كانت إحدى ليالي يناير التي لم ينقطع فيها المطر، خاصة في مكان مرتفع مثل هضبة المقطم بالقاهرة، وكان عليّ تلبية دعوة "صالون طابا" الثقافي، للحديث بصفتي الصحفية، عن دور الصحافة في تجديد الخطاب الديني، وبعد مناقشات هنا وهناك مع باحثين وممثلين عن الأزهر، وشيوخ مثل الحبيب الجفري، سُمح لنا بأخذ ما نريد من مطبوعات الصالون، وكان نصيبي بعض كتب الدكتور أسامة الأزهري.
لم أعرف الدكتور أسامة الأزهري الذي عُيّن مؤخراً وزيراً للأوقاف المصرية، إلا من خلال بعض المناسبات الدينية التي كان يخطب فيها بحضور قيادات الدولة، وعلى رأسهم الرئيس السيسي، الذي اختاره مستشاراً دينياً له، ولأن "الخُطب" عادة لا تُظهر الأفكار الحقيقية، كان كتابه الذي أخذته في ذاك اليوم، والذي يحمل عنوان "الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين"، فرصة جيدة لمعرفته أكثر، رغم تراثية اسم الكتاب، ورغم توجّسي من عناوين "الحق المبين " و"حسم الجدل" وكل ما يشير إلى احتكار الحقيقة.
لا يضيّع الأزهري الوقت، فمنذ الصفحة الأولى في الكتاب، وهو يحاول تأصيل جذور الفكر التكفيري، ويُركّز سرديته على سيد قطب، باعتباره أساس التيارات المتطرّفة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، وبحد وصفه في ص23، فإن التكفير ظاهرة موجودة في كل العصور، وكان يظهر ويموت، حتى جاء قطب، فرعى تلك البذرة ونمّاها فلم تندثر، ثم تطرّق بعد ذلك إلى مفهوم الحاكمية عند قطب، وتفسير الآية الكريمة "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
لا يضيّع الأزهري الوقت، فمنذ الصفحة الأولى في كتابه "الحق المبين"، وهو يحاول تأصيل جذور الفكر التكفيري، ويُركّز سرديته على سيد قطب، باعتباره أساس التيارات المتطرّفة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن
ولتوضيح الفكرة أكثر، أعدّ "الأزهري" جدولاً مُكوّناً من خانتين، خانة فيها شيوخ قديمون ومعاصرون، رفضوا اعتبار تلك الآية دليلاً أو مبرّراً لتكفير المجتمع، وخانة ثانية، يقف فيها سيد قطب وحيداً، باعتباره استند على الآية كركن أساسي في منهجه التكفيري، وحتى هذا الجزء، أنا متفق مع الأزهري كون "قُطب" تكفيرياً من الطِراز الأول، لكن ما لا أتفق فيه معه، أن بعض من وضعهم في خانة "الشيوخ المعتدلين" هم تكفيرون، مثل قطب تماماً، بل وأحياناً أشد منه.
مثال على ذلك، الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية في الفترة من (1993-1996)، والشيخ الشعراوي، وزير الأوقاف المصري في الفترة من (1976-1978)، وهما من وضعهما الأزهري في خانة المعتدلين، وصحيح أن كليهما لم يصفا المجتمع بـ "الجاهلية"، ولم يناديا بضرورة إقامة "الدولة الإسلامية" كما فعل قطب، لكن هذا لا يعني أن الشيخين لهما أفكار تنويرية، فـ "بن باز" على سبيل المثال، من أنصار حدّ الردّة، وبالتالي فهو يرى ضرورة قتل كل من ترك الدين الإسلامي في حالة رفضه الاستتابة، أما الشعراوي فكان أكثر تكفيراً، حين ذكر أن تارك الصلاة ولو عن كسل، يُستتاب وإن لم يلتزم يُقتل، وبالنظر إلى ضحايا قطب أو الشيخين، لن تجد فرقاً، بل أزعم أننا لو فتشنا عن باقي شيوخ "خانة المعتدلين" بحسب الأزهري، لرأينا كثيراً من تلك الفتاوي التي تؤكد أنه لا فرق بين الخانتين، فجميعهم أباحوا دم الجميع.
