شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لوحة الأديان... في عشائنا أي وجبة نريد؟

لوحة الأديان... في عشائنا أي وجبة نريد؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتطرف

الاثنين 5 أغسطس 202411:30 ص

في صباح بارد بالعاصمة أوسلو، أخبرتنا النقابية الصحفية الشابة، أن النرويج لا تزال تمتلك قانوناً ضد ازدراء الأديان، وقبل أن نبدي دهشتنا، سارعت إلى القول بأنه "قانون مهجور"، وأنه "لم يُستخدم منذ حوالي مئة عام".

كان ذلك منذ حوالي عشرة أعوام، حين كانت أزمة "الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول"، والتي "تضامن" معها عدد من الصحف النرويجية، لا تزال في الأذهان. لم أتقصّ كثيراً تفاصيل ما أخبرتنا به الصحافية النرويجية، لكنها كانت مناسبة تذكرني دائماً أن الواقع ليس نمطياً، وأن صوراً مثل "الشرق شرق والغرب غرب" و"حرية التعبير المطلقة" كثيراً ما تدخلها بعض الرتوش الضبابية.

هكذا لم يكد يشعر "أهل الشرق" بالإساءة من الاقتباس "غير اللائق" للوحة ليوناردو دافنشي "العشاء الأخير" في حفل افتتاح أولمبياد باريس، حتى بدا أن الإساءة تضخّمت حين أقدمت اللجنة المنظمة للحفل على الاعتذار "لأي مجموعة دينية شعرت بعدم الاحترام"، وهي صياغة قرأناها في الشرق على أي حال بصفتها "اعتذاراً للمسيحيين".

"أين الحرية المطلقة إذن؟"، تساءل كثيرون وهم محقون، ولماذا لم يعتذر أحد حين "أساؤوا لنبي الإسلام؟"، وهو أيضاً سؤال بديهي، لكن لسوء الحظ أن الأسئلة البديهية لا تمتلك دائماً إجابات بديهية أو بسيطة، وأن من الأسهل أن يؤتى بأجوبتها من صندوق الانحيازات، خصوصاً حين تكون تلك الانحيازات، والعنصرية والمعايير المزدوجة، حاضرة، ليس فقط في الفن والتعبير، بل قبل ذلك، بالدم والنار والسياسة.

لم يكف الأزهر، عن المطالبة بـ "منع الإساءة للأديان عالمياً"، وهو ما يعني إعادة محاكم التفتيش التي انتهت منها أوروبا، لكنها لا تزال تسجن الناس أو تقتلهم على امتداد العالم الإسلامي

حين اقتحم الأخَوان "سعيد وشريف كواشي" مقر مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية قبل 9 سنوات، وقتلا 12 شخصاً، بينهم أربعة رسامين ومدير النشر ومدقق لغوي، انتقاماً لرسوم المجلة الساخرة من النبي محمد، فـ "انتفض العالم" تحت شعار "أنا شارلي". بدا أن الحدث أكبر من مجرّد "هجوم إرهابي"، بل محور لصدام بين عالمين، لكل منهما خطوطه الحمراء، وكما أن "الغرب"، كما يحلو للكثيرين وصفه بتلك الكلمة الواحدة، لم تجعله دماء الرسامين ينتفض ضد دماء الأطفال التي أسالها السلاح الغربي، فإن الشرق، إذا أردنا أيضاً جمع أهله تحت كلمة وحيدة، بدا كأنه لا يتذكر الانتقام البشع الذي نُفّذ بحق رسامي الصحيفة، فهو لا يزال يستحضر المجلة ورسومها المسيئة عند كل "صدام" من غير استحضار الدماء التي سالت في قاعاتها، تماماً كما يستحضر حادثة "مروة الشربيني- شهيدة الحجاب" التي قتلها متعصّب يميني في ألمانيا قبل 15 عاماً، على الرغم من الحكم على المجرم بأقصى عقوبة.

وإزاء حفل الأولمبياد الأخير، يغضب "الشرقي" من "الاعتذار الغربي"، ويتساءل عن الاعتذار إليه أيضاً، مع أنه، كما أن لجنة الحفل لا تمثل كل الغرب، فإن شارلي إيبدو كذلك لا تفعل، وكما أن المسيح لا يخصّ المسيحيين وحدهم، فإن "المجموعات الدينية التي شعرت بعدم الاحترام" هي عبارة لا تستثني المسلمين، وبدا إذن أن المطلوب ليس اعتذاراً، قدر ما هو ضمان "عدم الإساءة للأديان" حتى على الضفة الأخرى للمتوسط، أو لنقل إنه استحضار قانون ازدراء الأديان النرويجي المهجور وإعادته إلى العمل في الغرب، كما هو ناشط للغاية في الشرق.

