، والمشاريع التي تُقام على الجانب الآخر من النيل مقابل الجزيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه