شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"التنمية بالغصب"... عنصرية الحرب على العشوائيات في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 فبراير 202102:09 م

أنا معماري... حبيت الجمال واتعلمت أحبه في الكلية، فكرهت العشوائيات وكل مباني الطوب الأحمر، ككيان قبيح يتنافى مع مفاهيم التصميم الجميل... وده كان متوقع لأني مازرتهمش غير متأخر. بس مجرد محاولتي لتخيل نفسي مكان أهلها وفي ظروفهم كانت صادمة وكافية لزعزعة أفكاري الساذجة عن الجمال والقبح.

لمّا أدركت الأسعار الصادمة للشقق الرسمية والمعدلات المخيفة للفقر (32.5% من المصريين فقراء) وعرفت أن 2 مليون وربع المليون مواطن مصري فوق سن الـ30، لم يتزوجوا وفقاً للتعداد الأخير، وأن فيه 13 مليون وحدة سكنية فاضية (37%)، سألت نفسي هل جمال التصميم أهم من السكن نفسه؟ وهل لما أبني سكني بنفسي بقدراتي جريمة يعاقبني عليها القانون ويوصمني بيها المجتمع؟ وهل مبنى من الطوب الأحمر يطل على شارع ضيق بعض الشيء يستحق الهدم بشكل مطلق؟ وهل دهان المباني بألوان واحدة هو الحل؟ وهل وقف ومنع البناء هو الحل؟

بدأت أقدّر إزاي بعض شركاء الوطن بيعافروا عشان يعيشوا وسط الظروف الصعبة دي واللي بتزداد صعوبة مع الحرب على العشوائيات. الحرب اللي بدأت من زمان بأسلحة كتيرة... من أول المحاولات المحدودة للتطوير والإصلاح داخل المنطقة من غير وصم أهلها ولا هد بيوتهم (زي مشروع الإسماعيلية في سبعينيات القرن الماضي)، مروراً بسياسة تحزيم وبناء أسوار حوالين المناطق... ووصولاً لحصر مناطق بعينها كمناطق غير أمنة وهدم وتهجير سكانها قسرياً، وأخيراً قرارات وقف البناء وفرض كفالة التصالح.

تحوّل عن المشكلات "الحقيقية"

في أغلب الأحيان، السياسات دي مانجحتش في حل أصل المشكلة. لكنها نجحت في تأصيل قناعة جماعية بأن مشاكل المدينة هي العشوائيات.

لكن أنا - وزيي كتير - شايفين الحرب على العشوائيات حرب على العدو الغلط وحرب مكلفة لأن المشكلة عمرها ما كانت في العشوائيات أو أهلها... المشكلة الأساسية هي غض البصر عن المشاكل الحقيقية واختزالها في أماكن محدودة بعينها؛ المشاكل الحقيقية هي: 

بعض شركاء الوطن بيعافروا عشان يعيشوا وسط الظروف الصعبة اللي بتزداد صعوبة مع الحرب على العشوائيات. الحرب اللي بدأت من زمان بأسلحة كتيرة مانجحتش في حل أصل المشكلة. لكنها نجحت في تأصيل قناعة جماعية بأن العشوائيات هي وبس المشكلة 

مشاكل المياة اللي بتوصل مناطق كتير غامقة ومش نضيفة وبتجيب المرض.
مشاكل سوء التغذية وسوء الرعاية الصحية.
مشاكل البطالة العالية وهشاشة ظروف العمل زي عمال اليومية.
مشاكل اللي بيموتوا على الطرق في حوادث العربيات والمشاة.
مشاكل اللي بيخافوا يعدوا الشوارع اللي الدولة فخورة بيها جداً.
مشاكل اللي بيخافوا ينزلوا من البيت لكبر السن وصعوبة المواصلات أو المشي على أرصفة الشوارع.
مشاكل البنات اللي خايفة تتعاكس في كل متر في البلد ولو حتى أدام أمين شرطة.
مشاكل اللي بيترعبوا من ضلمة الشوارع وبتوع المخدرات والتعاطي وتثبيت البلطجية بسبب ندرة الإنارة.
مشاكل اللي بيقع عليهم بيوتهم الشيك الجميلة لسوء الحالة الإنشائية أو لسوء الصيانة أو لعدم حل معضلة الإيجار القديم.
مشاكل اللي بيموتوا في مواقع الإنشاء لعدم توفير معايير الأمان الموجودة على الورق، بس مش ملزمة ومفيش محاسبة عليها.
مشاكل اللي الكوبري بيسد عنهم الهوا والنور.
مشاكل اللي الكومباوند بيخمهم (يخدعهم) والتربة بتقع ومش بيعوضهم أو بيحقنها (يعالجها).
مشاكل الكومباوند اللي بيبني المناطق المزروعة بخلاف لوحة الإعلان والتعاقد.

