أفكّر منذ عدة أيام بكتابة شيء عن أولمبياد فرنسا، شرط أن يقارب ذوق الجمهور العربي، كما يشترط علي محرّر الموقع. لم أستطع بالضبط فهم ما الذي قد يُناسب العرب في هذا المحفل الدولي؟ هل أكتب عن إنجازات العرب الصغيرة؟ تاريخ المشاركات؟ عن لاعبينا الهاربين من جحيم الوطن نحو نعيم المنتخبات الأوروبية؟ عن الفساد والمحسوبية، عن لاعبي الحواري الحريفة؟ عن القهر والعنصرية ضد النساء، ضد الملونين، والمثليين/ات، والمختلفين/ات عقائدياً وفلسفياً وروحياً؟
لم نكن يوماً من أبطال الأولمبياد، ميدالياتنا قليلة، وانجازاتنا لا تُذكر. أحببنا الرياضة، فلم تنصفنا، بل على العكس، لفظتنا، ولم تعترف بنا إلا لماماً: أرضنا لا ترتوي بعرق اللاعبين/ات، بل بدمائهم/ن، وملاعبنا تتحول إلى ساحات للقتل والعقاب الجماعي، وعظامنا تتفتت بين رحى المعارك والإبادات الجماعية، أما عضلاتنا؛ فلا تتحلّل بفعل الإصابات والشدة التدريبية العالية، بل بسبب القصف والجوع والمرض. ألفنا سماع صافرات الإنذار، ولم نعهد صافرات الحكم، ثم تبلّدنا من كثرة ما مررنا بين المتاريس والقناصين والرصاصات ودمعات الثكالى ولا (أجدعها) بطل جمباز دولي. ورغم ذلك؛ لم نزل نحب الرياضة، ونهتم بها.
لم نكن يوماً من أبطال الأولمبياد، ميدالياتنا قليلة، وانجازاتنا لا تُذكر. أحببنا الرياضة، فلم تنصفنا، بل على العكس، لفظتنا، ولم تعترف بنا إلا لماماً: أرضنا لا ترتوي بعرق اللاعبين/ات، بل بدمائهم/ن، وملاعبنا تتحول إلى ساحات للقتل والعقاب الجماعي، وعظامنا تتفتت بين رحى المعارك والإبادات الجماعية
لماذا نهتمّ أصلاً؟
سؤال جيد للبدء: لماذا نهتم بالرياضة لهذا الحد؟
منذ فترة ليست بالبعيدة، ومع عودة الاشتباكات والمعارك الضارية بين قوات "الدعم السريع" والجيش السوداني، شاهدتُ مقطعاً مصوّراً لمجموعة من الشباب السوداني، يلعبون كرة القدم بحماسٍ داخل أحد الأحياء السكنية، في العاصمة السودانية الخرطوم، غير آبهين بدوي الرصاص، وغير مكترثين بأصوات القصف، أو بمآلات التحرُّك، وسط هذا الدخان الكثيف الذي يحجبُ الرؤيةَ ويقتلع الرئات.
لم أفهم بالضبط ماهية السِر وراء تلك الحمية لدى هؤلاء الشباب، وبعد طول تفكير؛ توصلت إلى أنها محاولة لكسب بعض الحياة، وأننا لم نزل "نُحِب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، تقتلنا بما فيها من اضطرابات وسياسة وحروبٍ أهلية، فنحيا من الرماد مرةً أخرى كما في الأساطير القديمة، أقوى وأشد بأساً.
ربما هذا هو السِر خلف اهتمامنا بمتابعة الأولمبياد رغم الهزائم المتكرّرة، أنها أملنا الوحيد في أن نستشعر رحلات هؤلاء اللاعبين/ات: من ملعب ترابي باهت اللون، من الكرة المنتفخة والمليئة بالخروقات، والسماء المخضّبة بالدم والرصاص والقصف، إلى القرية الأولمبية مباشرةً، حيث الذهب والمجد والأضواء. ننظر بشغف إليهم، لأننا نريد أن نرى أنفسنا في كل لاعب منهم، حتى ولو لم يعد بميدالية تشفي صدور الكادحين، فكفاه فخراً أنه حاول، ثم حوَّل معاناتنا إلى شيء ملموس يثبت لنا أننا لازلنا أحياءً.
منازل ومهازل
فكر في الأمر قليلاً: عندما أحببنا محمد صلاح، أحببنا الرجل الذي يشبهنا، حرّيف الشارع، الذي يتحدث بفخر عن أهمية "الكرة الشراب"، واللعب على الحواري والرصيف وعلى بلاط المدرسة الإعدادية، أحببنا الطائر جميل الطلة، انتصار المهزومين، وسفيرنا في بلاد لم تعد تسمعنا من التضخم والعنجهية، وعندما كرهنا محمد صلاح، كرهنا اللاعب (إنجليزي) الهوية، الذي يساوي بين القاتل والقتيل، والذي جاءت كلماته رقيقة عذبة تُدين الكل، ويمكن استغلالها من جميع الأطراف، ثم كرهنا مساحة التأرجح بين الكره والحب والغبن والذهول والرفض والسيطرة والتشويش والوضوح، وخلط الخير والشر في دائرة واحدة، وكأن قضايانا لم تعد هي قضاياه.
أحببنا محمد صلاح، أحببنا الرجل الذي يشبهنا، حرّيف الشارع، الذي يتحدث بفخر عن أهمية "الكرة الشراب"، واللعب على الحواري والرصيف وعلى بلاط المدرسة الإعدادية، وكرهنا محمد صلاح، كرهنا اللاعب (إنجليزي) الهوية، الذي يساوي بين القاتل والقتيل، والذي جاءت كلماته رقيقة عذبة تُدين الكل
هكذا أحببنا محمد صلاح، وعلقنا آمالنا عليه، تماماً مثلما نُعلّق آمالنا وأحلامنا الضائعة، على كل شخص في الأولمبياد الحالية. وكل ذلك جميل جداً، لكن المشكلة تأتي عندما نبحث عنهم في كل مكان، وكأنهم السبب الوحيد لحياتنا، سبب الفرحة الوحيد، وأيضاً سبب الخيبات والنكبات الوحيد. الإنسان العربي يعيش في أزهى عصور "التنفيس" الديبلوماسي، حقبة جليلة الانبطاح أمام كل إصبع شارد، وسلسلة طويلة من الصمت والقهر والخوف والخيانة غذاها العدوان الصهيوني على قطاع غزة. وعندما يعيش الإنسان تحت وطأة هؤلاء المتحذلقين لفترة طويلة، يبدأ عادة في فقد بوصلته وتشييء الإنسان والمواقف.
وساعتها فقط سنرى تلك المهازل الأولمبية: ستتحوّل لاعبة الدراجات المصرية شهد سعيد، من مجرد لاعبة أخطأت، ويجب محاسبتها أو حتى إيقافها في حدود القانون، وبطريقة تسمح لها بمراجعة أخطائها في المستقبل، إلى قضية رأي عام، وسلعة مُستباحة لتنفيس الكبت الجاثم على الصدور، وساعتها أيضاً سيتحوّل الهجوم على الملاكمة المصرية المستبعدة من الأولمبياد لزيادة وزنها، يمنى عياد، من هجوم يبحث عن أسباب وراء هذا الاستبعاد العجيب، ويحاول فهم الظاهرة وتحليلها لكشف المتورّطين أو الفاسدين في الأمر، وطرح الأسئلة المهمة عمّن هو المسؤول عن برنامجها الغذائي، مثلاً، إلى جحيم يلتهم في طريقه ما تبقى من كرامتها، وربما يوصمها للأبد.
وساعتها أيضاً سنرى تلك البيانات الهازلة والمشينة من اللجنة الأولمبية المصرية عن "التغيرات الفسيولوجية التي واتتها فجأة وكانت سبباً في زيادة وزنها"، وكأن نطق لفظة "الدورة الشهرية" شيء مشين يخدش الحياء، لا سمح الله، وليس مجرّد تغيرات عادية تحدث للسيدات جميعاً، ومن حقهن أن يعبّرن عنها بالطريقة الملائمة لهم، هذا بغض النظر عن سفاهة البيان الرسمي بحد ذاته، حيث لا يمكن لعاقل أخذه على محمل الجد، سواء طبياً أو منطقياً.
ذلك ما يطلق عليه: المعارك الآمنة، معارك ليست حقيقية، يخوضها الرجال عادةً، ضد مجموعة منتقاة، ويا حبّذا لو كن نساء، ليس لهن سند، وليس لهن باعٌ في الحياة إلا أحلامهن التي تحلق في الفضاء، ومن أجل أن يشعر هؤلاء القوم بأنها معركة حقيقية فعلاً، وليست مجرّد تفاهة خام، سيغلفونها بالكثير من الكلام الانفعالي عن الذوق العام والأخلاق الحميدة، وأسئلة من قبيل: مَن الذي تركها تذهب للأولمبياد؟ ومن يقف وراءها من المسؤولين؟ مع الكثير من الشعارات والبكائيات تدور جميعها حول أن "اللى له ضهر ما ينضربش على بطنه"، رغم أنها لاتزال ابنة للطبقة العاملة والمهمشة، ابنة لنا جميعاً، ابنةٌ تدفع ثمن كل شيء.
بل وربما يتطوّر الأمر لأن نتحكّم بها، ونفرض عليها أكوادنا الأخلاقية، مثل ما حدث مع اللاعبة المبارزة المصرية ندى حافظ، والتي وصلت إلى دور الستة عشر في مبارزة السيدات، وهي حامل في شهرها السابع، وفور إعلانها الخبر؛ بدأت شوارب رجال السوشيال ميديا وحماة العلم في الهجوم عليها، وبدأت فقرة الأسئلة المعتادة: لماذا تبذل هذا المجهود وهي حامل؟ ومن الذي سمح لها بالسفر؟ أما عن الحالة الطبية وتداعياتها، فليس هناك أعمق ممَّا كتبته الصحفية والكاتبة المصرية، آمنة أيمن، عبر صفحتها على فيسبوك:
"بما إنه ندى حافظ شاركت في أولمبياد طوكيو فده بيخلينا نفترض أنها تمارس هذه الرياضة بقالها سنين، وبما إنها بتمارس الرياضة بقالها سنين فده معناه إن جسمها تأقلم على التمرينات دي وعلشان أثر التأقلم ده يروح احنا بناخد شوية وقت، ولما الجسم يتأقلم بيحصل تغيرات فسيولوجية، التغيرات دي بتختلف على حسب نوع التمارين اللي هي بتعملها في المطلق، ولكن لازم تحصل تغيرات، بتخلي طبيعة جسمها تختلف عن جسم واحدة غير رياضية، وبما اننا بنتكلم عن حمل 7 شهور فاحنا برده علشان نفترض إن الحالة دي بتمارس الرياضة بشكل مستمر مش مجرد فعل مفاجئ، فهي المفروض تكون قعدت من 6-8 أسابيع وبتتمرن 3 مرات في الأسبوع ودول يعني من شهرين لشهر ونص، فهي برده غالباً جسمها تأقلم على وضعها دة أثناء الحمل".
وحتى أكون صادقاً، لقد استعرت هذا الجزء ليس من أجل جودته ولمسه للأمر فقط، بل لأني لست مهتماً بالكتابة عن الجانب الطبي، لأن اللاعبة المعنية طبيبة أصلاً، وهي أدرى منَّا جميعاً بهذا الشق، ومن المستحيل أن تخاطر بنفسها أو بجنينها من أجل عيون الأولمبياد، ولأن تلك الجراءة لم نرها من معشر الرجال عندما كانوا يرون أمهاتهم مطالبات بالذهاب إلى العمل صباحاً، وركوب المواصلات في عز الحر والزحام الشديد، ثم القيام بكافة المهام المنزلية بعد العودة، وربما الاعتناء بطفل آخر، وكل ذلك وهن حوامل أيضاً؛ كلنا شاهدنا تلك الصورة ولم نعترض، فلماذا نعترض الآن؟ هل لأن الوقوف أمام تسلّط الأب قديماً، كان سيتسبب لنا في أزمة ليس لنا قِبل بها، أما ندى فهي هدف مستباح ومعركة آمنة؟ ربما؛ ولكن ما أعرفه حقاً أنها ليست أول لاعبة تشارك أثناء فترة الحمل، ودون أي مشاكل طبية.
المعارك الآمنة، معارك ليست حقيقية، يخوضها الرجال عادةً، ضد مجموعة منتقاة، ويا حبّذا لو كن نساء، ليس لهن سند، وليس لهن باعٌ في الحياة إلا أحلامهن التي تحلق في الفضاء
ما يهم حقاً
أما ما أهتم به حقاً، فهو الجانب الإنساني في القصة: سيدة بسيطة، تعمل طبيبة في القصر العيني، تمارس رياضة المبارزة منذ سن 11 عاماً، وقررت أن تشارك في الدورة الأولمبية الثالثة على التوالي رغم حملها، فوصلت إلى دور الـ 16، واحتفت بها جميع الصحف. تلك قصة جميلة جداً، قصة يحب أن يعيشها كل شخص فينا. قد يقول قائل: وما هو الإنجاز في الخروج من دور الـ 16؟ حسناً، هذا هو لبُّ المشكلة، أنك تضعنا بهذا السؤال أمام معادلة صفرية.
فيصبح النجاح متمحوراً في الإتيان بعرش سبأ، شرط أن تجلس أنت عليه، شخصياً، قبل يرتد إليك طرفك، وما دون ذلك فشل ذريع، بصرف النظر عن فارق الإمكانيات والتحضيرات والمعاشات ومعسكرات التدريب، وما إلى ذلك.
أما التفكير المنطقي، فيدفعنا تجاه أن ندى حافظ شاركت في البطولة، رغم وجود معوقات كثيرة، معروفة لنا بالضرورة، ورغم ذلك، فقد حصدت أفضل مركز لها في تاريخ المشاركة. يا سادة؛ إن وصول من هم مثل هؤلاء إلى الأولمبياد، رغم أنهم/ن يعيشون معنا في نفس تلك الحقبة الجليلة من الانبطاح أمام كل إصبع شارد، لهو انتصار كبير، انتصار يجعلنا نشعر أننا نمارس بعض الحياة، وأننا لم نزل "نُحِب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
وأنا لماذا أكتب هذا الكلام؟ ربما لأن المحرّر العزيز قد طلب مني ذلك، وربما أيضا هي محاولة لتفريغ الكبت الجاثم على الصدور، أو مجرد معركة آمنة أخرى، أخوضها، وأتركها، دون أن أدفع ثمن أي شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...