النقطة الثانية، التي استوقفتني في كتاب "الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين"، هو تركيز د. أسامة على مخالفة قطب لـ "رأي الأئمة وشيوخ المسلمين"، وهي نقطة أعادها كثيراً ليُثبت تطرّف قطب، فيما كان تساؤلي: هل يدينه لأنه خرج عمن سبقوه؟ إن ذلك في حد ذاته ليس فيه أي عيب، بل أمر مطلوب للتجديد، إذ ما الفائدة في أن أكرّر كلام السابقين؟
وهذا يأخذنا إلى النقطة الثالثة، التي ذكرها في ص43، والذي أوضح فيها، أن التكفير له ضوابط مشدّدة، مستدلاً بقول الإمام الباقلاني: "ولا يُكفّر بقول أو رأي إلا إذا أجمع المسلمون على إنه لا يوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك"، كما استدلّ بقول الإمام ابن حزم: "والحق هو أن كل من ثبت له عقدة الإسلام، فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع"، وهكذا باقي الاستدلالات التي خرجت منها بحقيقة واحدة، أن الدكتور أسامة الأزهري لا يمانع التكفير، واختلافه مع "قطب" ليس أكثر من اختلاف حول الآلية وعدد المؤيدين للحكم على الإنسان في دينه المفترض أنه بينه وبين الله فقط.
بالطبع هناك نقاط أخرى، يُمكن طرحها في مؤلف مفترض أنه يردّ على "من تلاعب بالدين"، أولها استعانة الأزهري بكثير من الأحاديث النبوية التي تدعوا للسماحة، والتي وردت في "صحيح البخاري"، وهذا الصحيح هو نفسه الذي حوى أيضاً بعض الأحاديث التي استند إليها "قطب" في التكفير، تماماً كنقطة أخرى، وهي أن وزير الأوقاف الجديد لم يُقدّم تفسيراً مختلفاً للآيات القرآنية، واكتفى بالقول إن "شيوخ الأمة" قدّموا تفسيرات أرحب دون ذكرها.
الدكتور أسامة الأزهري لا يمانع التكفير، واختلافه مع "قطب" ليس أكثر من اختلاف حول الآلية وعدد المؤيدين للحكم على الإنسان في دينه المفترض أنه بينه وبين الله فقط
لو كان "الأزهري" يريد الرد على من تلاعب بالدين حقاً، لوضع كل شيوخ التكفير، وعلى رأسهم سيد قطب، في خانة، وأمامهم خانة أخرى فيها أسماء مفكرين، مثل نصر حامد أبو زيد، وفرج فودة ومحمد أحمد خلف الله، وطه حسين، وغيرهم، ممن تناولوا قضية "التكفير" وقدّموا تفسيرات وسرديات ليس فيها حُكم على دين أحد، ولو كان يريد أيضاً لتناول السياق التاريخي للآيات ليُثبث أنها كانت تليق بعصر فقط لكنها لا تليق بآخر، وألف طريقة أخرى كانت يمكن أن تكون ردّاً فعلاً على من "تلاعب بالدين"، لكن وزير الأوقاف الجديد، لم يختلف كثيراً عن ما نعيشه، وأقصد الحكم على الأشخاص لا الأفكار، فإن كان الشخص من المرضى عنهم سلطوياً، مثل الشعراوي وبن باز وغيرهم، فإن أفكارهم يتم التغاضى عنه، أما إذا كان مغضوباً عليه من السلطة، فيجب وضعه في خانة جدول منفرد.
وأخيراً، أستطيع القول إن أفكار د. أسامة الأزهري، ليست إلا معبّراً عن توجّهات الحكومة والسلطة التي تمثلها، وهي سلطة لم تتورّع عن إزالة مقبرة طه حسين من أجل طريق عام، وبتعيينها "الأزهري" تُكمل مسيرتها في التأكيد أن "الآخر" الوحيد المقبول لديها هو "الآخر المؤيّد" الذي لا يتناول السياسة من قريب أو بعيد، أما ما دون ذلك، فالساحة مفتوحة لمن يريد "التكفير بالإجماع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.