سألتوا نفسكوا المشاكل دي خاصة بس بالمناطق اللي بيسموها عشوائية، ولّا موجودة في كل منطقة – حتى المناطق المخططة والمناطق الجميلة والمناطق الغنية؟

طب ولو بصينا على آخر أسلحة الحرب على العشوائيات من هدم وتهجير قسري ووقف البناء وفرض كفالة التصالح، عملت إيه في الناس؟

تخيّل معايا أنت بتقعد سنين تصنع شغلة أكل عيشك... اللي بتكون معتمدة على مكان سكنك ومواصلاتك ومدتها وتكاليفها... سنين تصنع بيتك اللي تحبه... تعلق لوحة، رف جميل، تصاحب 2 جيران وتحب تقعد معاهم على القهوة أو تصلي معاهم في نفس الجامع،  تزور ترب (مقابر) العيلة وكل ما تحمله من أهمية ومعنى... وفجأة يجيلك تنبيه أن خلاص موعد الهدم على مسافة أيام وأنت وأهلك وجيرانك احتمال تتهجروا لأكتوبر أو روضة السيدة ولسّه الحكومة ماقررتش ولا بلغتكم... وممنوع تاخد أي عفش ليك بتحبه لأن المكان هناك مفروش والحكومة مش واثقة فيك لسبب ما.

لو عايزين الأمانة... أنا لو مكانهم كنت هبقى مرعوب... حقيقي مرعوب. ولو كنت فاتح بيت كنت هشتم في الحكومة ساعات مع أهلي... بس أغلب الوقت هخبي الرعب ده، أصلي المفروض أطمنهم حتى وأنا مش متطمن... فهمثل على نفسي وأقولهم: "آه هتظبط إن شاء الله متقلقوش".

هخبي إحساس إني نكرة ومش متشاف... وأن أرضي وبيتي مشاع للأفكار والاقتراحات... "نعملها مكان سياحي"، "هنبني فندق عالمي"،  "هنوديهم يعيشوا في الحتة اللي هناك دي"، "آه آه ميحبوهاش ليه إن شاء الله همّ يطولوا أصلاً".

وهو إحنا لو اتهجرنا للأسمرات مثلاً، هشتغل في إيه؟ وأأكل عيالي منين؟ لمّا الحكومة مافكرتش في المشكلة دي. وحتى لو لقيت شغل ما أنا برضو هركب الميكروباصات اللي أنتوا ليل نهار بتشتموا فيها بالإجمال وبالاستسهال: "دول عشوائية وزحمة وقرف"، مع إن 63% من رحلات النقل العام بتتم بالميكروباصات بالمناسبة، وأكتر من نص النقل العام للشعب "غير رسمي"، وأكتر من نص الاقتصاد "غير رسمي" زي ما بيسموه. وأنا ماعنديش غير الميكروباص يوديني لموقف السيدة من الأسمرات بـ3 جنيه وربع، مش الأوتوبيس أبو 5 جنية ولّا الغاز الجديد أبو 10.

التنمية هنا فعلاً بالغصب... ودايماً مع كل تهجير تقف عربيات أمن مركزي وشرطة، ودا مالوش تفسير غير أن البشر والأهالي أصحاب البيوت ممكن يقاوموا هذا العنف - عنف الحكومة اللي شايفة في المناطق دى فرص عالية للتربح

"تنمية بالغصب"

ويا ترى لو رزق شغلي قل، هخرّج كام عيل من التعليم؟ ولّا هوفر كام من أكلهم؟ وأصلاً هجيب منين مقدم وإيجار شقة الأسمرات؟ طب ولو فكرت أأجرها من الباطن، ما هيقولوا عليّا مجرم وبلطجي. وأطلع في الإعلام شايل ذنب الشارع والبلد! وهتسبّوا فيّا واللي زيي كتير بكلام زي: "دول عالم مهما تنضفهم، يموتوا في الوساخة"؛ كل الاحتقار ده بس على إيه؟ حقيقي على إيه؟ هي إيه التنمية اللي بتتم بالغصب دي! وليه بتكرهونا في نفسنا وفي حياتنا اليومية؟

التنمية هنا فعلاً بالغصب... ودايماً مع كل تهجير تقف عربيات أمن مركزي وشرطة، أومال ليه كان فيه أربع عربيات أمن مركزي موجودين أول أيام الهدم في منطقة الطيبي (مكانتش متسجلة غير أمنة بس عملولها قانون قبل الهدم)؟ وليه كان فيه عربيتين أمن مركزي وأربع عربيات شرطة أيام هدم ونبش مدافن الغفير؟ مالوش تفسير غير أن البشر والأهالي أصحاب البيوت ممكن يقاوموا هذا العنف - عنف الحكومة اللي شايفة في المناطق دى فار وبتتلكك بيه وبتصطاده بونش ودقّاق بالذات المناطق اللي على أراضي فيها فرص عالية للتربح.

والغريب أن تعريفات الحكومة للعشوائية بتشمل الأسمرات نفسها!

لأن أكتر من ألف شقة في مشروع الأسمرات الجديد حصل هبوط للأرضية بتاعتها علشان بانيين على زبالة ورتش (مخلفات البناء والهدم) وأكتر من ألف شقة حصل فيها تسريبات مياة.. رغم كدة ماتسمتش منطقة "غير آمنة" واتفوّرت (هُدِمت)... لكن اتعالجت عادي. يعني ممكن نعالج الخلل في مكانه من غير هد وتهجير قسري؟ وده فعلاً المطلوب لأنه من الساذج والمهدر للإمكانيات اللي أصلاً محدودة أنك تقول أدام كل مشكلة "نهدها ونبنيها علي بياض!".

فكرة أنك تبني علي بياض عشان توصل لصورة خيالية ومثالية مفيهاش شوائب فكرة فاشية لأنها بتطرد أي شئ شكله مش جميل وممكن يوسخ الصورة... زي المعاق على كرسي متحرك اللي اتسحبت منه شقه الأسمرات علشان حاول يبيع شيبسي من شباك بيته

فكرة أنك تبني علي بياض عشان توصل لصورة خيالية ومثالية مفيهاش شوائب فكرة فاشية لأنها بتطرد أي شئ شكله مش جميل وممكن يوسخ الصورة... زي المعاق على كرسي متحرك اللي اتسحبت منه شقه الأسمرات علشان حاول يبيع شيبسي من شباك بيته في الدور الأرضي... عمل بسيط وشريف لكنه يبدو مخالف لـ"اللقطة الإعلامية المطلوبة"... ومخالف للـ"واجهة الحضارية" لكومباوند الأسمرات.

والحقيقة الحكومة ما بتفرطش في حقها في "الواجهة الحضارية" ومستمرة في الهدم والتهجير وكمان وقفت البناء ونفذت قانون التصالح... القانون اللي أظهر لنا أن المخالفات طايلة كل المناطق المخططة وغير المخططة، ولو فكرنا في فكرة التصالح نفسها هنلاقي إن كل المدينة راحت تتصالح وتدفع كفالة على مخالفات "عشوائية"؛ الغني قبل الفقير، في الكومباوند وفي قلب المدينة، على أرض زراعية وغير زراعية، وحدات سكنية وتجارية وإدارية، مطور عقاري ومقاول... يعني "العشوائية" مش خاصية فئة معينة ولا مكان بذاته.

يبقي كدة ربط وصم العشوائية بمجموعة أفراد بعينهم أو مناطق بعينها يفقد مغزاه. أومال ليه الوصم مستمر ومتأصّل؟ عايز تعرف ليه؟ لأن الوصم بالعشوائية هو العنصرية ذاتها. عنصرية ضد الفقير وذوي الاحتياجات والصعيدي والفلاح النازح للمدينة. عنصرية تكشف عن خوف دفين من التجمعات البشرية غير النظامية، واللي قادرة تخلق سكن وشغل لنفسها، وتعيش بيه وتخدم ناس تانية كتير وتقوّم المدينة على أكتافها. عنصرية ضد "أهالينا" اللي لازم نلمهم في مكان واحد تحت نظرنا ونفرض عليهم نمط سكني ومعيشي موحد حتى لو مش بيناسبهم ويمكن كمان يهد كل اللي قدروا يحققوه في حياتهم.

الوصم بالعشوائية هو العنصرية ذاتها. والخوف اللي ورا العنصرية دي بيولد كراهية... كراهية للذات... وكراهية للآخر... وكراهية لكل ما هو مختلف... حتى لو معمارياً.

الخوف اللي ورا العنصرية دي بيولد كراهية... كراهية للذات... وكراهية للآخر... وكراهية لكل ما هو مختلف... حتى لو معمارياً.

لكن العنصرية مش بس خوف... دي عنصرية ممنهجة وليها مكاسبها... يعني الحكومة مثلاً بتهد بعض الاكشاك والأسواق غير المنظمة، وبتبني بدالهم أكشاك أمان وعربيات لمض فينوس وغيرها – أحياناً حتى في نفس المكان... بتهد في الأول بذريعة القانون والنظام ومنع التكدس غير المخطط... وبتبنيه تاني تحت زعم سد احتياجات أساسية... والسؤال هنا هل مشكلة الشخص اللي اتهدله كشكه أو اتمنعت فرشته أنه شكله وحش؟ ولا كان واقف على أرض غالية جداً ما يستاهلهاش والحكومة أولى بيها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image