مائدة العالم واسعة فأي وجبة نريد أن نتناول؟ وعلى مائدة العشاء، جلس يهوذا ومتّى فأيهما نريد أن نكون؟

في الواقع، لم يكف الأزهر، (رمز الاعتدال الإسلامي) عن المطالبة بـ "منع الإساءة للأديان عالمياً"، وهو ما يعني عملياً، إعادة محاكم التفتيش التي انتهت منها أوروبا، لكنها لا تزال تسجن الناس أو تقتلهم على امتداد العالم الإسلامي، حتى لو كانت "الجريمة" لا تزيد عن "تقليد أصوات بعض مذيعي إذاعة القرآن الكريم" في أحد حفلات الستاند آب كوميدي، أو حتى الاحتجاج على ذبح الأضاحي في الشارع العام.

هذا من دون التطرّق إلى من "ينفذون الشرع" بأيديهم، فيقتلون فرج فودة أو يطعنون نجيب محفوظ، وأولئك، في رأي كثيرين، هم السبب في استمرار عقوبات الحبس الرسمية بحق من يمسون "الخطوط الدينية الحمراء"، وذلك "حماية لهم من عقوبات المجتمع الأكثر دموية". في الواقع، في كثير من الحالات، يكون القبض على أحد الكتاب أو الناشطين الذين "ازدروا الأديان"، أشبه بعملية إنقاذ من بين المتجمهرين الغاضبين حول بيته!

وأغلب الظن أن مصممي حفل الأولمبياد لم يفكروا في أن لوحة "العشاء" ستغضب المسلمين. في الواقع، يُعرب كثير من الفنانين صراحة عن موقف متجنّب من العرب/ المسلمين، كالكوميدي الكندي من أصل هندي "راسل بيترز"، الذي "لا يحب قول النكات عن العرب"، لأنه "يريد أن يعيش"، هكذا يقول ساخراً، فيضحك الجمهور، بينما يشرح رولان إيميريش، مخرج فيلم "نهاية العالم 2012" أنه لم يعرض أي مشاهد انهيار لمعالم إسلامية خلال فيلمه، تهرباً من المشاكل مع العالم الإسلامي. ولا يُسعد ذلك كثيراً من العرب/المسلمين فحسب، بوصفه، من وجهة نظرهم، "رمزاً للقوة والبأس والغيرة على المقدسات"، بل إنه يثير كثيراً من اليمينيين الغربيين المحافظين أيضاً، يقول رموزهم في غير مكان "لم يكونوا ليجرؤوا على السخرية من نبي الإسلام في حفل الأولمبياد".

إذا اتضح أن "الحرية أكذوبة" في الغرب أفلا نريدها في الشرق؟ وإذا اتضح أن الغرب منافق فهل هي حجة لنكون منافقين؟

إنه التقاء ضد "حرية التعبير" و"السخرية" بين طرفين هما في واقع الأمر عدوّان: "اليمين الأوروبي والمسلمين"، ضد عدو مشترك هو اليسار الأوروبي. يشير بعض مستخدمي "الميمز" إلى ذلك بواسطة لقطة من فيلم عادل إمام الشهير "الإرهابي"، حين يحتضن الإرهابي المتخفي الجار المسيحي في لحظة فرح بهدف مصر في مباراة كرة قدم، فوق الصورة كتب التعليق "حين اكتشف اليمين الأوروبي والعرب أنهما يرفضان معاً حفل الأولمبياد".

إنه – لكثير من الأسباب- تحالف هش، قائم على إخفاء مؤقت لعداوة عميقة، سرعان ما انفجرت من جديد حين قاد رموز يمينيون، مثل إيلون ماسك والإعلامي البريطاني بيرس مورغان، حملة عنصرية ومتسرّعة خلال الأولمبياد نفسه ضد الملاكمة الجزائرية إيمان خليفة، متهمين إياها "بأنها رجل" بعد فوزها الساحق على ملاكمة إيطالية، بينما وقف العرب/المسلمون يؤيدون "ملاكمتهم" بقوة من اللحظة الأولى، على نحو نكتفي بالقول بأنه غير معهود عربياً، لا إزاء النساء بصفة عامة، ولا إزاء الرياضيات بصفة خاصة، ولا متوسطات التستيسترون والاستروجين بصفة أكثر خصوصية.

هكذا فإن الغضب و"التريند" كثيراً ما يخفي أن القضايا أكثر تعقيداً من تقسيمها إلى مجرد "غرب وشرق"، وأن الموقف السياسي والأخلاقي، فضلاً عن المصالح السياسية والاقتصادية، هم المحرك الأصلي الذي لا ينبغي أن يخفيه غبار المعارك، ومن هنا، سواء كنا نتكلم عن الأولمبياد في باريس أو الحرب في غزة، فإننا لا نزال إزاء السؤال نفسه: أي عالم نريد أن نعيش فيه، في أوطاننا المحلية أو على كوكبنا برمته؟ سواء كان الغرب عادلاً أو منافقاً أو معقداً ومركباً. إذا اتضح أن "الحرية أكذوبة" في الغرب أفلا نريدها في الشرق، وإذا اتضح أن الغرب منافق فهل هي حجة لنكون منافقين؟

إن مائدة العالم واسعة فأي وجبة نريد أن نتناول؟ وعلى مائدة العشاء، جلس يهوذا ومتّى فأيهما نريد أن نكون؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard